الموضوع: اعتراف...
عرض مشاركة واحدة
قديم 16 / 02 / 2017, 54 : 12 AM   رقم المشاركة : [1]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

اعتراف...

[align=justify]وأنا بكامل وعيي، رأيتُ كل ما حدث.. أقسم أنني لم أكن أحلم، ولا كنت مخموراً، ويشهد لي جميع الذين عرفوني بأنني راجح العقل وافر الذكاء، بل وحكيم أيضاً، وهي شهادة كافية لتؤكد أنني لست مخبولاً ولا مجنوناً..
نعم رأيت كل ما حدث بأمِّ عيني، وما زلتُ أصرُّ على أن ذاك الذي حدث، على الرغم من غرابته الشديدة، قد حدث على أرض الواقع، وليس في أجواز الخيال والوهم..
ما زلتم غير مصدقين؟ من حقكم ألا تصدقوا ما هو أغرب من الخيال، ولو أنني لم أره بعيني لرفضت تصديقه مثلكم، ولكن ما العمل وقد رأيته رأي العين؟
على أي حال لنَعُدْ بالقصة إلى بدايتها، لنحللها معاً، فربما يعثر أحدنا على رأس الخيط الذي يُوصلنا إلى تحليل غرابة ما حدث، ويفكّ لغزه، ويكشف سرَه..
في ذلك الصباح الشتائي البارد، وأنا في طريقي المعتاد إلى عملي، استوقفني رجلٌ لا أعرفه.. لم تكن ملامحه بالمألوفة كأيٍّ من البشر العاديين الذين نصادفهم.. كان فيه شيء ما غريب.. هل أقول إن هذا الشيء في العينين ووميضهما غير العادي؟ ربَّما.. أم تُراه في شكل الوجه الذي بدا لي في تلك اللحظة منفراً إلى حد ما؟ ربما..
لم يكن في الفم سوى سن واحدة تبدو بوضوح حين يتكلم أو يضحك وسط فراغ غريب.. وكذلك الصوت، كان أقرب إلى صوت رنين وعاء نحاسي.. لكن كل هذه العلامات الفارقة والغريبة، يمكن تجاوزها، حين يصل الأمر إلى الكلمات التي ينطق بها..
فبحركة بدت لي غير مهذبة من شخص لا أعرفه ولم أعرفه في حياتي من قبل، وضع يده المعروقة المغطاة بشعر كثيف على كتفي، وكأنه صديقي منذ أن وُلِدت، ثم راح يُحدثني بتلقائية وعفوية ودون أيِّ حرج قائلاً:
- لقد قتلتُها.. نعم أنا الذي قتلتُها بيدي هاتين.. وصدقني لا أشعر بأيِّ ندم على قتلها، ولا بأيِّ تأنيب ضمير أو إحساس بالذنب.. بل بالعكس تماماً، أنا أشعر بسعادة غامرة لأنني قتلتُها.. لقد كانت فاسدة وحقيرة وسيئة أكثر بكثير مما تصور..
وهَمَمْتُ بأن أقاطعَه سائلاً مستغرباً: عمن تتحدث؟ لكنَّه لَوَّحَ لي بيده المعروقة الغزيرة الشعر أن اصمت! فانصعت إليه دون أيِّ اعتراض؛ فأكمل يقول، وقد دَاخَلَ صوتَه فرحٌ بدا لي طفولياً:
- لقد تحمَّلْتُ عشرتَها، وصبرتُ على أذاها لي أكثر من نصف قرن.. ألا ترى كم هو زمن طويل ذلك النصف قرن..؟ وطيلة تلك الفترة كنتُ أتمنى لو أخنقها بيديّ هاتين، لكنني كنت أتراجع في اللحظة الأخيرة خائفاً، وأُقرِّر إعطاءها فرصة جديدة.. لكن الحقيرة بنت الحقيرة كانت تعتبر تراجعي عن قتلها ضعفاً مني، فتتمادى أكثر في إيذائي وتعذيبي حتى عِيلَ صبري تماماً، فقررتُ قتلَها في تلك الليلة الرائعة..!
صمتَ لحظة كمن يسترجع ذكرى مذاق شراب لذيذ شربه ذات يوم، أو مذاق طعام شهي مازال أثرُه في فمه، ثم قال بنبرة وشَتْ باستمتاعه في سرد ما يقوله لي:
- لقد انتظرتُها حتى غرقت في النوم، متظاهراً بالنوم قبلها؛ وما إن اطمأننتُ إلى نومها، حتى انسللتُ من تحت اللحاف، ومضيت إلى المطبخ فأحضرتُ حبلاً قوياً، لَفَفْتُه على عنقها بهدوء شديد كي لا تستيقظ؛ وما إن اطمأننتُ إلى أن الحبل تَسَوَّرَ عنقَها، حتى جذبتُه بكلِّ ما أوتيتُ من قوة، وخنقتُها.. ارتعشَتْ قليلاً، قاومَتْ، لكنَّها في النهاية استسلمَتْ لقَدَرِها، وماتتْ تاركةً في عينيها الجاحظتين نظرةً ملؤها الاستغراب لاستطاعتي الإقدام على قَتْلِها بدمٍ بارد، ودون أن يَرِفَّ لي جفن، مع علمها الذي يبلغ حدَّ اليقين بأنَّني أحبُّها حبّاً لا يعدلُه حبُّ مخلوق لمخلوق على ظهر الأرض، منذ أن خلق الله آدم وإلى يومنا الحاضر..!
قال ذلك، ثم تراجَعَ خطوةً إلى الوراء، ثم نظر في عينيّ مباشرةً، ثم قال لي متابعاً:
- هذه يا سيدي قصتي التي انتظرتُك طويلاً لأرويَها لك، لقناعتي بأنك الوحيد الذي يمكن أن يفهمني ويُقَدِّر دوافعي إلى قَتْلِ تلك الحقيرة، وأن يُبَرِّئَ ساحتي ويعفو عني..
لدى سماع كلماته الأخيرة، أحسستُ بغضب شديد مشوب بكثير من الاستغراب وغير قليل من الخوف، فصرختُ به مازجاً غضبي واستغرابي وخوفي بنبرة صوتي المرتفعة:
- أنا لستُ قاضياً يا هذا..
ودون أن يُبارحَه هدوؤه، قال لي:
- أعرف.. ولكن بالنسبة لي أنت القاضي الوحيد الذي يمكن أن أثقَ به وبعدله..!
- ولكن ماذا يُفيدك أن أقتنع بدوافعك طالما أنني لستُ الذي سيحكم عليك؟
- لا يهم. أنت فقط أخبرني ألستُ مُحِقّاً بقتلها؟
وبكثير من الغضب والضجر والتبرُّم، صحتُ به مجدداً:
- لكن من هي تلك التي تتحدث عنها، وتقول لي إنك قتلتها؟
وكأنني فاجأتُه، فتح عينيه وفمه استغراباً، وهو يسألني:
- ألم تعرفها بعد؟!
وبنفس القدر من الاستغراب، أجبتُه:
- لا..
- يا لكَ من غبي..!
- أرجوك.. لا داعي لقلَّة الأدب في مخاطبتي..
- حسناً… أنا آسف..
- حسناً إذاً، أخبرني عمن تتحدث أولاً؟
- عن نفسي التي بين جَنْبَي..!
- ماذا؟
صحتُ، وقد بلغ استغرابي وغضبي منتهاهما، ورحت أحدق في وجه الرجل وعينيه محاولاً التأكُّد إن كان مجنوناً أم لا، فإذا به، وقد رآني أنظر إليه على ذلك النحو، يُغْرِبُ في الضحك من تصرفي وبحثي، ثم يقول، وكأنه قرأ ما كان يجول بخاطري:
- لا لستُ مجنوناً.. أنا رجل في كامل قواي العقلية..
- لنفترض.. ولكن يبقى السؤال الآخر قائماً..
- أيَّ سؤال تقصد؟
- لماذا اخترتني من دون الناس جميعاً لتُخبرني بقصتك الغريبة السخيفة هذه؟
- لأنَّكَ.. لأنَّكَ…
لم يُكمِل، بل ابتسم لي ابتسامة غامضة كابتسامة الجوكندا، ثم تبخَّر من أمامي دون أن يترك لوجوده أيَّ أثر.. [/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع محمد توفيق الصواف
 لا عِلمَ لمن لا يقرأ، ولا موقفَ لمن لم يُبدِ رأيه بما قرأ.
فشكراً لمن قرأ لي، ثم أهدى إليّ أخطائي.
محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس