عرض مشاركة واحدة
قديم 27 / 02 / 2017, 23 : 01 PM   رقم المشاركة : [1]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

راهن العالم الإسلامي/افصل 3/ضعف الثقافة الإسلامية المعاصرة وتخلُّفُها

[align=justify]أشرتُ في بداية هذا الفصل، إلى أَنَّ تنوُّع ثقافات المسلمين كبيرٌ بقدر تنوُّع أعراقهم والبيئات التي عاشوا فيها ماضياً، والتي يعيشون فيها راهناً؛ وهذه حقيقةٌ يمكن للباحث أن يَلْحَظَهَا، بيُسْـرٍ، لدى معاينته مجتمعات المسلمين القديمة وما سادها، والمعاصرة وما يسودها، من عادات وتقاليد وأعراف، وما يتحكَّم بأهلها من منظومات أخلاقية، وما يدور على ألسنتهم من حكم وأمثال، وما ينطقون به من لغات، وما يتوارثونه من آداب وفنون ومعتقدات رسمية وشعبية..
ولعلَّ ممَّا لا يمكن نفيه، أو حتى مجرد التشكيك فيه، أَنَّ الإسلام العربي الأصل والجذور واللغة، قد ساهم، في فترات قوته، مساهمة كبيرة، استمرت لقرون، في توفير المناخات الملائمة لتلاقح ثقافات المسلمين المتنوِّعة، على اختلافها، ولتلاقيها وامتزاجها، في بوتقة تعاليمه ومبادئه، فكانت النتيجة أن ارتقى بها جميعاً، وأثراها جميعاً، بما وفَّره من إمكانياتٍ لجعل التقائها ببعضها التقاء تكاملياً لا تصادمياً، تغتني به كلٌّ منها بما وَفَدَ إليها من الباقيات.
وعلى هذا، يمكن القول إنَّ مصطلحَ الثقافة الإسلامية مصطلحٌ شموليٌّ بالغُ الغنى والتنوُّع، لاشتمال ساحته الدلالية على كلِّ ثقافات المسلمين، في ناتجِ تلاقيها وتلاقحها، على مرِّ العصور التي كان فيها الإسلام قويَّ الحضور في نفوس غالبية أتباعه وسلوكهم، تجاه بعضهم وتجاه الآخرين..
وكونها ثقافة شمولية التَقَتْ، في محيطها، ثقافات المسلمين المختلفة التقاءً تكاملياً، يعني، بالبديهة والمنطق العقلاني، أنها لم تكن ثقافة سكونية جامدة منغلقة، كما يفتري عليها أعداؤها، بل كانت، كما تشهد آثارها التي وصلت إلينا، في مختلف الميادين، ثقافة متطورة مرنة منفتحة ديناميَّة متحوِّلة باستمرار، تماماً كما كان المسلمون، في أوج قوتهم واتحادهم وازدهارهم؛ أي كانت نقيضَ ما هي عليه اليوم، بعدما صار أصحابُها، بتمزُّقهم وضعفهم وتخلفهم، نقيضَ ما كان عليه أسلافهم. وهذا بديهي لأنَّ القوة منظومة متكاملة، وكذلك الضعف؛ فالقوي يكون قوياً في كلِّ شيء ومن كلِّ النواحي، وكذلك الضعيف يكون ضعيفاً في كلِّ شيء ومن كلِّ النواحي. وبالتالي، يصعب الاقتناع بوجود حضارة قوية عقيدياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً وضعيفة ثقافياً، كما يصعب الاقتناع بالعكس.
في ضوء افتراض صحة هذا المعطى، وعلى أساسه، ينبغي أن تتمَّ مقارنة ما كانت عليه ثقافة المسلمين، في عصور قوتهم وازدهارهم، بما آلت إليه ثقافة خلفِهم المعاصرين؛ لا بهدف تمجيد ثقافة المسلمين الأوائل وتقديسها وتصنيمها في (تابو) الادعاء بأنها ثقافة كاملة صالحة لكل زمان ومكان، ولذلك لا يجوز تجاوز معطياتها وإبداعاتها ونتاجاتها ورموزها، بل بهدف بيان مصادر قوتها وازدهارها وقدرتها على الاستمرار، ثم بيان أسباب ضعفها وانحدارها إلى الدرك الذي بلغته، في راهننا.
في الماضي، كانت الثقافة الإسلامية، بحيويتها المذهلة وبثقة أصحابها بأنفسهم وبها، ذات قابلية للانفتاح غير المحدود على ثقافات الآخرين، وذات قدرة بالغة على التأثير في تلك الثقافات تأثيراً إيجابياً يهدف إلى إغنائها لا إلى طمسها بمحوِ خصوصياتها.. وبالمقابل، كانت تلك الثقافة الإسلامية نفسُها قادرةً على التأثُّر بثقافات الآخرين تأثُّراً إيجابياً أيضاً، غايته الاغتناء بنتاجاتها وتجاربها، دون تنازلٍ عن الهوية الإسلامية المميِّزة أو تفريط بخصائصها وأصالتها.
أما ثقافة المسلمين المعاصرين، فذات وجهين متناقضين، ولكن كليهما جامد؛ وجهٌ يُقدس ثقافة السلف ويصـرُّ على تقليدها دون أيِّ إضافة جديدة، بحجَّة الحفاظ على الأصالة والعراقة القوميتين والدينيتين، ووجهٌ يصـرُّ على ضرورة نبذ تلك الثقافة، بكل ما فيها من كنوز، والتحوُّل إلى مجردِ تابع لثقافات الآخرين، ولاسيما الثقافتين الأوروبية والأمريكية، بغضِّ النظر عن ملاءمة مضامين هذه الثقافات ورموزها ومعطياتها وأهدافها لمجتمعات المسلمين ومعتقدهم وبيئاتهم.
وبقدر ما كانت ثقافة المسلمين القدامى تكاملية غنية، بقدر ما صارت ثقافة المسلمين المعاصرين تنابذية تصادمية، إذا جاز التعبير، ضعيفة ضحلة ومتخلفة بقدر ضعفهم وتخلفهم، مشتتة متفرقة كَتَشَتُّتِ أصحابها وتفرقهم وتنابذهم. حتى ليمكن الزعم أَنَّ لكل بلد إسلامي اليوم، ثقافته التي لا تمتُّ بصلة إلى ثقافات البلدان الإسلامية الأخرى، ولو في إطار الملامح العامة على الأقل.
وقد زاد هذه الحال المتردِّية تردِّياً انعدامُ التواصل بين ثقافات المسلمين، حتى الناطقين منهم بلغة واحدة كالعربية. ففي الوطن العربي المعاصر مثلاً، بونٌ شاسع بين ثقافة المشـرق وثقافة المغرب، ثم بين ثقافة كلِّ قطر عربي وبقية الأقطار، بدليل أَنَّ معظم مبدعي أيِّ بلد عربي مجهولون، أو شبه مجهولين، في سائر البلدان العربية الأخرى.
ولعلَّ من الغريب المثير لكثير من الدهشة والتساؤل، أن تكثُر، في الحضيض الثقافي الراهن الذي يعيشه العالم الإسلامي الممزَّق، الدعواتُ إلى هجر العربية الفصحى، حتى في بعض أوساط أصحابها من العرب المعاصرين أنفسهم، مع أنَّها السمة الوحيدة الباقية التي تُؤشِّر على أنَّهم كانوا، ذات يوم، مع المسلمين غير العرب، أمةً واحدة، وأنَّها الأمل الوحيد الباقي لاحتمال عودتهم أمةً واحدة من جديد.
وبالتأكيد، لا أَنْسِبُ للعربية هذه القدرة والمكانة العالية، من منطلق كوني عربياً، ولا من منطلق الرغبة بمبالغةٍ لا رصيد لها في الواقع، بل من نتائج المعاينة الدقيقة والموضوعية لسيرورة اللغة العربية، طيلة القرون الماضية التي يُؤلِّف مجموعُها التاريخ الإسلامي.. إذ تُنبئنا تلك السيرورة، أنَّ العربية ظلَّت، إلى ما قبل عصر الانحطاط الراهن، قاسماً مشتركاً بين جميع المسلمين وعاملَ توحيد لهم، بقدرتها على اجتياز كلِّ الحدود التي تفصل بينهم، لتكون لغةً رئيسة للعرب منهم، ولغةً ثانية لها قداسة كبيرة، إلى جانب اللغة القومية الأصلية، لغير الناطقين بها من المسلمين، بوصفها لغة القرآن/كتابهم المقدس الوحيد، ولغة نبيهم، صلى الله عليه وسلم، وما صحَّ عنه من أحاديث شريفة، تعدُّ المصدر الثاني، بعد القرآن، لتعاليم دينه..
وهكذا، وبتأثير المواقف المتعصبة للمسلمين المعاصرين، سواء منهم المتمسكين بالثقافة الإسلامية القديمة أو الرافضين لها؛ وبتأثير التشظيات القومية واللغوية والأيديولوجية التي راحت تعصف بهم، ثم بتأثير تعاظم القطيعة التي حلَّت بين شظاياهم؛ لم تعدْ الثقافة الإسلامية المعاصرة ثقافةً ضعيفةً فحسب، بل غدت ثقافةً جامدة أيضاً تفتقر إلى القدرة على التطور والنماء، سواء كانت سلفية التوجُّه والأهداف والطابع أم مقلِّدة لثقافة الآخرين؛ كما غدت، بتياريها السلفي والحداثوي معاً، ثقافة تابعة لا أصيلة، لأن كلا تياريها هذين مقلِّد لا مجدِّد، تابعٌ لا مُبدِع..
ولأنَّ التقليد والتبعية يُحتِّمان على أصحابهما المراوحة فوق أرضية الأصل الذي يُقلِّدونه أو يتبعونه، غدت الثقافة الإسلامية المعاصرة، بتياريها السلفي والحداثوي أيضاً، ثقافةً سكونية، لافتقارها إلى قدرة الانفتاح الإيجابي على الاتجاهين السلفي القديم والوافد الحديث معاً.. ولمراوحتها القسـرية بين التقليد والتبعية، غدت كذلك ثقافة متأثرةً لا مُؤثِّرة، ضحلة لا عميقة؛ وأخيراً، ولانحصارها ضمن الحدود الجغرافية لبلدان منتجيها ومشاكلهم وهمومهم وآمالهم وآلامهم، غدت ثقافةً ضيقة الأفق ضعيفة الانتشار حتى فيما بينهم، ثم شبه مجهولة، وشبه مهملة بين غيرهم من أصحاب الثقافات المعاصرة.
وبعد، فعلى خلفية الاعتقاد بصواب هذا التوصيف لحال الثقافة الإسلامية المعاصرة، ثمة سؤال يبرز بقوة: ما أهم الأسباب التي أدت إلى إضعاف الثقافة الإسلامية، وإيصالها إلى هذا الحدِّ المزري من والتخلف والتهميش؟ وهل هذه الأسباب داخلية خاصة بالمسلمين ونابعة من سلوكهم وحدهم، أم خارجية، أم هي مزيج من الداخلي والخارجي معاً؟
[/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع محمد توفيق الصواف
 لا عِلمَ لمن لا يقرأ، ولا موقفَ لمن لم يُبدِ رأيه بما قرأ.
فشكراً لمن قرأ لي، ثم أهدى إليّ أخطائي.
محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس