الموضوع: همسات دمشقية
عرض مشاركة واحدة
قديم 29 / 06 / 2017, 56 : 02 AM   رقم المشاركة : [58]
محمد الصالح الجزائري
أديب وشاعر جزائري - رئيس الرابطة العالمية لشعراء نور الأدب وهيئة اللغة العربية -عضو الهيئة الإدارية ومشرف عام


 الصورة الرمزية محمد الصالح الجزائري
 





محمد الصالح الجزائري has a reputation beyond reputeمحمد الصالح الجزائري has a reputation beyond reputeمحمد الصالح الجزائري has a reputation beyond reputeمحمد الصالح الجزائري has a reputation beyond reputeمحمد الصالح الجزائري has a reputation beyond reputeمحمد الصالح الجزائري has a reputation beyond reputeمحمد الصالح الجزائري has a reputation beyond reputeمحمد الصالح الجزائري has a reputation beyond reputeمحمد الصالح الجزائري has a reputation beyond reputeمحمد الصالح الجزائري has a reputation beyond reputeمحمد الصالح الجزائري has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: الجزائر

رد: همسات دمشقية

[frame="10 98"][align=justify]
الهمسة 7

خرجتُ إلى ظاهرها، أُريدُ استقبال رمضان هذا العام، وفي النفس أشواقٌوأحزان.. فإذا بها سبقَتْني مُلْتَفَّةً بعباءةٍ من دعوات أبنائها وبناتها،تفوح كلماتُها محبةً انتشر عطرُها في كلِّ أرجاء المكان..
يا الله كم بَدَتْ لي جميلةً في ذلك الموقف.. حتَّى أنَّني لشدة انبهاريبجمالها نسيتُ لِمَ خَرَجْت، لولا أنْ أعادت لي وعيي هامسةً بودّ:
-
كُفَّ عن النظر إليَّ هكذا، واملأ عينيك من روعته، فها قد أتى..
نظرتُ إلى حيث أشارت، فرأيتُه يُسرعُ نحوها، فاتحاً ذراعيه لعناقها.. وفيلحظة فريدة، التقى المكانُ الأقدمُ بالزمان الأطهر في عناقٍ يقطر صُوَراًمن ماض شامخ تمتزج بصُوَرٍ أخرى مازالت تتشكَّل بُشرى في رحم غدٍ قريبقادم..
لم يطلْ العناق، فقد بدا رمضان مُتَعَجِّلاً الوصولَ إلى أسواقها العريقةليشتري بكلِّ ما أُوتيَ، من زكاةٍ وصدقات، طعاماً يُشبِع فقراءها وكساءًيستر عريهم ويُفرِحُ قلوبَهم..
لكنْ... وعلى غير عادته، عادَ السنةَ من مدنها وأحيائها سريعاً.. جلس علىأرضها حزيناً مُثقَلاً بما اشتراه.. أسند ظهره إلى بابها العتيق وبكى..
اقتربتُ منه مُشفِقاً وسألتُه عمَّا يُبكيه، فأخبرني أنَّه يبكي عجزَه عنتلبية طلب السوريين، هذه السنة، بعدما رَدُّوا ما اشتراه لهم من طعاموألبسة، على الرغم من حاجتهم الماسَّةِ لها، لأنَّهم لم يجدوا في معظمهاأثراً لمحبة مَن أعطوه ثمنها وإسلامهم، كما لم يَشمُّوا رائحةً لإنسانيةٍتفوح منها..

الهمسة 8

خرجَت بليلٍ، لتجمعَ بضعة أعواد يابسة تُشعلُها لتطهوَ على نارها ما يُسكتُ صراخَ الجوع المُنْبَعِثِ من بطونِ صغارها..
وكما تفعلُ الساحراتُ، في الخرافات القديمة، راحتْ تُمسك كلَّ عودٍ علىحِدَة، وتتلو عليه أدعيةً لا يُلْهَمُها إلَّا اللاجئون السوريون، آملةً أنتَحْدُثَ معجزةٌ تجعل حزمةَ الأعشاب التي ستطهوها للجائعين مُشبِعَة..
وبعد أن اطْمَأَنَّتْ إلى أنَّ دعاءها بلغَ السماء، أشعلت الأعوادَ تحتقِدْرِ ماء كبيرة، فانبعثَتْ من اشتعالها غيمةُ عطرٍ بالغة التأثير،اجتذبَت جَوْعَى المخيم، فهرعوا إليها يتساءلون: ماذا تُوقدين؟
فأشارت إلى الأعواد خائفة.. فلَمَّا رَأَوها تَتَشَكَّلُ طيراً من نار لهوجهُ سوريا الأصيلِ وروعتها العريقة، تراجعوا أيضاً خائفين..
فلما رأوا نارَ الطيرِ تخبو رويداً رويداً حتى صار الطيرُ رماداً، حزنوا.. لكنَّ حزنَهم سرعان ما تَحَوَّلَ دهشةً، حين رأوا ذاك الطيرَ نفسه ينهض، منرماده، حيّاً قويّاً مُعافى من جديد..
سألوه عن سرِّه، فأخبرهم أنَّ اسمَه (الفينيق)، وأنَّه طائرُ سورياالأسطوري، ورجاهم الَّا يخافوا ولا يحزنوا، مهما اشتَدَّتْ صروفُ الدهرِعليهم، لأنَّ فيهم سِرَّه، كما يُؤكِّدُ تاريخهم الذي يروي أنَّهم في كلِّمرةٍ تُحيلُهم المأساةُ رماداً، إذا بهم، من رمادهم، ينهضون شباباً قائداً،من جديد، وَسَادَةَ دنيا ودين..

الهمسة 9


على مُنْعَطَفِ تاريخها الذي نَشَرَتْ أعوامَه السبعة آلاف على كتفيهاخلوداً زادَ شبابَها الأبدي أَلَقاً، التقيتُها، فهمسَتْ لي بسرٍّ جديدٍ منأسرارها:
-
(أترى إلى ياسَمِينِي الأبيض هذا... إنَّه ذاكرتي الخالدة على مرِّالعصور... بياضُه من نصاعة سِيَرِ عظمائي وعطرُه بعضُ طِيبِ أخلاقهموفِعالهم)..
أدهشَني قولُها..، ولكن ما أدهشنِي أكثر حفاظُها على ياسمينها ناصعَ البياضعَطِراً، رغم كثرةِ مَن عبرَ تاريخها من أصحابِ الفِعالِ السُّودوالسِّيَرِ النتنة..!
قَرَأَتْ دهشتي، فابتسمت، ثم قالت:
-
(نعم.. ما أكثرَ السَّيِّئِيْنَ الذين حاولوا جاهدين التسلُّلَ إلىذاكرتي الياسَمِينِيَّة وسُكْنَاها للتَّمتُّع بخلودِها، ففشلوا... أتعلمُلماذا؟ لأنَّ لهذه الذاكرة طبيعةً فريدة تُمَكِّنُها من عَرْضِ كلِّ مايَعْبُرُها من سِيَرٍ على معيار قِيَمِها الفاضلة النبيلة، فما تَلاءَمَ معهذه القيم أَثْبَتَتْه خالداً في بياضِها وعِطرِه، وما عَارضَ قِيَمَهاوخالَفَها أَلْقَتْهُ في سلة الإهمال مَنسيّاً.. وبهذه القدرة الفريدة،حافظَتْ ذاكرتي الياسَمِينِيَّة على نصاعة بياضها وطِيبِ عطرها)..
قالت ذلك، ثم أطرقتْ ملياً، ثم رفعت رأسها وسَأَلَتْني أن أُبلِّغَكم رجاءها:
(رِفقاً بزهراتي الجميلات وأكرموهُنَّ، فكلُّ واحدة نسخةٌ من سِيَرِ عظمائي تفوح بطِيبِ مآثرهم..)..

الهمسة 10

على ضِفَّةِ عُمُرٍ قد وَلَّى، جلسْتُ منهكاً ألتمسُ بعضَ الراحة منوَعْثاءِ رحيلٍ اضطراري في حاضرٍ مُعَبَّدٍ بالخوف والهَمِّ ومُلَبَّدٍبالقلق...
كان الجو المحيط بمجلسي على تلك الضفةِ مُغَبَّشاً بذكريات ترسم وجوهاًلأحباب من ذلك الزمن الذي مضى.. أحباب عشتُ أجمل عمري معهم، فَهَيَّجَ مرأىوجوههم شوقي إليهم ودفعني للسؤال ملهوفاً عنهم.. فأنبأتني مويجات ماضيّالمُتهالِكَة بِغنْجٍ أمامي، أنهم رحلوا جميعاً إلى حيث أُهْدُوا منالجَمالِ ما فاق ما سألوه في أدعيتهم..
فابتسمتُ مسروراً بالسعادة التي صاروا إليها، وراجياً موافاتهم إلى حيث أحظى، أنا أيضاً، بما يفوق أمنياتي..
وكأن مويجات العمر المُتدافعة أمامي قرأْنَ ما رجوتُ بخاطري، فتَضاحَكْنَوغَمَزْنَنِي عابثات ثم هَمَسْنَ لي بِودٍّ وهنَّ يَتَصَنَّعْنَ الاستغراب:
ـ ألا تظنُّ أنَّ الجمالَ الذي تمنيتَه في دعائك ثواباً، لهُ بعض ملامح حبيبتكَ دمشق؟
وبسؤال صاغَتْه بديهة العشق وعفويته، أجبتُ سائلاتي:
ـ أتَعْنِينَ أنَّ دمشقَ قد تكون إحدى جِنانِ الخلد؟!
الهمسة 11

ما إن دخلتُ مَخْدَعَ وحدتي، لِأَختلي بدموعي التي أُحبُّ أنْ أذرفَهابعيداً عن فضولِ الناس، حتى فاجَأَني اشتياقي إليهم يمتدُّ مسافةً بطولِعدد دموع أمهاتٍ سورياتٍ ثَكِلْنَ أولادهنَّ، وبطول آهاتِ آباءٍ كَسَرَتْالفجيعة كبرياءَهم فبكوا..
أمسكتُ شوقي للأُلَى رحلُوا، بِكَفَّيْ تَجَلُّدِي، محاولاً ألَّاأَنْهَارَ ضَعْفاً أمام رجولتي، فإذا بتَجَلُّدِي يفشلُ حين انعقدَتذكرياتي معهم سحابةَ عطر فاحتْ، في سماء وحدتي، عشقاً برائحة قلب مكسور..
وبطبيعتها اللطيفة التي تُمَكِّنُها من عبورِ الجدران السميكة لمخادعالوحدة التي يَخْتَلِي فيها الأُباةُ من أبنائها المكسورين، أحالَ دخولُهاوحشةَ وحدتي أُنساً..
مَسَحَتْ على رأسي مُواسيَّةً؛ وبصوتِها الودود هَمَسَتْ مُعاتِبَة:
-
إِلامَ تُخفي عشقكَ بعدما صار إدماناً؟ إلامَ، ودقاتُ قلبكَ الملهوف ما فَتِئَتْ تنسابُ دمعَ اشتياقٍ للأُلى رحلوا؟
فأَجَبْتُها:
إلى أنْ أَكُفَّ عن غَمْسِ يابسِ لقيماتي بدموع تَذّكُّرِي لما كانوا يُحبُّون من أطعمةٍ وأَشرِبَة..
إلى أنْ يَكُفَّ أنفي عن بَعْثِ روائحِهم ذكرياتٍ، في البالِ تَلَظَّى، كلَّما دخلتُ مكاناً جَمَعَني بهم، ذاتَ ماضٍ عَبَر..
إلى أنْ تَكُفَّ خطواتي عن الجري لاهثةً وراء صورهم، في كلِّ الشوارع والأزقة التي سرناها معاً ذات عُمُرٍ وَلَّى..
إلى أنْ تَكُفَّ شيخوختي عن خوفها من التَّجمُّدِ انتظاراً في جليد وحدتها،ثم ينتهي العمر، فيُدرِجوا عظامي الواهنة، في كَفَني، حسرةً على أنْ رحلتُولم أرَهُم..
قلتُ لها ذلك، ففاجأنا قلبي بالسجود آهاً ترجو اللهَ أنْ يكونَ اللقاءُ قريباً..
الهمسة 12
(كلّ عام وأنتم بخير)...
أمنيةٌ تأخَّرْتُ في إرسالِها لكمبسبب استغراقي في أحلام اليقظة، فأرجو المعذرة، وأرجو أن تكون ما زالتمقبولة لديكم، خصوصاً بعد أن أقُصَّ عليكم أهمَّ تلك الأحلام...
استيقظتُ قبيلَ فجرِ هذا العيد، لأجدَ نفسي أسبحُ في فضاء مُرهِقٍ منالوحدة، يمتدُّ من ذكرياتي إلى ذكرياتي.. ولأنَّني لم أستطع التخلُّصَ مناعتقاله لإرادتي وحركتي، إلَّا بشقِّ الأنفس، فقد أسرعتُ، فورَ خلاصي منه،إلى الماء أتوضأ لأذهب إلى صلاة العيد..
ارتديتُ ملابسي القديمة لعجزي، هذا العيد، عن شراء أخرى جديدة، ثم اتكأْتُعلى أمنياتي، ومددْتُ رأسي من نافذة اعتيادي، مُنادياً مَن اعْتَدْتُصحبتَهم لأداء صلاة العيد، ثم زيارة المقبرة، قبل الطواف على الأحياء منالأهل والأصحاب، فارْتَدَّ إليَّ ندائي صدى غُربةٍ قاهرةٍ ووجعٍ يكسرالقلب..
لكنَّني لم أستسلم لِرَجْعِ الصدى، بل تَوَسَّلْتُ لعينيَّ أن تُرسلَانظراتهما في أرجاء الفراغ، تبحثان بهما عن صُحْبَةٍ، أيّ صُحْبَة، غيرالذكريات والحسرة، فلم تَعُدْ نظراتهما بغير الخيبةِ تُخبرانني بها أنْ ليسغير اللاأحد يمكن أن يصحبني..
ولأنَّه لابدَّ مما ليس منه بُدّ.. حزمتُ أمري أخيراً، وتأبَّطْتُ ذراعَاللاأحد لأمضي بصحبته إلى صلاة العيد، قبل زيارة الأموات والأحياء..
مع أنَّ جميع من حضروا اجتماع العيد، لم يروه من قبل، فإنَّ أحداً منهم لم يستغرب صًحْبَتَه لي ولم يستنكرها..
للوهلة الأولى، أدهشني ذلك.. لكن دهشتي سرعان ما غادرتني حين غادرَنياللاأحد الذي رَافَقَنِي لِيَنْضَمَّ إلى أمثاله الذين كان كلٌّ منهم رفيقَواحدٍ من أهلي إلى مكان اجتماعنا..
نظرتُ إلى الحضور، وهم كلُّ مَن تَبَقَّى من أهلي على جغرافية وطنٍمَزَّقَتْه الفتن، فإذا بهم قليلٌ غادرَهم كثيرُهم لينتشرَ، قلوباًوأكباداً، على كامل جغرافيةِ الظلم العالمي.. دَقَّقْتُ النظر أكثر،فتهيَّأَ لي أنَّ شيخوخاتهم تُنذرُ باحتمال تَحَوُّلِ الوطن قريباً، إلىجغرافيةِ ذكرياتٍ تطوفُ دموعاً وآهات، في فراغ اللاأحد...
[/align][/frame]
توقيع محمد الصالح الجزائري
 قال والدي ـ رحمه الله ـ : ( إذا لم تجد من تحب فلا تكره أحدا !)
محمد الصالح الجزائري غير متصل   رد مع اقتباس