رد: الاعلام الفلسطينيون في الموسوعة الفلسطينية : الجزء الرابع
محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي ( 528 _ 607 هجري ) ( 1133 _ 1211 م )
أبو عمر المقدسي الحنبلي. واحد من كبار العلماء الحنابلة والزهاد. ولد بقرية جماعيل، كما جاء في المصادر القديمة وجماعين كما يحفظها أهل اليوم، قرب نابلس. وكانت المنطقة قد وقعت قبل ذلك بأربع وثلاثين سنة في أيدي الصليبيين الذين ابادوا سكان القدس وبعض المدن الفلسطينية بالذبح والتشريد. ولكنهم كانوا بحاجة إلى استغلال الأراضي الزراعية الواسعة فابقوا أهل القرى والدساكر على أرضهم، وقسمت اقطاعات على النمط الغربي بين النبلاء فكانوا يتقاضون من أصحاب الأرض والفلاحين الحقوق الإقطاعية اضعافا مضاعفة ويذيقونهم ألوان الضرب والاضطهاد والسجن والمذلة. وكان من نصيب جماعيل أن تكون في اقطاع باليان بن بازران أحد صغار النبلاء، وقد حكم الرملة ويبنى ( ابلين ) من سنة 549 هجري / 1154 م الى سنة 564 هجري / 1169 م .
ويبدو أن فتوة باليان جعلته شديد القسوة والأذى للمزارعين، فكانت ضرائبه أربعة أضعاف الضرائب المعتادة . وكان يعاقب بقطع الأطراف والسجن والتعذيب الشديد. فخرج الشيخ أحمد بن قدامة في السر مع بعض أهله فأوصلوه إلى دمشق ومكثوا معه ثلاثة أشهر تدبروا فيها أمر استقراره وأهله، ثم عادوا. وقد كتب الشيخ كتابا ارسله معهم إلى ابنه محمد ابي عمر يخبره فيه أنه استقر في دمشق ولن يعود وان على أهله أن يلحقوا به. وحين وصل هؤلاء إلى جماعيل اخفوا أمرهم. وبعد ليلة واحدة كانت الأسرة الواسعة قد اجتمعت من القرى المتعددة ومشت على الطريق بمعونة بعض الأدلاء . وتفادت جند الفرنجة عند نهر الشريعة ، وعبرته فوصلت إلى دمشق بعد ثمانية أيام وكان عدد هذه القافلة الهاربة قرابة 40 نفسا. وقد نزلت في مسجد بظاهر مدينة دمشق قرب الباب الشرقي يعرف بمسجد ابي صالح وتوالى بعد ذلك وصول الهاربين جماعة بعد جماعة وربما كان بعضهم يعود إلى الأرض المحتلة ليتزوج أو ليأتي بأب أو أخ ما يزال هناك. واستمر ذلك سنوات طويلة كانت جماعة جماعيل خلالها قطب الاجتذاب والتكاثر بما ينضم اليها من الأقرباء والمعارف الهاربين، ومن الزوار وطلاب العلم. ذلك أن الشيخ أحمد وابنه أبا عمر كانا من شيوخ الحنابلة وقد نزلا في مسجد ابي صالح لأنه في ظاهر البلد، ولأن المتولين على وقفه كانوا أسرة حنبلية. واشتهر أمر الجماعة المقدسية بالصلاح في دمشق، واعطاها نور الدين خطه بالبقاء والإشراف على المسجد واوقافه . ولكن كثرة عددها جعلت شيخ الجماعة يبحث عن مكان آخر للاستقرار فوجد في سفح جبل قاسيون المطل على دمشق مساحة جرداء فيها موضع مسجد عتيق ويمر في اسفلها نهر يزيد. وسرعان ما ابتنى فيها ثلاثة بيوت على شكل دير عرف بدير الحنابلة وكان يدعى في العصر المملوكي بالجامع المظفري نسبة إلى الملك المظفر الذي جدد بناءه. كما عرف بدير المقادسة ودير الصالحين . وهو جامع الحنابلة بدمشق اليوم . وتكاثرت زيارات الناس وطلاب العلم للشيخ أحمد وابنه أبي عمر، ولا سيما حين رأوا نور الدين بنفسه يزور الجماعة ويهدي اليها وتكاثرت الهدايا والهبات، وتكاثرت البيوت التي تبنى حولهم ، ولا سيما أن في المنطقة مواقع يتبرك بها الناس ( الكهف ، ومغارة الدم ، أو الأربعين ، وقبر ذي الكفل ) ولم تحل نهاية القرن السادس الهجري حتى صارت الأبنية حيا واسعا سمي الصالحية ( نسبة إلى هؤلاء المهاجرين الذين سكنوا مسجد ابي صالح ) وقد بنيت فيه مع البيوت بعض القبور الفخمة لكبار الحكام ( زوجة نور الدين، وصلاح الدين، والأمير جهاركس قائد صلاح الدين، والشيخ قيمر) وبعض المساجد وظهرت الحمامات والربط ودور القرآن والحديث والمدارس والزوايا والبيمارستانات، وصارت الصالحية خلال قرن بلدا في شمالي دمشق . لم يشهد الشيخ أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي صاحب النواة الأولى من الأبنية تطور الصالحية لأنه توفي سنة 558 هجري / 1163 م . وكان نور الدين بن زنكي قد بنى له جنوبي الدير عند ضفة النهر مدرسة صغيرة ليدرس فيها . فلما تولى مشيخة الجماعة ابنه أبو عمر محمد بن أحمد وتكاثر الوافدون للسكنى وطلب العلم بنى المدرسة التي هي شيخة المدارس في الصالحية، وقد عرفت بالمدرسة العمرية. بناها لصق الأولى على النهر بعد أن غطاه، وجعل فيها مسجدا وعشر خلوات للفقراء وديوان يكن وبئر ماء وسقاية، ودرس فيها المذهب الحنبلي أكثر من خمسين سنة . وقد رافق ظهور المدرسة العمرية على جبل دمشق نهضة علمية واسعة في المدينة فأقيمت المدارس الكثيرة ودور الحديث والبيمارستانات ، أقامها الحكام والأمراء والأغنياء والعلماء على السواء .وكان بعضها مدارس اوقفها بعض الأفراد على الحديث أو الفقه أو الطب ورصدوا لها الأوقاف الدارة . ولا شك في أن المدرسة العمرية التي كانت أحد العناصر والعوامل في النهضة الفكرية تدين بسمعتها وشهرتها لمؤسسها وواقفها الذي وصفتهالمصادر بأنه حفظ القران والفقه والحديث، وسمع الكثير وكتب الكثير. وكان إماما فاضلا مقربا زاهدا عابدا قانتا لله كثير النفع طلق الوجه ذا اوراد وتهجد واجتهاد وأوقات مقسمة على الطاعة من الصلاة والصيام والذكر وتعليم العلم والفتوة والمروءة والخدمة والتواضع. وكان عديم النظر في زمانه ويسمى أبو عمر في المصادر أحيانا بقاضي الجبل. وقد ظهر أثر ميزاته في الزهد والعلم والعبادة والخلق في مدرسته العمرية وفي سمعتها العلمية ، فإذا هي تجتذب اليها طلاب العلم، لا من مدينة دمشق فحسب، بل من كل مكان فيه حنبلي، حتى أضحت بجهود أبي عمر، ثم بجهود أولاده وأولاد إخوته من بعده، أكبر مركز علمي حنبلبي في العالم الإسلامي خلال القرنين السابع والثامن الهجريين وقد توسعت المدرسة العمرية وجدد بناؤها عدة مرات،
ونظمت فيها عشرات الدروس والحلقات والاسباع في مختلف ساعات النهار، وأدخل عليها بالتدريج تدريس المذاهب الإسلامية الأخرى : الشافعية ثم الحنفية ثم المالكية، كما عرفت أجيالا كثيرة من كبار العلماء كانوا يدرسون فيها أو يدرسون. ووهبت لها خزائن الكتب. واتسعت اوقافها وخيراتها ، فكان يفرق فيها من الجرايات على الفقراء الف رغيف من الخبز يوميا، ويطبخ اللحم في رمضان كل إفطار وفي الأعياد، وتوزع الحلوى في أيام معلومة. وكان لها وقف على قمصان الطلبة وملابسهم، على غسيل الفقراء، وعلى تسخين الماء وتوزيع الغذاء والكعك والصابون والحلوى واواني الطبخ والشرب على بيوتها هذا عدا النفقات المخصصة للمدرسين والجرايات عليهم .
توفي أبو عمر واضع الأساس الأول لهذا المركز الفكري الكبير عن ثمانين سنة، ودفن في قاسيون بجنازة قدر المشيعون فيها بعشرين ألفا .
يتبع
|