ولما كان هذا المفّكر/الناقد يرفض القومية والحماسة الدينية والنزعة الاستئثارية بوصفها
جميعا تجلّيات للفكر الانتمائي (1)،فإّنه يلجأ إلى هذه النزعة المنطلقة أساسا من الإدارك الواقعي
لقيمة الوجود الإنساني في فضائه الرحب، والمشفوعة بالإيمان بالعقل البشري القادر على سبر أغوار العقل البشرّي بحسب تعبير ليو شبتسر(2)، ويلتزم بهذه النزعة الت ازًما وجودًّيا، ويناضل من أجلها؛ لأنها الضامن للتشاركية الثقافية، والمخلّص للبشرية من عذاباتها الكثيرة، إذا كتب لهاّّّّ النجاح والانتشار.
لقد رأى سعيد إلى المفّكر الإنساني على أنه المخلّص للبشرية بوجه من الوجوه، وجهد في الإشادة بنماذجه العديدة وأماط اللثام عن هويته، وبين كثيرا من مسؤولياته، وحاول هو بنفسه أن يكون نموذجا من نماذجه تلك، وختم أعماله جميعا بكتاب الأنسنّية توكيًدا لذلك. وفي سبيل جلاء صورة "المفكر الإنساني لدى إدوارد سعيد" يتّخذ هذا البحث في المحاورالآتية أساسا له:
- هوية الناقد الأنسني . ّ - دور الناقد الأنسني . -أنموذج الناقد الأنسني /ّإدوارد سعيد في مشروعه الفكري والثقافي .
أّولّا : هوية الناقد الأنسني
يقول محمود درويش في قصيدته (منفى (3) طباق[إلى إدوارد سعيد]): "
والهوّية؟ّقلت
فقال : دفاع عن الذات ....
إن الهوية بنت الولادة لكنها
في النهاية إبداع صاحبها،لا
وراثة ماض، أنا المتعدد. في
داخلي الخارجي المتجدد ... لكنني
أنتمي لسؤال الضحية(4)
لعل أدق وصف لهوية المفّكر الإنساني أنها قيد الولادة، ذلك أن من يأخذ على عاتقه نبذ ّّّّّالتعصب وعدم الركون إلى الفكر الانتمائي، سيبقى وفّياّ لإنسانّيته، ومقدرا لفاعلّية فكره في أن يعيدالنظر بكل ما حوله من أفكار، دون أن يقع ضحية سلطة ما، أو أن يستلب لماض تاريخي، أولراهن جغرافي ، مع العلم أن دنيوية الإنسان وانسانيته، ومن ثََّم علمانيته، تقتضي بأن يبقى منغمسا ًّّّّّفي عالمه شاء أم أبى، وهكذا تقتضي النزعة الإنسانّية أن يبقى المفكر مقاوًما لكل حالات الانخداع بالسلطة أًّيا كانت تلك السلطة.ومثّل هذه الهوية - التي تبقى قيد الولادة - خير تمثيل نفر من الكتاب والنقاد والمفّكرينالإنسانّيين الذين عاشوا على الحافّة، كما عاش سعيد نفسه ، (6) وقّدموا نماذج للمنفّيين والمناضلينالإنسانّيين من مواقع متباينة، وفي موضوعات متعّددة، وقائمة أسمائهم تطول وقد عني سعيد بهم جميعا، ومنهم: جوزيف كون ارد، وايمي سي ازر، وثيودور آدورنو، وجورج لوكاتش، وماثيو آرنولد، و اريموند وليامز، وجلين جولد، ودانيل بارنبويم، ونعوم تشومسكي، واريك هوبزباوم، وغيرهم.
ولعّل الثلاثة الأكثر حظوة لديه بينهم، وهم الأوائل؛ الروائي والقاص الإنجليزّي من أصلبولندي جوزيف كونراد (1875-1924)صاحب أعمال روائية "قلبالظلم"و"نوسترومو"و"لورد جيم". واريك آورباخ (1884-1957) القانوني والناقد الأسلوبي ومؤرخ الأدب واللغويالإنساني الألماني اليهود ي الأمريكي الذي كتب أفضل نتاج أنسني، وأعظم كتاب في بابه في نصف القرن العشرين، هو كتاب "محاكاة: تصّور الواقع في الأدب الغربي" في أثناء إقامته في
إسطنبول خلل الحرب العالمّية الثانية (1946). والمؤرخ والمفّكر الإيطالي جامباتيستا فيكو ّّ(1744-1667) صاحب كتاب "العلم الجديد" الذي غدا بفضله من أكثر الفلسفة تأثيًار في مجالات العلوم الإنسانّية(7).
لقد بقيت هوية هؤلاء قيد الولادة؛ لأنهم عاشوا في المنفى بشكل أو بآخر، والمنفى قد يكون في انخلاع الإنسان من تاريخه ،أو من الجغرافيا آلتي ينشأ فيها باتجاه عالم آخر كالذي حدث مع كونراد الذي عرف الإنجليزية بعد سن الثامنة والعشرين وصارت لغة الكتابة الروائية لديه، وانتقل من فتى بولندي إلى كاتب روائي في ظل الإمبراطورية البريطانية العظمى، فما أن أتقن الإنجليزية حتى كتب أعماًلا عظيمة بها، وبقي يظّن الإمبريالّية محتومة على الرغم من كونه مضاًدا لها من نواح كثيرة(8).
********
1 ) الأنسنّية والنقد الديموقراطي، ص72.
(2 ) المصدر السابق، ص46.
(4 ) المصدر نفسه، ص 83.
(3 ) المصدر السابق، ص41.
(4 ) كزهر اللوز أو أبعد، محمود درويش، ط5، دار رياض الريس، بيروت 2005، ص183.
(5 ) الأنسنّية والنقد الديموقراطي، ص109-111. وانظر: العالم والنص والناقد، إدوارد سعيد، ترجمة عبد الكرريم محفوض، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2000، ص9-12.
(6) المصدر السابق، ص72، وص 109-138.
(7 ) مقالات وحوارات ، إدوارد سعيد، تقديم وتحرير ، محمررد شاهين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط1'بيروت 2004، 112-117،وص 172. وانظر: العالم والنص والناقد ، ص137-145، وانظر: الأنسنّية والنقد الديموقراطي ص 109. 138.
(8 ) العالم والنص والناقد ص 110-132-.وانظر : القلم والسيف ، إدوارد سعيد ، حوارات مع دافيد بارسرراميان، ترجمة توفيق الأسدي، ط2، دار كنعان، دمشق، 1999، ص26.