كذلك الأمر بالنسبة لآورباخ الذي هجر تخصص القانون بعد نيله شهادة الدكتواره فيه عام(1913) ليخدم في الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى ثم ليحصل على شهادة الدكتواره في اللغات الرومنسية، وهكذا أدت تجربة الحرب العنيفة وأهوالها إلى تغيير مهنته من القانون إلى الأدب، ووجد نفسه مع الحرب العالمية الثانية هارباً من النازية، تاركاً بلده ألمانيا ليقيم في إسطنبول الإسلامية، وليكتب عن الأدب الغربي، وعن دانتي المسيحي؛ وهو اليهودي الهارب من أوروبا النازية، والمتجه أخيرا إلى أمريكا، فجاء عمله الإنساني العظيم نتاج تناقضات هويته المتأرجحة بينالتاريخ والأدب والجغرافيا(1). وهكذا تكون كتابة كل منهما إنسانية؛ لأنها خاضعة للشرط الوجودي الإنساني، وكذلك تكونكتابتهما معّبرة عن قلق الهوية، وعن الشعور بالنفي لأسباب عديدة ومتداخلة. ولعل طباقا ظاهرا بين حالة كونكراد وآروباخ ، وحالة سعيد العربي الفلسطيني المسيحي الذي يعيش في أمريكا، مدافعا عن قضية فلسطين، منتصرا للعرب وللمسلمين، وملتزما بالأنسنية الأمريكية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. فهذا هو الملمح الرئيس لهوية المفكر الإنساني ومفارقتها، إنه يعيش خارج المكان، ويحاورالتاريخ عبر حوار مع الماضي والحاضر بحثاً عن الذات، ويحرص كل الحرص على التحرر من كل سلطة تريد له أن يعيش في نمط ثابت محدد، إنه يقف معارضاً لكل أشكال السلطة بحثاً عن نمط جديد من الحياة؛ لأن قلق الهوية قد نجم عن قلق وجودي تسبب به المنفى(2 ).
يشكل المنفى إذاً ملمحاً رئيساً لهوية المفكر الإنساني، مما يجعله حارساً للإنسانية من العذابات التي تقع على المنفي الذي يفقد بدوره الشعور بالقرابة، وينتزع من أحضان البنّوة التي يحظى بها الملايين من البشر، الذين يركنون إلى هذه الق اربة وتلك البنّوة في أنماط حياتية اركدة، قد تكرس الكسل والخمول، وقد تنتج التعصب، ولعل جحيم المنفى سيكون محركاً إنسانياً للبحث عن بديل للقرابة والبنّوة في إطار جديد هو التقّرب والتبّني(3)، وهذا ما يرتحل إليه المنفي لخلق عالمه الجديد. بحيث تصبح عذابات المنفى هي محرك الفعل الإنساني بحثاً عن زمن جديد، وشوقاً إلى عالم مثالي متغير يصنعه الناس بدلاً من أن يكّرسوا عالماً ظالماً يعيشون في ظله، ومما يؤسف له أن هذا التقّرب قد يرتكس بعد حين فيغدو حاملاً لرذائل الق اربة، وكذا التبّني يصير حاملاً لمساوئ البنّوة، وقد تؤدي بعض أنماط التقّرب إلى غربة المجتمع عن نفسه، كالذي يحصل حين يقلدالمغلوب الغالب، كما هو شأن دول العالم الثالث التي تقلّد الغرب الاستعماري الآن(4).
هوية المفكر الإنساني هي هوية متحولة وارفضة لكل الهويات القاتلة(5 بحسب تعبير أمين ّّّمعلوف الذي يقول" لا تعطى الهوية مرة واحدة والى الأبد، فهي تتشّكل وتتحّول على طول الوجود(6)" بناء على ذلك يغدو مستغرباً أن يختزل أي إنسان هويته في انتماء واحد يؤدي به إلى التع ّصب، فإذا نظر المرء بانفتاح إلى جملة الهويات التي ينتمي إليها فإن ذلك يفرض عليه أن يقبل النظرة المتحّولة إلى هويته باستمرار، شريطة أن يلتزم وجودياً بقضاياه الإنسانية دون تخاذل أو تهاون، وهذا بالضبط ما يجعل الهوية غير أحادية، ومن ثم تقبل بفتح الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات(7 ).
فهوية المفكر الإنساني المتحّولة، وغير القاّرة، تؤكد تعدد المسا ارت الإنسانية، وتكاثر الهوياتالثقافية، وبما أن الوجود الإنساني يقوم في أصله على شرخ وجودي عميق، فإن الرحيل بين الهويات يغدو تمثيلاً للحرية الحقة للإنسان، فالمفكر/الناقد هو القادر على هذا النوع من الرحيل أو الهجرة حتى يحقّق أفقه الإنساني الوجودي العام.
يقول سعيد واصفاً حالته ".... ولطالما شعرت، في السنوات الأخيرة خاصة، أن معنى الانتماء الحقيقي إلى ثقافتين أو ثلاث ثقافات أو ضروب مختلفة من الجماهير لا ينفك يطرح قضايا مهمة بحد ذاتها إلى أبعد الحدود، أعني أن ذلك يمنح المرء ما يداني اللذة الجمالية إن لم يقع المرء ضحية لذلك، فكيف للمرء أن يخاطب هذه الضروب من الجماهير(8)". إن ما يساور سعيداً في هذه الفقرة هو خوفه من الركون إلى هوية قاتلة، إنه يفزع حين يشعر بالراحة أو باللذة الجمالية، ظاناً أنه بذلك يخون موقفه الوجودي، هكذا تغدو الهوية المنفتحة على الثقافات- لدى المفكرين والنقاد الإنسانيين- ضمي ار قلقا، وحارسا شديد الحساسية لعذابات الآخرين؛ إذ هم يتميزون بوعي الواقع والتاريخ، أي بوعي العالم الذي يعيشون فيه. "فعلى المرء أيضاً أن تكون لديه الشجاعة لأن يحيا في داخله كامل التاريخ البشري، كما لو أنه تاريخه الخاص(9)".
لذلك تتصل الهوية بالمعرفة الأكاديمية الصادقة وبالحرية، وعلى المفكر الإنساني أن يعلي ُّ
من قدر المعرفة؛ إذ "علينا أن نعد المعرفة شيئاً نخاطر من أجله بالهوية، وعلينا أن ننظر إلى الحرية الأكاديمية على أنها دعوة إلى التخلي عن الهوية على أمل أن نفهم، بل ربما أن نتخذ، أكثر من هوية واحدة، علينا أن نرى إلى الأكاديمية، على الدوام، بوصفها مكاناً نرتحل فيه، دون أن
نمتلك منه أي شيء، لكننا نشعر أننا في موطننا أّنى ذهبنا (10)" في قطعة من أهم ما كتب سعيد حول الهوية والمعرفة والحرية الأكاديمية، يظهر المفكر
الإنساني كما لو أنه مصلح عظيم، لذلك يجعل منه رّحالة يصف مساره وصفا دقيقاً "فصورة الرّحالة
لا تعتمد على القوة بل على الحركة، على إاردة المضي إلى عوالم مختلفة، واستخدام لغات مختلفة،
وفهم تشكيلة منّوعة من ضروب التنّكر والأقنعة والبلاغات، وعلى الرّحالة أن يعلّقوا مطالبتهم
بالرتابة المعتادة كيما يعيشوا إيقاعات جديدة، وطقوسا جديدة، والأهم من كل ذلك والأشد اختلافاً
عن الحاكم الذي يضطر لأن يحرس مكاناً واحداً وحسب، ويدافع عن حدوده، إن الرّحالة يعبر
الحدود، يجتاز المناطق، ويهجر المواقع الثابتة، طوال الوقت، والقيام بذلك بتفان وحب وبإحساس
واقعي بالأرض هو، باعتقادي، نوع من الحرية الأكاديمية في أرفع ذارها، ذلك أن واحداً من
الملامح الأساسية لهذه الحرية أن بمقدورك ترك السلطة والعقيدة الجامدة للحاكم، فسوف تكون لك
أشياء أخرى تفكر فيها، وتستمتع بها، تتعدى ذاتك وميدانك، وتلك الأشياء الأخرى، أبعد أثرا بكثير، ً
وأجدر بالدارسة والاحترام من تملّق الذات والإعجاب بها دون انتقاد، أن تلتحق بالعالم الأكاديمي هو إذاً أن تدخل بحثاً لا نهاية له عن المعرفة وعن الحرية" (11.
يقول محمود درويش في مشهد من مشاهد مرثيته لسعيد :
"يقول: أنا من هناك.
أنا من هنا ولست هناك، ولست هنا
لي اسمان يلتقيان ويفترقان ولي لغتان،
نسيت بأيهما كنت أحلم،
لي لغة إنجليزية للكتابة، طيعة المفردات
ولي لغة من حوار السماء مع
القدس،فضية النبر، لكنها
لا تطيع مخيلتي" "
يحب بلادا ويرحل عنها
[هل المتسحيل بعيد؟]
يحب الرحيل إلى أي شيء
ففي السفر الحر بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشري
مقاعد كافية للجميع(12 )"