في سياق ملف الذكرى المئوية لتصريح بلفور المشؤوم
هو خطاب أرسله وزير خارجية بريطانيا "آرثرجيمس بلفور" في 2 نوفمبر 1917 إلى اللورد "ليونيل وولتر دي روتشيلد"
وطلب منه إبلاغه إلى الاتحاد الصهيوني .
النص:
وزارة الخارجية
في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917
عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:
"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".
وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح.
المخلص
آرثر جيمس بلفور
مزاعم وأضاليل
حرص الإنجليز وغيرهم على إخفاء الأسباب الحقيقية التي حملتهم على إصدار تصريح بلفور كما حرصوا على إخفاء غاياته ونواياه، مخترعين أسباب واهية يخدعون بها العقول، وهي أسباب ملفقة لا تثبت أمام البحث الصحيح والنقد الصريح وإن خُدع بها الكثيرون. فقد زعموا أنما أصدر تصريح بلفور لاكتساب عطف اليهود الأمريكيين وإغرائهم على إدخال بلادهم الحرب إلى جانب الحلفاء، وهذا وهمٌ محض، لأن أمريكا قد أعلنت الحرب على ألمانيا في السادس من إبريل 1917. وزعموا أيضاً أنما هو مكافأة لوايزمان على صنعه لمادة الأسيتون أو بالأحرى تزويدهم بسر صناعته وهو مادة ضرورية لصناعة البارود. هذا الزعم أيضاً باطل، فقد زعم وايزمان بأن الحكومة البريطانية قد كافأته على خدمته لبلاده وقيامه بواجبه بعد الحرب بعشرة آلاف جنيه فضلا عن مرتبه الذي كان يتقاضاه، حسبه ذلك. أما أن تمنحه مكافأة سياسية مثل "أرض فلسطين" فهذا شطط في الخيال لا يصدقه ذو عقل راجح. وتمضي المزاعم تترى فقد زعموا بأن تصريح بلفور كان أيضاً مكافأة لوايزمان عن خدماته السياسية للإمبراطورية في المهمات الاستخبارية وهذا أيضا محض اختلاق لنفس الأسباب السالفة الذكر. وهناك زعم رابع وهو أن بريطانيا قصدت كسب عطف الرأي العام اليهودي على قضية الحلفاء. فلماذا تتحمل بريطانيا وحدها إثم ذلك من دون حلفائها؟ كما زعموا ايضاً وبرروا جريمتهم هذه النكراء أن من أسباب إصدار ذلك التصريح جعل اليهود المحاربين في صفوف ألمانيا وحلفائها ينتقضون على حكوماتهم. ونقض ذلك هو أن اليهود ليسوا بالكثرة التي قد تؤثر في هذه الغاية. وقد ظل يهود ألمانيا على ولائهم لحكومة ألمانيا بالرغم من التصريح المشؤوم. وسادساً، فقد زعموا (ونقصد بهم الإنجليز وغيرهم) إنما كان السبب هو حث أثرياء اليهود في الولايات المتحدة على التبرع لقرض الحلفاء الذي كان بعض الأثرياء قد رفضوا التبرع له بسبب كرههم لروسيا. وهذا كلام مردود عليهم لأن روسيا صارت بلشفية بعد صدور التصريح بخمسة أيام فخرجت من صفوف الحلفاء إذ راحت تفاوض الألمان من أجل الصلح، إذاً لماذا لم يسحب التصريح؟ ثم إن كثيراً من الأثرياء والرأسماليين اليهود لم يكونوا قد انخرطوا بعد في الحركة الصهيونية. كما زعموا أن سببه إغراء البلاشفة بالبقاء في صفوف الحلفاء، وقد كان عددهم وافراً نسبيّاً. وهذه المزاعم أيضاً مردودة على الإنجليز فالعالم كله كان على علم تام بأن زعماء الحلفاء قد وطدوا العزم على عقد الصلح مع الألمان والخروج من الحرب بأي ثمن وفي أقرب فرصة ممكنة. ولقد شرعوا بمفاوضة الألمان بينما الحبر الذي كتب به هذا التصريح لم يجف بعد. وبعد أربعة أشهر
فقط وقعوا معاهدة برست – ليتوفسك في 2 مارس 1918، فلماذا بقي هذا التصريح حياً بعد ذلك التاريخ؟
كما زعموا أيضاً بأن الإنجليز إنما أصدروا التصريح لأنهم يحبون اليهود حبّاً فطريّاً ويعطفون عليهم عطفاً خاصّاً. وهذا أيضاً محض افتراء لآن الساسة الإنجليز لا قلوب لهم وما يحركهم إلا مصلحة بلادهم، والإنجليز عامة يكرهون اليهود كرهاً متأصلاً ويفرضون على من أراد من يهود أوربا الشرقية المضطهدين الدخول إلى بريطانيا شروطا صعبة للغاية. ويحضرني هنا "أنه إذا أراد الإنجليزي أن يسب أخاه الإنجليزي يقول له يا يهودي".
إنه لمن المؤسف أن الكثيرين من الزعماء والساسة والأدباء العرب وغيرهم قد صدقوا هذه المزاعم (مع أنها مخجلة) ولم يفطنوا إلى السبب الحقيقي الخفي الذي أدّى إلى إصدار تصريح بلفور – لا وعده كما يتوهمون. إذاً فما هو السبب يا ترى؟
إن اهتمام بريطانيا بشؤون فلسطين وما جاورها من الأقطار العربية خلال الحكم العثماني لها هو ما حبا الله تعالى هذه البلاد من أوضاع تمكن أهلها من التحكم في رقاب قارات ثلاث عسكرياً وتجارياً برّاً وبحراً وجواً، وهي أوربا وآسيا وأفريقيا.
العالم العربي ممر
بلاد العرب ببساطة ممر طبيعي يصل الشرق بالغرب وبالعكس ويصل الشمال بالجنوب وبالعكس فقد كانت بلاد العرب تتحكم بالتجارة البرية والبحرية والآن أصبحت أيضاً ممرا جوياً عالمياً.
والممرات العربية هي:
بحراً: قناة السويس والبحر الأحمر وخليج العقبة والخليج العربي
براً: كل نقطة من نقاط العالم العربي من الخليج إلى المحيط ومن حدود تركيا إلى حدود السنغال في أفريقيا ما يعادل تسعة آلاف كيلومتر.
جوّاً: كل نقطة في سماء العالم العربي من حدود تركيا وإيران حتى حدود السنغال أي نحو سبعة آلاف كيلومتر جوي.
هذه الممرات تعمل كسد أو جسر جوي على مداخل القارات الثلاث. فإذا أقفل هذا السد، سُدّت مداخل آسيا وأفريقيا في وجه أوربا والعكس صحيح إلّا من بعض طرق أخرى شاقة جدا وغير مجدية اقتصادياً.
مركز استراتيجي
إن في استطاعة المهيمن على هذه الممرات بين القارات الثلاث وعلى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي وخليج العقبة والخليج العربي وشرق المحيط الأطلسي، أن ينقل قواته البرية والبحرية والجوية بين هذه القارات والمحيطات والخلجان بسهولة فائقة. وذلك فحوى ما قاله جلوب في كتابه (بريطانيا والعرب).
كنز النفط
بلاد العرب تعتبرها بريطانيا ثروة هائلة يقوم على رأس كنوزها النفط ومشتقاته، وأن بريطانيا تنفرد بين دول الغرب كلها وأن مستقبلها مرتبط بأمن واستقرار هذه المنطقة. فهذا يفسر استماتة بريطانيا في المحافظة على مراكزها وامتيازاتها في بلادنا أكثر من مراكزها وامتيازاتها في غيرها من بقاع العالم.
فرنسا المنافس الأعظم
من أجل ما سبق كله كانت بريطانيا دائماً تدبر الوسائل التي تمكنها من اقتطاع أوسع ما يمكنها من رقاع العالم العربي. كانت روسيا وفرنسا في أواسط القرن الماضي (التاسع عشر) أقوى منافسين لها في المنطقة. وظهر في أواخر القرن المذكور منافس ثالث شرس هو ألمانيا القيصرية. أما فرنسا فكانت هي الأشرس في دق أوتادها في المنطقة، حيث تعتبر نفسها حامية النصرانية في الشرق منذ عهد شارلمان وهارون الرشيد، كما تُذَكّر بأنه كان لها النصيب الأكبر بأعداد الجند في الحملات الصليبية.
نابليون واليهود
ظلت فرنسا تقيم دعاواها في بلادنا على هذه الأسس الواهية حتى قام نابليون بحملته المشهورة على المشرق عام 1798م فراح يقوم بالدعاية في أوساط اليهود بأنه سيعيدهم إلى القدس ويعيد بناء الهيكل المزعوم لهم إذا ساعدوه في غزو فلسطين. ذلك مما أقض مضاجع بريطانيا التي شعرت بدنو أجلها في هذه البلاد لو ترسخت أقدام فرنسا فيها. فما كان من بريطانيا إلا أن بدأت باستغلال اليهود وقضت على نابليون وخططه وأهدافه وعادت إلى منافسة فرنسا في الوصول إلى هذه البلاد. ولعل نابليون هو من أوحى إلى هرتزل وأتباعه بإمكانية استغلال الدول الكبرى من أجل تحقيق أحلامهم بإنشاء دولة لهم في فلسطين.
بريطانيا تخشى الوعي العربي
تنامى الوعي العربي ضد الأطماع الاستعمارية في بلادهم وخشيت بريطانيا من هذا الوعي خشية إقفال الممرين الكبيرين في وجهها وهما برزخ السويس ووادي الفرات اللذان يربطان بريطانيا بالهند. لذلك أخذت بريطانيا على عاتقها محاربة القومية العربية وقتل كل وعي عربي مهما يكن شكله ومهما يكن هدفه ومداه. فقد تصدت لمحمد على وحليفه اللبناني الأمير بشير ونصيرتهما فرنسا. فأرسل بلمرستون وزير خارجية بريطانيا إلى سفيره في باريس بأن يخبر المسيو تيير (رئيس الحكومة الفرنسية) أنه "إذا ألقت فرنسا بقفازها، فسوف لا تحجم بريطانيا عن التقاطه وأنه إذا بدأت فرنسا حرباً فإنها ستخسر كل أسطولها ومستعمراتها وتجارتها قبل أن تبلغ النهاية وأن جيشها في الجزائر سيكف عن إقلاق بريطانيا وأن محمد علي سيقذف به في النيل". فخافت فرنسا ولم تحرك ساكناً. وجاءت الحملة الإنجليزية بقيادة الكومودور نبيير الذي أنزل قواته في خليج جونية في 10 سبتمبر 1840. هنالك انسحبت قوات إبراهيم باشا بعد قتال دار بين الفريقين قرب قرنة شهوان. ثم استسلم الأمير بشير للإنجليز وكان من أثر ذلك أن عادت سورية ولبنان إلى النير العثماني البغيض ريثما يحين الوقت المناسب لوضعهما تحت النير البريطاني.
مخطط لندن الرهيب
ولبلوغ هذه الغاية رسمت بريطانيا لنفسها سياسة طويلة الأمد غايتها:
1- تحطيم لبنان ومصر حتى لا تقوم لهما من بعده قائمة ليكون مقدمة لاحتلالهما.
2- إيجاد ثغرات برية على الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط والوصول للبحر الأحمر وخليج العرب في طريقها إلى الهند.
ومن خلال هذه الثغرات النفوذ إلى مصر لاحتلالها وإثارة النعرات الطائفي في لبنان لإقامة حكم موالي لها أو احتلاله إذا سمحت لها الظروف ذلك، وإنشاء دولة يهودية في فلسطين تأتمر بأمر خالقيها الانجليز. وهذا ما أدى إلى معاناة شعوب فلسطين ولبنان وسوريا ومصر إلى الآن.
العميلان روز وتشرشل
راحت بريطانيا بعد دحر إبراهيم باشا تمهد لاحتلال مصر بشتى الطرق مثل تحطيم الوحدة الوطنية وتدمير الاقتصاد المصري حتى لاحت لها الفرصة وتم احتلال مصر عام 1882 ودام حتى عام 1956. أمضت بريطانيا مخططها على لبنان فأثارت النعرات الطائفية فرمت بعميليها الخطرين الكولونيل هيو روز والكولونيل تشارلز هنري تشرشل الذين أغرقا لبنان في بحار من الدموع والدماء التي بلغت ذروتها عام 1860.
لندن لا هرتزل
وفوق كل ما سبق راحت بريطانيا تعد العدة لإنشاء دولة يهودية على ثرى فلسطين، وكان ذلك قبل مولد ثيودور هرتزل مؤسس الصهيونية بثلاثين عاماً وقبل تأسيس الحركة الصهيونية بنحو سبعين عاماً. وهذا ينافي ما اعتقده الكثيرون بأن الصهيونية هي التي ابتدعت فكرة الدولة اليهودية.
أسقف يهودي متنصر
أنشأت بريطانيا بالاشتراك مع بروسيا أول أسقفية لها في القدس عام 1841 وقد عين فيها اليهودي المتنصر ميكل سلومون الكزندر ليتولى التبشير بين اليهود الذين لم يتجاوز عددهم عشرة آلاف يهودي. وكانت الأوساط الدينية والشعبية والسياسية في بريطانيا تنادي برجوع اليهود إلى فلسطين لأسباب دينية من أجل تنصير اليهود ولأسباب سياسية لدق أسافين دولتهم في فلسطين وغيرها عن طريق اليهود وتحت ستار من العطف عليهم كما سبق وفندنا ذلك من قبل.
مؤتمر لندن عام 1840
كان اللورد شافتسبري من أنصار اليهود وكان يقوم باستدرار عطف حكومته عليهم وكان يمت بصلة قرابة إلى اللورد بلمرستون، وزير الخارجية البريطانية يومئذ. ما فتأ شافتسبري يدعو إلى إعادة اليهود إلى الأرض المقدسة سنين عدة. فلما انعقد مؤتمر لندن عام 1840 لتقرير مصير سوريا بعد إخراج قوات محمد علي منها طلب شافتسبري من قريبه بلمرستون إعادة اليهود إلى فلسطين. لوجه من كانت هذه المساعي والمطالب؟ ألوجه الله، أم لوجه اليهود، أم لوجه السياسة الإنجليزية؟
بريطانيا حامية اليهود
في هذه الأثناء كان ساسة لندن يوالون بسط حمايتهم على يهود البلاد العربية وخاصة يهود فلسطين وسوريا والمغرب لإغرائهم للهجرة إلى فلسطين وأنهم حصلوا لهم من الدولة العثمانية اعترافاً بجمع شملهم وشتاتهم من أوربا وأفريقيا. وكان الكولونيل تشرشل (شرشر بك) من أكثر المتحمسين لإقامة دولة يهودية أكثر من حماسة اليهود المتطرفين أنفسهم.
شرشر بك والدولة اليهودية
وكان تشرشل هذا قد كتب إلى مجلس اليهود في بريطانيا يقترح عليه تكتيل يهود أوربا وتوجيههم نحوهذه الغاية السياسية، ولكن مونتفيوري رئيس المجلس تهيب الفكرة فأرجأها، كما أخذ بعض اليهود من أصدقاء تشرشل يخففون من تحمسه، وليس من المعقول أن يبلغ في تحمسه هذا المبلغ لولا التعليمات التي تلقاها من رؤسائه في لندن.
"نبوءة دزرائيلي"
في العام 1847 نشر بنيامين دزرائيلي قصته المسماة (تنكرد) ومما جاء فيها ما يلي:-
"البريطانيون في حاجة إلى قبرص وسيحتلونها"، وفي مكان آخر "سوف يستولي الانجليز على القدس ويحتفظون بها" وكانت فكرة شق قناة السويس قد ظهرت للوجود فراحت بريطانيا تعارض المشروع محاولة القضاء عليه لكنها لم تفلح. ولما افتتحت عام 1869 ضاعفت بريطانيا جهودها للحيلولة دون وقوع هذا الطريق البحري العظيم إلى الشرق في قبضة دولة أخرى منافسة لها. وتشاء الأقدار أن يكون السياسي البريطاني اليهودي المتنصر دزرائيلي صاحب قصة (تنكرد) والذي صار فيما بعد رئيساً للحكومة البريطانية هو الذي يحقق لبلاده ما ورد في قصته، فقد استطاع عام 1878 أن يحصل من تركيا على إجازة لبلاده باحتلال قبرص وإدارتها. وما لبثت بريطانيا أن احتلت مصر سنة 1882. وهكذا أوجدت بريطانيا لنفسها نقطتي ارتكاز في بلادنا، ثم راحت تعد العدة لتحقيق أهدافها الأخرى رويداً رويداً بالحيلة والصبر.
منذ حملة نابليون على المشرق والانجليز يضعون نصب أعينهم جعل فلسطين نقطة ارتكاز عن طريق إنشاء دولة فيها لليهود. فمهدوا لهذه الخطة في أوساط الشعب البريطاني عن طريق الدين والعطف على شعب مسكين مضطهد. وفطن اليهود لهذا الاهتمام، فكان أول ما فعله ثيودور هرتزل مؤسس المنظمة الصهيونية أن شرع في مفاوضة الحكومة البريطانية حول هذا الموضوع. فنجح الوصول إلى آرثر بلفور رئيس الحكومة البريطانية آنذاك وزميليه تشمبرلين واللورد لانزدون بواسطة اليهودي الإنجليزي ليوبولد جرينبرج رئيس جريدة لندن كرونيكل.
مشروع أوغندا
يومئذ كانت موجة الاضطهاد اليهودي في روسيا قد تعاظمت فرأت بريطانيا أن تعطي هرتزل دليلاً على عطفها على اليهود مع أنها كانت تضع العراقيل في وجه هجرتهم إلى الجزيرة البريطانية وإقامتهم فيها. ولم تكن فلسطين يومئذ في يد بريطانيا فعرضت على هرتزل مشروعاً لإسكان اليهود في مستعمرة أوغندا في شرق أفريقيا توثيقاً لصلاتها بهم طمعاً في التحكم في مصائرهم أو التدخل في شؤونهم، مع قناعة بريطانيا بعدم قبول اليهود للفكرة. والدليل هو أن هرتزل نفسه الذي قبل مشروع أوغندا الذي قدمه إلى المؤتمر الصهيوني عام 1903 أنه لم يتخل عن فكرة استيطان فلسطين وأن أوغندا لن تكون صهيون أبداً، وأن مشروع أوغندا ما هو إلا حركة فرعية أو احتياطية.
هرتزل خائن
وكان الصهيونيون قد علقوا خريطة أوغندا في ذلك المؤتمر بدلاً من خريطة فلسطين التي جرت العادة على تعليقها في المؤتمرات السابقة مما حدا بمندوبة روسية أن تهب من مقعدها ومضت نحو خريطة أوغندا فمزّقتها على مرأى من هرتزل وبقية المؤتمرين، ولم تكتف بذلك بل خاطبت هرتزل قائلة له "يا جناب الرئيس أنت خائن" وتوفي هرتزل في فيينا في 4 يوليو 1904 أي في العام التالي لانعقاد هذا المؤتمر. وما لبث المؤتمر الصهيوني السابع عام 1905 أن رفض مشروع أوغندا بقضه وقضيضه.
مشروع العريش
إلى جانب مشروع أوغندا علم المندوبون بوجود مفاوضات أخرى بين هرتزل ولندن بشأن مشروع إسكان اليهود في العريش شمال سيناء وأنها سهلت لممثلين صهيونيين زيارة منطقة العريش لدراسة الأوضاع فيها عن كثب وقد رحب بهم اللورد كرومر المعتمد السياسي البريطاني في مصر، لكن المشروع لم يستهو الصهيونيين لافتقار المنطقة للمياه ورفض الحكومة المصرية تزويد المنطقة بالمياه من نهر النيل. لقد تحسر حاييم وايزمان (في مذكراته عام 1949) على رفضهم المشروع، لأن الماء كما يقول كان يمكن استخراجه من جوف الأرض. ويضيف وايزمان أنه لو استوطن اليهود العريش في تلك الأيام لتغير مصير فلسطين الحالي تغيراً كبيراً جدّاً.
وايزمان وبلفور
هاجر حاييم وايزمان عام 1904 إلى إنجلترا وكان يقول إن إنجلترا كانت الدولة الوحيدة التي يرجى منها الخير للصهيونية. وتم أول لقاء بين وايزمان وبلفور عام 1906 في مدينة مانشستر
حيث شرح الزعيم الصهيوني للسياسي البريطاني عزم الصهيونيين على استيطان فلسطين. فسأله بلفور وهل هناك كثير من اليهود الذين يفكرون كما تفكر؟ فأكد له وايزمان بالإيجاب، فأجابه ما دام الأمر كذلك فستصبحون قوة في يوم من الأيام. لم تكن فلسطين يومئذ في يد لندن في تلك الأيام. ولما نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914 لاحت لبريطانيا الفرصة التي كانت تنتظرها، فدخلت تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا فهب اليهود في لندن يطالبون الحكومة البريطانية بالاعتراف لهم بحقوق في فلسطين ويوالون من أصحاب النفوذ أمثال لويد جورج وبلفور وهربرت صمويل ويشوع ودجوود وروبرت سيسيل.
اسكويت يتهيب
غير أن هربرت اسكويت رئيس الحكومة البريطانية يومئذ تهيب هذه المغامرة بسبب ازدرائه لليهود وخشية أن تؤدي هذه السياسة إلى عكس النتيجة المرجوة. ويجب ألّا ننسى أن معاهدة سايكس - بيكو التي ظهرت فيها مطامع فرنسا في فلسطين جلية واضحة لم تكن قد رأت النور بعد. ولذل ك آثر اسكويت التريث. في أواخر عام 1914 التقى وايزمان بمستر سكوت رئيس تحرير صحيفة (المانشستر جارديان) الذي كان معروفاً بعطفه على الأماني اليهودية وكان سكوت صديقاً للويد جورج (وزير المالية في حكومة اسكويت) فاجتمعا مع هربرت صمويل ويشوع ودجوود في 3 ديسمبر 1914 فسأل لويد جورج وايزمان عن فلسطين واليهود وأعدادهم والمستعمرات اليهودية. ثم أشار عليه بمقابلة بلفور واسكويت ليتحدث إليهما في الأمر. وفعلاً تم ذلك وجرت عدة مقابلات بينهما بعد ذلك.
اسكويت واليهود
في هذه الفترة قدم هربرت صمويل مذكرته إلى هربرت اسكويت رئيس الحكومة البريطانية بعنوان "مستقبل فلسطين" وكان اسكويت يكره اليهود لاعتقاده أن معدنهم من أخس المعادن وأنهم لذلك لا يصلحون لتعمير البلدان وإنشاء الأوطان. ووجد اسكويت أن صمويل قد ذهب فيها أبعد مما تقتضيه الحنكة السياسية وأن يهوديته قد طغت على انجليزيته. كذلك لم يعجب اسكويت ما كان لويد جورج يبديه من عطف شديد على الصهيونيين فقال فيه "لا حاجة بي إلى القول إن لويد جورج لا يهتم مثقال ذرة باليهود ولا بماضيهم ولا بمستقبلهم ولكنه يرى أن وقوع الأماكن المقدسة في قبضة فرنسا الجاحدة الملحدة أو تحت حمايتها، إنما هو أمر فظيع". وقد وافق اسكويت فيما بعد على تسخير الصهيونية من أجل تحقيق أهداف بلاده.
كتشنر والحسين
في تلك الأيام شرعت بريطانيا في جس نبض العرب ولكن ليس جديّاً إلا عندما أعلنت تركيا الحرب حليفة لألمانيا، وكان كتشنر يومها معتمداً سياسيّاً وقنصلا عامّاً لبريطانيا في مصر فأرسل في الخامس من أكتوبر 1914 رسولا على جناح السرعة كي يتصل بالشريف حسين في الحجاز، لكن ما لبث كتشنر أن استقر وزيراً للحربية في لندن فخلفه في القاهرة السير هنري مكمهون الذي اتصل بالحسين فدارت بينهما مكاتبات رسمية استغرقت المدة بين يوليو 1915 إلى مارس 1916. وأظهر الحسين منذ البدء تعلقاً ببريطانيا وإيثاراً لها على غيرها وحرصاً على التعاون معها. إلا أنه كتب إلى مكمهون في يوليو 1915 يعرض عليه جدود البلاد العربية التي يجب أن تشملها عهود بريطانيا. ولم تخجل بريطانيا التي كانت تفاوض العرب بشخص حسين أن تفاوض في الوقت نفسه أعداء العرب وأصحاب المطامع في بلادهم من صهيونيين وفرنسيين. كان وايزمان يظهر العداء الشديد لروسيا وألمانيا فراح يوثق علائقه بساسة بريطانيا ووجد عندهم آذاناً صاغية كما وجدوا فيه وفي حركته الصهيونية عامة أداة طيعة وعملاء مقتدرين. وأثار ذلك حقد الصهيونيين عليه حتى في أمريكا طالبين منه وقف نشاطه السياسي في بريطانيا فوراً، كما حملوه مسؤولية ما يلقاه اليهود بسببه من اضطهاد في فلسطين. فأجابهم وايزمان أن الذنب ليس ذنبه إذا كان بعض الساسة في بريطانيا يعطفون على الأماني الصهيونية ويطمحون إلى رؤية فلسطين محمية من محميات بلادهم. واشتد ضغط جمال باشا على يهود فلسطين فأخذوا يهربون إلى مصر حتى بلغ عدد الهاربين نحو خمسة وأربعين ألفاً. واتفق أن زئيف فلاديمير جابوتنسكي (قيادي في الحركة الصهيونية) كان في الاسكندرية عند نشوب الحرب فشرع مع جوزيف ترمبلدور (مقاتل روسي مؤيد للحركة الصهيونية) شرع معه في تجنيد اليهود الصالحين للخدمة العسكرية وألف منهم فرقة عرفت بفرقة (البغالة) اليهودية التي اشتركت في القتال إلى جانب الحلفاء وأيده وايزمان في ذلك فاشتد السخط العام على وايزمان في كل مكان واعتبرته الصهيونية عميلا بريطانياً ومتهوساً انجليزياً ثم اتهمته ببيع الحركة الصهيونية لبريطانيا. وقد فعلت الصهيونية ذلك لأنها لم تكن على علم بمدى العلائق التي نشأت بين وايزمان وساسة لندن، أو لآنها كانت تتوخى التعمية والتضليل.
في أواخر القرن التاسع عشر سادت اللغة والثقافة الفرنسية على العموم في سوريا ولبنان وفلسطين مما ساء الانجليز واعتبروه خطراً كبيراً عليهم وعلى القواعد التي أنشأوها لبلادهم في الأقطار المجاورة.
خطر الاسكندرونة
أعربت بريطانيا عن مخاوفها هذه على لسان توماس لورنس (المعروف بلورنس العرب) لرئيسه بأن المتاعب في الشرق الأوسط في المستقبل لن تأتي من أعداء بريطانيا بل من حلفائها (ويقصد روسيا وفرنسا). ويضيف لورنس أن وجود الاسكندرونة في يد فرنسا يجعل منها قاعدة منيعة لاعتداءات بحرية على مصر، وأن وجودها في سوريا سيمكنها في أي وقت تشاء من قذف قناة السويس بمائة ألف رجل في غضون اثني عشر يوماً من إعلان الحرب بين فرنسا وبريطانيا، محذراً بأن لو استولت روسيا على الاسكندرونة كان في ذلك نهاية أجل بريطانيا في الشرق الأدنى، وختم ذلك بضرورة استيلاء حكومة بلاده بالاستيلاء على الاسكندرونة. وأحس الملحق الفرنسي في لندن فقام برفع مذكرة للحكومة البريطانية يحذرها من القيام بأية عملية عسكرية في سوريا. وفي هذه الحقائق التعليل الحقيقي لحرص بريطانيا على تسليم الاسكندرونة إلى تركيا عام 1937. وقد كان هذا بعد ربع قرن من مطالبة لورنس لهذا الأمر.
سايكس بيكو
كان الانجليز يعلمون تماماً أهداف فرنسا في الشرق العربي، وصعوبة استيلائهم على رقعة ولو صغيرة منه وراح الانجليز يتفاهمون مع فرنسا فرفضت الأخيرة رفضاً باتّاً وتمسكت بمطالبها تمسّكاً تامّاً وكان ذلك قبل الحرب العالمية الأولى. ولما نشبت الحرب لاحت الفرصة لتصفية أملاك تركيا في هذه البلاد فعاودت بريطانيا الاتصال بحليفتها فرنسا. ففي نوفمبر 1915 انتدبت وزارة الخارجية البريطانية السير مارك سايكس الإنجليزي الكاثوليكي "التقي" لمباحثة فرنسا في تقرير مصير البلاد العربية. مثل فرنسا في هذه المباحثات المسيو جورج بيكو الذي عرض مطالبه على سايكس في الشرق العربي أي استحواذ فرنسا على كامل سوريا أي من الحدود التركية إلى الحدود المصرية. طبعاً لم يرق طمع فرنسا هذا لبريطانيا. لكن بريطانيا حرصت أن يكون لها على الأقل القسم الجنوبي أي فلسطين لمجاورته لقناة السويس. فلما عجزت عن إقناع الفرنسيين بالتخلي عنه رفضت هي بدورها الأطماع الفرنسية. وتمسكت تمسكاً تامّاً بمينائي عكّا وحيفا، وأدركت أنه لا سبيل في إقناع فرنسا فوقعت بريطانيا على المعاهدة مكرهة وأضمرت لفرنسا في نفسها شرّاً خطيراً.
المعاهدة السرية
في مايو 1916 تم التوقيع على المعاهدة بين سايكس وبيكو وعرفت فيما بعد بمعاهدة سايكس – بيكو. وكان مما نصت عليه هذه المعاهدة السرية أموراً، ما يهمنا منها:
1- سوريا من الحدود التركية حتى خط يمتد من عكا إلى طبرية، منطقة نفوذ فرنسية، أي أن سوريا الحالية ولبنان والجليل لفرنسا.
2- عكا وحيفا لبريطانيا.
3- القسم الجنوبي، أي فلسطين بدون الجليل، يوضع تحت نظام دولي يتفق عليه فيما بعد بين روسيا وفرنسا وبريطانيا.
كانت روسيا القيصرية على علم تام بهذه المفاوضات لآنها كانت طرفاً فيها.
خرجت بريطانيا من هذه الصفقة وهي تتحرق غيظاً من عناد فرنسا وجشعها. بالرغم من حصول بريطانيا على ثغري عكّا وحيفا إلا أنها لم تكن راضية من اشتراك غيرها في إدارة شؤون فلسطين، فقد عزمت على الكيد لهم بالأساليب التي تتقنها بغية الاستئثار بهذه البلاد كلها إذا أمكنها ذلك. وسنفصل عما قليل كيف استخدمت بريطانيا الصهيونية للوقوف في وجه فرنسا في فلسطين، وحملة فيصل للوقوف في وجه فرنسا في سوريا. ثم راحت بريطانيا تخفي أغراضها الحقيقية تحت ستار من العطف على اليهود في فلسطين والعطف على العرب في سوريا، وحققت بريطانيا يومئذ غرضها فطردت فرنسا من فلسطين إلا أنها عجزت عن طردهم من سوريا، فانتظرت ربع قرن حتى تم لها ما أرادت.
بعد معاهدة سايكس بيكو أيقنت بريطانيا أنه لا قبل لها بالقضاء على مطامع الفرنسيين في فلسطين وانتزاعها من أيديهم إلّا عن طريق الصهيونيين، هذه السياسة التي ما فتأ البريطانيون يسعون لأجله منذ القدم ألا وهو إسكان اليهود في فلسطين. وكان الصهيونيون يكرهون الفرنسيين أشد الكره ويسعون دون وقوع فلسطين تحت سيطرتهم لأنهم يعلمون مدى مقدرة بريطانيا على الإدارة والحكم، وأن الفرنسيين تتدخل في شؤون السكان وتطبعهم بطابعها. وكان لبريطانيا ما أرادت فتلاقت مع الصهيونيين على مقاومة فرنسا والعمل على الاستيلاء على فلسطين. وكان اسكويث كما ورد سابقاً يؤثر التريث ولكنه بعد أن بدت له نوايا فرنسا في معاهدة سايكس – بيكو فإنه عدل موقفه الرسمي فرأى كما رأى زملاؤه الآخرين أن الصهيونية هي الوسيلة الوحيدة لإحباط هذه المعاهدة والوقوف في وجه مطامع فرنسا في الأماكن المقدسة.
الصهيونية أداة بريطانية
وعندما تراءت لبريطانيا الظروف لتنفيذ رغباتها أوعزت إلى السير سايكس بالعمل على ذلك. ففي المؤتمر الكبير الذي عقدته الصهيونية في لندن في 17 فبراير 1917 حضر سايكس المؤتمر بصفته الشخصية بسبب عطفه على أماني اليهود وسنحت له الفرصة ليقول كلمته وبين أن العقبة الكبرى أمام تحقيق الصهيونية أهدافها هي فرنسا فقط. استحسن الصهيونيون هذه النصيحة فأوفدوا قطبهم الكبير ناحوم سوكولوف لإقناع فرنسا وإيطاليا والفاتيكان بحقوقهم في فلسطين ووجوب مساعدتهم على تحقيقها. ولما اتصل بجورج بيكو من أجل هذه الغاية، أسر المندوب الفرنسي على أنه يجب أن تكون فلسطين تحت الحماية الفرنسية في حال قيام دولة يهودية فيها، ففضحت فرنسا نفسها ونواياها جهاراً مما ألهب حماسة الانجليز من أجل الحيلولة دون وصول فرنسا إلى فلسطين. وتحقيقاً لهذه الغاية رسمت بريطانيا مناورة خبيثة تقوم على تسخير الصهيونية للقضاء على مطامع فرنسا في فلسطين، وعلى تسخير العرب للقضاء على مطامع فرنسا في فلسطين مخفية أهدافها تحت ستار كثيف من دخان التصاريح المتضاربة تلقيها جزافاً للتمويه والخداع.
بلفور يتلاعب بوايزمان
في 22 مارس 1917 اجتمع بلفور بوايزمان فراح الوزير البريطاني يلمح بدهائه المشهور أن بريطانيا قد تعجز عن الوصول إلى اتفاق مع فرنسا بشأن فلسطين وأنه عندئذ يتحتم على الصهيونية أن تسعى لإقناع الولايات المتحدة بإقامة حماية بريطانية – أمريكية في هذه البلاد. كانت معاهدة سايكس – بيكو مازالت سرية ولكن وايزمان ما لبث أن علم بها بعد هذه المقابلة ببضعة أيام بإيعاز من الحكومة البريطانية عن طريق أحد عملائها. اشتاط وايزمان غضباً لأن في تلك المعاهدة قضاء على أماني الصهيونية وأحلامها. فقابل روبرت سيسيل مساعد وزير الخارجية في 25 ابريل 1917 وأفضى إليه بمخاوفه مؤكداً له أن يهود العالم كله يثقون ببريطانيا ويصرون على إقامة حكم بريطاني في فلسطين. وسر سيسيل بذلك وطلب من وايزمان أن يذهب إلى سوريا وفلسطين من أجل العمل على تحقيق ذلك، وأفهمه أن المهمة ليست سهلة ولكن اليهود يستطيعون أن يجعلوا لرأيهم وزناً كبيراً إذا هم هبّوا كلهم للمطالبة بحماية بريطانية على .فلسطين، فلما زار بلفور الولايات المتحدة في ابريل 1917 للبحث في شؤون الحرب ببرانديز قطب الصهيونية الأكبر في تلك البلاد وصديق ولسون الحميم فوجده قد صار من أشد الدعاة الأمريكيين حماسة في لتحقيق ذلك الغرض. وكان من أجل الخدمات التي أسداها اليهود لبريطانيا فيما بعد التصريح الذي انتزعوه من ولسون بإلغاء المعاهدات السرية كلها وعدم اعتراف حكزمته بها، فقضى ذها التصريح على معاهدة سايكس – بيكو وأطلقوا بريطانيا من أغلالها وأثقالها.
وايزمان عميل بريطاني
لم يخف وايزمان إخلاصه لبريطانيا وتعلقه بها، فراح ساسة بريطانيا يستغلّونه عند اللزوم عميلا لاستخباراتهم الواسعة، ففي يونيو 1917 دخلت الولايات المتحدة الحرب ضد ألمانيا ولكنها لم تكن قد أعلنتها ضد تركيا، فرأت أمريكا بموافقة فرنسا إقناع تركيا بالخروج من الحرب وعقد صلح منفرد مع الحلفاء على أساس الاعتراف لها بسلامة ممتلكاتها. لذلك أوفدت الحكومة الأمريكية إلى تركيا لجنة لهذا الغرض برئاسة هنري مورجنتو سفيرها السابق في استنبول وعضوية فليكس فرنكفورتر الصهيوني الأمريكي الذي كان مساعداً لوزير الخارجية الأمريكية، لكن بريطانيا كانت غير راضية عن هذه الحركة، لأن نجاحها يحول دون القضاء على تركيا ويحتفظ لها بممتلكاتها التي تطمع بريطانيا بالحصول عليها ولاسيما فلسطين. لذلك طلب بلفور من وايزمان أن يذهب إلى جبل طارق لقطع الطريق على هذه اللجنة وإقناعها بالعدول عن مهمتها التي تقضي في الوقت نفسه على مطامع الصهيونية في فلسطين. وبقي أمر هذه اللجنة ومهمتها سرّاً إلى بعد الحرب وكانت معرفته مدعاة للسخط في بعض الأوساط على الصهيونية.
في خريف 1917 لم يكن من الدول القوية منافسة لبريطانيا في فلسطين وسائر البلاد العربية إلا فرنسا. فروسيا قد غرقت في الثورة وصارت بلشفية، والولايات المتحدة لم تكن قد خرجت من عزلتها، وألمانيا عدو سيسحق وشيكاً كما تركيا صاحبة السلطان في البلاد العربية. وكانت بريطانيا تخشى فرنسا وتبغضها ولكنها تداريها للحلف القائم بينهما في مواجهة الخطر الألماني العظيم. وزاد من هواجس بريطانيا أن مبادئ ولسون الأربعة عشر تضمن للشعوب العربية تقرير مصيرها، وأن الملك حسين يصر على الاستقلال التام وبناء صرح الدولة العربية الكبرى. فأدركت بريطانيا أن الفتح العسكري وحده لن يضمن لها الاستيلاء على فلسطين، وأنه لا نصير لها في ذلك إلا الصهيونية التي كانت تكره فرنسا وتقاومها. وكان لويد جورج المعروف بعدائه الشديد لفرنسا قد صار رئيساً للحكومة البريطانية، وهو الذي قال عنه اسكويت أنه لا يأبه لليهود أبداً وإنما يظهر العطف عليهم لأنه يمقت وقوع فلسطين في قبضة فرنسا ويرى تسخيرهم لمساعدة بلاده في الحيلولة دون ذلك. وعلى إثر ذلك أرسل بلفور وزير الخارجية البريطانية إلى اللورد اليهودي ولتر روتشيلد كتابه المتضمن التصريح المشهور الذي عرف فيما بعد بتصريح بلفور، وكان ذلك في الثاني من نوفمبر 1917. وقد كان مصير فلسطين النهائي غير واضح والأن وبعد التصريح أصبح وقوع فلسطين تحت سيطرة فرنسية أقل احتمالاً حتى ولو دولت مدينة القدس.
حينما كان الانجليز يسخرون الصهيونية لدق أوتادهم في فلسطين من وراء ظهور أصحابها العرب، كانوا في الوقت نفسه يسخرون العرب من أجل الحيلولة دون نزول فرنسا في سوريا. فقد كانت فرنسا مصممة على احتلال البلاد الواقعة بين الحدود التركية والحدود المصرية، وكان الانجليز على علم بذلك حتى قبل معاهدة سايكس – بيكو. ولما عجزت مفاوضات سايكس عن إقناع فرنسا بالتخلي لبلاده عن بعض أقسام هذه البلاد، راحوا يكيدون لفرنسا وينسجون المؤامرات من أجل إقامة حكم عربي في سوريا، وأرسلوا التعليمات إلى لورنس بتوجيه القوات العربية نحو دمشق. ودخلت القوات العربية والبريطانية دمشق في الأول من أكتوبر 1918، فانتشى العرب بالحرية والانتصار كما سر اللنبي القائد البريطاني العام بذلك فهنأ أقطاب العرب بالحكم العربي الذي أعلنوه وأيده وبارك فيه. جرى هذا بينما كانت حكومته تأبى قيام مثل هذا الحكم في القدس وبغداد ولنها شجعت قيامه في دمشق لأنها أرادته حينها سدّاً منيعاً في وجه الفرنسيين أعدائها التقليديين.
حماية فرنسية في القدس
ولم تكن فرنسا راضية عن قيام هذا الحكم العربي في دمشق ولم تكن راضية عما كان يجري في فلسطين من نشاط بريطاني وصهيوني. أرسلت فرنسا فور احتلال القدس بعثة سياسية فرنسية برئاسة المسيو بيكو نفسه وذلك للتمهيد لممارسة حقوقها هناك فأقام ما يسمى بحماية فرنسية وصار بيكو يخاطب بوصفه مندوباً سياسياً فرنسياً وسار بعيد الميلاد بموكب رسمي يحفه الفرسان ليثبت للناس حماية فرنسا للمسيحية اللاتينية كما يقول ستورز(السيررونالد ستورز الحاكم العسكري البريطاني للقدس). وراح بيكو يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون فلسطين ويتذمر من تصرفات الانجليز على الرغم من أن جيوش هذه الأخيرة هي التي كانت تحتل البلاد في تلك الأيام. وعلت أبواق الصهيونية في العالم مطالبة بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وفي سوريا حكم عربي يرى في بريطانيا صديقة كريمة وحليفة وفية، لذلك ذهب كليمنصو إلى لندن في الأول من ديسمبر 1918 لإقناع حلفائه بالرجوع إلى معاهدة سايكس بيكو واحترام نصوصها والعمل بموجبها، إلّا أن لويد جورج عدو فرنسا الحقود أصر على تعديل هذه المعاهدة وطالب فرنسا بالتنازل لحكومته عن الموصل والجليل وشرق الأردن والموافقة على جعل فلسطين كلها تحت السيادة البريطانية. وطالت المباحثات بين الطرفين حتى وصلت إلى حد خطير "إلى أروقة محكمة الصلح في باريس سنة 1919 مما زاد في متاعب الوفد العربي في ذلك المؤتمر كما عقد حل القضية العربية.
اتفاق لويد جورج – كليمنصو
في هذه الفترة كانت بريطانيا قد ضمنت لنفسها البقاء في فلسطين بمساعي اليهود الصهيونيين وذلك في مؤتمرهم الذي عقدوه في ديسمبر 1918فطالبوا فيه رسميّاً بفرض حماية بريطانية على فلسطين ثم قدموا طلباً رسميّاً إلى مؤتمر الصلح في فبراير 1919 وتأكدت فرنسا أن بريطانيا ستكون الدولة المنتدبة في فلسطين سواء شاءت أم أبت. فرأى كلمينصو أن يتنازل لحليفته كي يتسنى له الاحتفاظ لبلاده بمركز في سوريا. وقد رضيت فرنسا بموجب عقد خاص بين كلمينصو ولويد جورج في سبتمبر 1919 بفصل الموصل عن سوريا وإلحاقها بالعراق واقتطاع شرق الأردن من سوريا مع إطلاق يد بريطانيا في فلسطين وشرق الأردن والعراق. فلما اتخذت الدول في مؤتمر سان ريمو في 25 ابريل 1920 قرارها بمنح بريطانيا الانتداب على فلسطين، سحبت فرنسا بعثتها السياسية من القدس وكفت بريطانيا عن تأييد الحكم العربي في دمشق وتركته تحت رحمة فرنسا. وهكذا استقرت بريطانيا في فلسطين وشرق الأردن بفضل تصريح بلفور واستقرت فرنسا في سوريا ولبنان.
أهداف لندن
أما الأهداف والمطامع التي كانت بريطانيا تتوخاها من وجودها في فلسطين فهي: -
1- تأكيد سلامة الضفة الشرقية من قناة السويس وقد كانت الضفة الغربية منها في قبضتها أيضاً.
2- إبعاد منافس خطر مثل فرنسا عن هذا الشريان الحيوي.
3- إيجاد قاعدة جديدة لها في موقع هو من أعظم المواقع الاستراتيجية في العالم.
4- تقوية قبضتها على الشرق العربي من أجل إبقاء الممرات العربية – برية وبحرية وجوية – مفتوحة أمام جيوشها وأساطيلها وتجارتها.
5- السيطرة على مصادر النفط في العالم العربي.
6- تمزيق العالم العربي وشطره إلى شطرين يفصل بينهما عدو خبيث.
7- التمهيد من أجل خلق دولة صهيونية في فلسطين تستغلها بريطانيا لضرب العرب واستبقاء نيرها على رقابهم.
وقد زاد أعداؤنا على هذه الأهداف مؤخراً هدفاً جديداً أخذوا يلوحون لنا به وهو استعمال "إسرائيل" بديلاً من قناة السويس وذلك بإنشاء قناة تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر عن طريق إيلات.
اليهود يحاولون غزو لبنان
استقرت بريطانيا في فلسطين بجهود الصهيونية وخدماتها فراحت تكيد لفرنسا التي صارت جارة لها في سوريا ولبنان. ولم تتورع بريطانيا عن استخدام صنائعها الصهيونيين في محاولة للتغلغل في سوريا ولبنان بغية تقويض الحكم الفرنسي فيهما والحلول محله على أكتاف الصهيونيين. وقد وصف المرحوم إسكندر الرياشي بأسلوبه الظريف هذه المحاولة، نذكر مما قاله:
"جاءنا من الجنوب غزو جديد بدل غزو الطليان فقد كانت هجرة اليهود المتواصلة من أوربا لفلسطين أخذت تقلق البلدان العربية وأخذ اليهود ينتهزون انشغالنا وانشغال الفرنسيين بالأمور السياسية وبحكاية الإمبراطورية الرومانية وبأعياد ومشاغب دي مارتيل (المفوض السامي الفرنسي من 1933 – 1938) فراحوا يفدون علينا ليس فقط ببضائعهم ومصنوعاتهم ودعايتهم، بل أيضاً بابتياعهم أكثر ما يمكن ابتياعه من الأراضي والممتلكات ثم – فوق ذلك – جاؤوا تلك السنة يصطافون بكثرة يملؤون الفنادق ويجعلون عن قصد موسم اصطيافهم عندنا أهم وأكثر إرباحاً لنا من موسم اصطياف المصريين الذين كنّا نعدهم حتى ذلك الحين مورد الصيف الرئيسي ولربما الأوحد في لبنان. وما كان اليهود يعملون هكذا إلا ليبهرونا بأموالهم وليثبتوا أننا إذا ماشيناهم يكونون أكبر مورد لنا، فنماشيهم ونسير بركابهم. كما وأن بترول الكويت والسعودية لم يكن قد جعل أمراءها وأغنياءها يستطيعون العيش بدون اصطياف. وأخذ الصهيونيون تحت أسمائهم اليهودية أو بأسماء مستعارة محلية يشترون الأراضي والأملاك على الحدود بيننا وبينهم. ثم توغلوا داخل بلادنا حتى توصّلوا أخيراً لعند البطرك في الأرز والديمان حيث استطاعوا أن ينالوا بطرقهم الخاصة وحيلهم المعروفة مكانة ومنزلة وحيث كادوا يجعلون الأرز المقدس نفسه مستعمرة. ونحن وجميع أهل البلاد غافلون تماماً عمّا يجري معن الخطر الذي يهددنا باكتساح يهودي مخيف يبدأ كما فُعل بفلسطين بشراء أراضي البلاد وينتهي باحتلالها. فأصبح لليهود حصة في بعض الشركات والمصارف والمؤسسات اللبنانية. وهكذا وقف دي مارتيل والمفوضون السامون من بعده في وجه اليهود بطريقة أقوى بكثير جداً مما كان العرب وملوكهم يمكنهم أن يفعلوا، فقطع على اليهود خط الرجعة في هذه البلاد".
أسس السياسة البريطانية
أحبطت فرنسا هذا التغلغل الأنجلو – صهيوني في سوريا ولبنان لا حبّاً في العرب، بل علماً منها بحقيقة نوايا الانجليز نحوها. وبالخدمات الجلّى التي كان عملاؤهم الصهيونيين قد قدموها لهم من أجل صد فرنسا عن فلسطين. ولو نجح الصهيونيون في تغلغلهم في لبنان لنفذوا منها إلى سوريا فقوضوا مركز فرنسا في البلدين ثم طردوها منهما لحسابهم وحساب سادتهم الانجليز. وكما ذكرنا سابقاً كان الانجليز أعدى أعداء الفرنسيين كما كان الفرنسيون أعدى أعداء الانجليز ولعلهم لا يزالون كذلك حتى الآن، حتى ظهور روسيا السوفييتية في الأفق لم يخفف من حدة هذا العداء. ولهذا كانت أسس السياسة البريطانية في الشرق الأوسط بعد الحرب الأولى كما يلي:
أولاً: القضاء على النفوذ الفرنسي
ثانياً: منع التغلغل السوفييتي
ثالثاً: المحافظة على نفوذ بريطانيا في مصر وفلسطين والأردن والعراق.
رابعاً: الوفاء بالوعود والعهود ما دامت تتماشى مع هذه الأهداف.
ولكن الانجليز كان عليهم أن ينتظروا خمسة وعشرين عاماً كي يتحقق لهم في عهد ونستون تشرشل في أواخر الحرب العالمية الثانية إخراج فرنسا من سوريا ولبنان وهو ما عجز لويد جورج عن تحقيقه في الحرب العالمية الأولى عن طريق الحملة السياسية وذلك تمهيداً لخروجها هي (بريطانيا) من فلسطين من أجل تسليمها إلى عملائها الصهيونيين طبقاً لخطتها المرسومة منذ زمن بعيد. فليس من المعقول في نظر بريطانيا أن تخرج هي من فلسطين بينما تظل فرنسا متربعة في سوريا ولبنان. والانجليز كما يصفهم صادق الرافعي، لا يدخلون في شيء "إلّا دخول الإبرة بخيطها في الثوب، إن خرجت هي، تركت الخيط وقد جمع وشد".