-3-
أين أنا؟
سال الدمع من عينيّ سخيًّأ.
تسارع الزمن ثقيلا يقتل الروح.
وجاء صوتها عابثًا:
- أتحبّها يا قبطان؟
- إنّها مرآة الروح سيّدتي، إنّها نورا!
- هل أنت على استعدادٍ للتضحية؟
- نعم، سأفعل كلّ ما تشائين.
- نورا تبحث عن الخلاص في هذه الساعة.
لم تظهر سيدة المحيطات لحظة واحدة أمامي، لكنّها شعرت بآلامي ورغبتي بالتضحية.
- عليك أن تتّبع النفق الأبيض أمامك، هناك في منتصف التيه ستجد روحها العائمة، لك أن تستمر في الارتقاء أو العودة!
سرعان ما انشقت ملايين الأطنان من مياه المحيط الزرقاء.
بان خيطٌ أبيضٌ ناصعٌ يُدْمي العيونَ نورُه.
شعرت بروحي خفيفة.
توجّهت بفكري نحو النفق، ارتفع جسدي دون عناء.
بعد لحظات شعرت بأنّني أنشطر، أتمزّق، كأنّ الروح تفارق الجسد في هذه اللحظة!
شاهدت شخصي يعود إلى قاع المحيط، من حيث بدأت رحلتي الأثيرية.
أردت أن ألوّح لي لكنّي ارتفعت بسرعة خاطفة!
وجدت نفسي لوهلة فوق المركب، بدا التعب جليّا على وجوه المسافرين.
سمعتُ مشادّة كلامية ما بين جيهان وليلى.
- لماذا؟ كانت تصرخ جيهان.
ضحكت ليلى لحظات قبل أن يندثر الأثير.
تسارع الزمن وانطوت عوالم حسبتها لا تنتهي.
تُرى ما الذي يحدث للقلب لحظة مخاض الروح؟
عندما تتزاحم الأفكار ويتوه الوعي عن الحاضر.
كأن كلّ ما مضى سيكون،كأنّ ما سيكون مرئيّ ومحسوس.
أرفع يدي مستسلمًا لحالة انعدام الجاذبية، وتنداح ألحان الكون الأبدية.
سرمدية بألوان خليطة غير معهودة، يطغى عليها لون الذكرى الرماديّ.
يطغى عليها مذاق العسل في كوب مليء بسائل مرّ المذاق.
لا تقوى الأوعية الدموية في أصل العين على البقاء متماسكة!
أتحلّل إلى قطع عشق ناريّة.
سيلٌ لا ينتهي من الأرواح المهاجرة نحو البدايات.
وأُمِرْتُ فجأة بالوقوف!
كتلة فراغية تقف هناك في منتصف الطريق، ومن حولي أقدار تنتظر إرادة عليا.
تبدو الأرواح معلّبة، ممنوعة من البوح.
تنتظر دورها للولوج إلى أعماق السماء.
أرواحٌ تجاوزت حدود الجسد.
أمّا أنا فكنت ما أزال أرقب جسدي
الملقى في قاع المحيط.
شعرت بأنّه لا يعنيني أمره.
حتّى وإن ابتلعه حوت أو مزّقه قرش!
حتّى لو تحلّل إلى عناصره الأوليّة!
كنت أحلّق في عالمٍ جميل مميّز.
وبعد لحظات انفتحت السماء وانطلقت الأرواح مرتفعة.
كنت شبه مقيّد، وسرعان ما نقلوني إلى فرسخ أرواحٍ معلّقةٍ أخرى.
تلفتّ حواليّ، كنت على ثقة من أنّ نورا هناك في الجوار.
هل تتعانق الأرواح؟
هذا ما حدث حين تلتقي الأرواح التائهةا
لقاءٌ حميمٌ، نظراتنا عيون يقتلها الوله.
كنّا نراقب ونشاهد ما خَفِيَ وما يَخْفى عن ملايين البشر.
يا لنا من جهلة، يا لضيق الأفق!
تتجلّى الحياة في جميع مراحلها.
موت بعد حياة، حياة بعد فناء.
كنت وإيّاها نتبادل الأفكار، وكنّا نرقص على ألحان إلهية.
ألحانٌ لم نسمعها من قبل!
شفافيّة تدغدغ أطراف الفضاء، عالم صغير بحجم الكفّ.
كبير لا يدركه البصر، أحبّك!
قلت ضاحكًا، لا تسألوني كيف أدركني الضحك!
- عودي يا نورا إلى قالب الجسد،
أنا بحاجة إلى فيزياء اللقاء وحرارة اللقاء.
قالت:
- لكنك هربت، ابتعدت عن ناظري دون تردّد.
تركتني أسيرة هواجسي قبل أن يعاودني المرض.
- سأعود بعد حين يا نورا.
عودي إلى عالمٍ لم ينهِ أغانيه وأشعاره، عودي حيث الزنابق والريحان.
من يسقي الطيور واليمام؟
من يحضّر للأيتام الطعام؟
يا نورا الهاربة من سلطان الدنيا، ألم تقرئي رباعيات الخيّام؟
وقبل أن أبدأ رحلة عودتي، هبطت روح فَرِحَة وهتفت قائلة:
- كيف مركبك يا قبطان؟
عرفته على الفور إنه مروان.
- مروان! أنت سعيد يا يا مروان؟
- نعم، لقد رضيت بعقابي ومصيري
أنا في انتظار العفو يا قبطان، لقد تسرّعت كثيرًا عندما أزهقت حياة الرجل.
عُذّري أنّ جريمتي جاءت مُصادفة ودون تخطيط مسبق، أشعر بالراحة الآن.
كلّ هذه الزرقة السرمديّة!
حريّة لم يَسْبِق لي ممارستها.
عليّ الآن العودة، للقاء أتمنّى أن يطول.
اختفت روح مروان كفزّاعة، وبقيت وحيدًا في أصل السماء
-4-
- لن أعود إلى جسدي قبلكِ!
وبدأنا رحلة العودة عبر الأثير.
وحين لامست روحي الجسد المُلْقى شعرت بآلام لا توصف.
إنّها الولادة تأتي على حين غفلة!
كنت أصرخ بأعلى صوتي وكأنّ ملايين الإبر لا تتوقّف عن وخزي.
يداي، أصابعي، رئتي تمتلئ هواءً، ثمّ آنت لحظة الزفير.
خناجرٌ تمزّق صدري وعيناي تحدّق في المحيط الأزرق.
ارتجفت أصابع يدي وجال الدمع في عينيّ.
لقد عدت يا مركبي، لقد عدت!
شعرت بالتعب حين صعدت إلى ظهر المركب
كان الشيب قد غزا رأسي، وتساقط الكثير من شعر الرأس!
- كم مضى على غيابي؟ لماذا شعر رأسي أبيض؟
- مضى على غيابك خمس سنوات.
- هل هذا معقول؟
- نعم، أخبرنا كيف وجدت نورا؟
- إنّها بخير. ما الجديد على سطح المركب؟
- رستم غادر الحياة يا قبطان.
أصيب في إحدى المعارك والتهبت جراحه.
مات والألم يحاصر كلّ خليّة من جسده.
أمّا جنرالك فقد غادر المركب وفضّل الانضمام الى أسطول بحري مرّ بالقرب من هنا.
- هل المركب بخير؟
- نعم هذا أكيد.
- لقد اعتنينا به جيّدًا طِوال هذه الفترة
- وأين رستم يا أصدقاء؟
- في الثلاجة يا قبطان، في الثلاجة.
- نعم نحتاج لجثّته في طريق العودة.
أتذكرون جزيرة أبي سنونو؟
- نعم، كانت رغبة رستم أن ندفنه في تراب وطنه.
أليس من الغريب حقًّا أن يكون الجسدَ قد شاخ!
أليس من الغريب حقًّا أن يكون عُمْر روحي ساعات معدودة!
وضعت يدي على وجهي الذي أصبح أكثر نعومة، أصْبَحْتُ أكثر هدوءًا، كأنّ وقع السنوات الخمس دهرٌ من الزمن.
ضحّيت بخمس سنوات من عُمْري من أجل خلاص روحك يا نورا.
أما زلت تشكّين بمحبّتي يا شقيقة الروح
حضرت جيهانُ وقد زادها الكِبَرُ جمالا، خُذْني أيّها المجنون بين يديك.
أريد أن أكون زوجتك الآن، أعرف كلّ شيء عن نورا.
لكنّها بعيدة وأنا لست غيورة.
حين تلتقي بنورا سأمضي في طريقي، ربّما عاجلني الموت قبل ذلك.
أشعر بالموت يزحف إلى جسدي، والحياة تهاجم خلايا الأنوثة يا قبطان.
خُذْني بين يديك الآن، قبل غروب الجسد وفناء حالة الجمال!
وضعت خاتمًا في إصبعها، أخذتها بين يديّ.
احتضنت المرأة الأرملة جيهان، حملتها بين ذراعيّ، مضيت بها إلى قمرتي.
كانت الحجب قد رُفِعَت عن عينيّ.
شعرت بالموت يزحف إلى خلايا جسدها.
بطيئًا باردًا حاسمًا.
جميلتي جيهان، هل تحتملين قصّة حبّ عابرة؟
أم أنّك تسعين إلى دفء الروح لحظات قبل المغيب!
جيهان، امرأة تزحف نحو الشروق، اختزلت ومضات العشق في ليالي الوحدة الطويلة.
أطفأت الأنوار وارتدت السواد حتّى أدركت حدود الألم.
صَعِدَتْ إلى مركبي، كانت تغنّي صامتة.
كانت والبحر الصاخب على موعد.
وبقيت طِوال تلك الليلة تحترق بين ذراعيّ، وفي الصباح كان جسدها قد هوى.
كانت قد فارقت الحياة صامتة!
وكانت رغبتها قضاء ليلتها الأخيرة بين أحضاني، زوجتي أرملة الروح.
قضت حرّة جميلة في حزنها ذو المساحات الشاسعة.
كأنّه الصحراء العطشى لأقدام المغامرين القادمين من رحم المدنيّة.
وضعت جسدها عند طرف المركب، ثمّ صلّيت كما لم أفعل من قبل.
تقتلني الحرقة والرغبة بالمضي ثانية خلف روحي التائهة في خفايا النهايات.
لماذا توفّيت جيهان اليوم تحديدًا؟
كانت تُدْرِكَ ذلك،كانت والموت على موعد.
ليلة البارحة لم تتركني لحظة واحدة، كانت تنتقم من الزمن الذي تركها عارية عند مفترق الطرق، وجدت نفسها لحظة في خريف العمر.
السرطانُ قضي على خلايا الجسد دون هوادة.
كانت قد التزمت الصمت طِوال تلك الرحلة، كانت تخشى النظر في المرآة، وفاتها بأنّ حزنها زادها جمالا.
الوداع يا جيهان.
ابتلعت مياه المحيط العميقة جسدها، ومضى المركب يبحث عن حقيقة أخرى.
وما اكثرها في لجّة الزمن المتسارع عند، مفارق الأبدية والفناء!
-5-
شعرت بأنّ المياه التي دخلتها غريبة، عدائبة!
انتهت مرحلة الأمان وكأنّ الأرملة رمزًا لذلك.
الأمواج مرتفعة وصاخبة، والمياه باردة، ثقيلة، تنذر بالشؤم.
بدأ المركب يصرّ ويتألّم تحت ثِقَل أطنان المياه المتساقطة فوق المركب.
ومن بعيد، بان شبحُ زورقٍ صغير يصارع الموج.
كان لا بدّ من تقديم المساعدة لركّابه، أمرٌ ندمت عليه طِوال حياتي فيما بعد!
قذفت الحبال إلى المركب المنكوب، وبدأت العائلة تزحف فوق الماء لتصعد إلى مركبي.
وما أن صَعِدَ آخر أعضاء العائلة حتّى ابتلعت المياه القارب الصغير.
لا أدري إذا شكرتني العائلة لإنقاذها من موت محقّق!
لكنّ أعينهم القويّة كانت مليئة بالمشاعر المتناقضة.
قرأت فيها بعض الاعتراف والرغبة بالسيطرة والتحكّم.
من يكونوا هؤلاء يا تُرى؟
أخبروني بأنّ الابن لم يتجاوز الخامسة عشر من العمر.
كان آخر من ترك القارب الصغير.
ما يدلّ على قوّة شخصيته وعدم خوفه من المخاطر وصِعاب الأمور.
ترك مركبي بعض الأحبّة على قلبي.
والآن يصعد إليه شخصيات غريبة فاقدة المشاعر.
سألت عن الصغير فقالوا بأنّ اسمه عامر، فقد أخته وأخيه في مياه المحيط.
ونجا وإيّاه أمّه وأبوه.
قالوا لي بأنّ والديه يَخْشون عامر، يحاولون طِوال الوقت إرضاءه ومجاراته.
في اليوم التالي صادفت عامر
فاجأني قائلاً:
- لماذا تتحرّى وتسأل عنّي؟
كان وقحًا، جريئًا وشابًّا.
- وما المانع في السؤال عنك؟
- اسألني مباشرة، أنا بين يديك، ما الذي تريده؟
- حسنًا، لماذا يهابك والداك؟ ما هو سرّك؟
- لا أدري لماذا توجّه هذا السؤال لي؟
اذهب إلى والديّ واسألهم ما يحلو لك.
منذ متى وأنت قبطان هذا المركب؟ سألني الصغير ثمّ حكّ رأسه
كان يحدّق بي وكأنّه يرغب بقراءة أفكاري والنفاذ إلى أعماقي.
- طِوال حياتي وأنا قبطان هذا المركب أيّها الصغير، طِوال حياتي.
لم يعجبْه جوابي، مضى إلى الجانب الآخر من المركب.
يا له من فتى غريب حقًا!
أخذت أحسب لعامر ألف حساب، وأخذ أهل المركب يخشون عامر أيضًا، الذي بدأ يقضي معظم وقته، فوق الحبال عند أعلى السارية.
كان يراقب الأفق ويصدر أصواتًا تشبه إلى حدّ بعيد صوت الحيوانات.
جاءني يومًا وقال:
- أدرك بما تفكّر، لن أغادر المركب بهذه السهولة.
أنا لم أصعد إلى مركبك السخيف هذا كي أغادره دون حدث أو رواية.
بالمناسبة، هل سألت من يدّعون بأنّهم والديّ عن سبب رهبتهم منّي؟
هل سألت الماء عن ملوحته؟
هل سألت السماء عن زرقتها؟
ومضى يتقافز كالقرد من مكانٍ لآخر فوق المركب.
عندها اتخذت قراري النهائي، لا بدّ من التخلّص من هذه العائلة، الصغير منها قبل الكبير.
الغريب أنّني لم أسمع صوت الأب منذ صعوده إلى مركبي، أمّا الأم فكان مغلوب على أمرها!
حان وقت الحقيقة يا عامر.
أمرت بتقييده وعزله في قاع المركب.
أعترفْ بأنّ هذا التصرّف أنانيًا وبِوَحيٍ من الخوف الذي تملّكني، كلّما مرّ طيف الصغير عامر من حولي.
كنت أخشى على مركبي، وكنت أخشى من طموحه الكبير، جاءني التاجر سليمان وقال:
- أيسمح لي سيّدي القبطان بتوجيه ملاحظة؟
قلت له على الفور مندهشًا:
- سيد سليمان، أرجوك قل كلّ ما لديك.
- الصغير عامر يا سيّدي نسخة طبق الأصل عنك.
حاول أن تُزيل من عمرك ثلاثين سنة وستجد نفسك عامر.
- كيف تجرؤ يا سليمان؟
كيف تجرؤ!؟
انعزلت بعيدًا عن أصدقائي العابرين فوق مركبي.
نظرت إلى المرآة أمامي، حدّقت فيها طويلا.
أدركت بأنّ سليمان على حقّ.
إنّه أنا ذاك الصغير الذي كنته قبل ثلاثين عامًا.
كيف سهوت عن ذلك؟
هؤلاء المنعزلون في إحدى زوايا المركب هم والديّ.
يخشون الصغير لسببٍ لا أدركه.
أعرف بأنّ كلّ شيءٍ يحتمل تأويلًا عقلانيًّا ومنطقيّ.
مركبي يحاول أن يخبرني شيئ ما!
يقتطع حدثًا من الماضي ليقذفه في يومي ويتحدّى سلطتي.
سليمان أدرك ذلك على الفور، لاحظ جميع علامات الشبه الشديدة بيني وعامر.
ذهبت لزيارة عامر في السجن المتواجد في قاع المركب.
نظر إليّ مطوّلا وقال دون تردّد:
هل تظنّ بأنّك رجل العصر الذي لا يمكن الاستغناء عنه؟
وكأنّ المركب لا يتنفّس إلا عبر رئتيك!
ما الذي تريده؟ من أنت؟
كان عليّ ألا أطيل النظر إلى عينيه.
شعرت لوهلة بأنّني أسافر إلى لحظة مولدي.
قابلت شبابي هناك، آمالي وطيف نورا الباهت، شعرت بالخوف وضحك عامر على حين بغتة.
- لا تخف يا قبطان، أنا لم ألمس نورا بعد، أظنّ أنّني في غِنىً عن بقايا مائدتك.
كيف تجرؤ يا لعين؟
- هل تظنّ بأنّك قيّدتني وحاصرت حريّتي في قاع المركب؟
بعد لحظات سحب يديه من خلف ظهره ومدّ ساعدين قويين نحوي.
كانت آثار القيود التي حطّمها ما زالت واضحة، بإمكاني قتلك إذا أردت؟
إفعل ذلك أنا لا أخشاك.
في تلك اللحظة، وجّه لوجهي لكمة، طرحني أرضًا وقيّدني.
- المركب الآن ملكي وسترى كيف تكون المٍلاحة يا تافه.
انطلق عامر على عجل، سمعت أصوات العِراك فوق المركب.
وسرعان ما أخذ المدعو عامِر بالغناء.
بعد ساعة من الزمن، رأيت كيف يتدحرج جسد التاجر سليمان الجريح أمامي.
تبادلت النظرات مع سليمان طويلا قبل أن يبدأ حديثه:
- قبضاي، إنّه يتقن دور القبضاي يا قبطان!
أخبرني بالله عليك، ما الذي اقترفته في صِباك؟
اختطاف المركب له علاقة مباشرة بمرحلة مبكّرة من حياتك، أتذكر بأنّني تغلبت بسهولة على القراصنة؟ تغلبنا عليهم بسهولة.
صحيح بأنّ أبا سنونو تمكّن من حسم المعركة بسرعة، ولكنّنا جميعًا كنّا قلبًا واحدًا.
هل تظنّ بأنّنا ما زِلْنا نمثّل المجتمعات المهزومة التي خلّفناها وراء ظهرنا منذ زمن؟
ما الذي تغيّر الآن يا قبطان؟
لقد انتصر علينا بسهولة وكأنّنا سراب، سراب!
كنت أبحث طِوالَ الوقت عن الكلمة – الفكرة.
تهت في لجّة الفراغ الذاتي الذي كنت أدور فيه، وكأنّ خلايا ذاكرتي أصيبت بالعفن.
- نحن سراب يا سليمان. كيف لنا أن نغيّر ما بأنفسنا؟
نحن سراب!
هذا القيد الذي يحيط بيديّ موجود في ذاكرة الهزيمة التي تسيطر عليّ فقط.
حاولت التحرّر من القيد فانفلتت بسهولة.
- على رسلك يا قبطان – على رسلك.
لا تنسَ العجوزين!
قبل قرابة الثلاثين عامًا،كنت أنا ذاك العامر النَكِدْ!
كنت ألعن النهار الذي يمضي دون الاعتداء على أحد.
كنت أسرق غد الأطفال الواعد.
كنت أمارس الإرهاب الفكري دون هوادة.
وكان العجوزان يحاولان جاهدين منعي من المضيّ في تلك التصرّفات.
لكن العنف أعجبني، وكان العجوزان يتألّمان بصمت وحرقة.
- لماذا لا نعود؟
قال سليمان وقد بانت الحسرة والخوف على وجهه.
- لقد تركت متاجرك وقوافلك وحضرت لمركبي عن طيب خاطر.
- المعذرة يا قبطان، لا يهمّني المال، لكنّي أشعر بأنّنا نسير في طريق خاطئ أو مسدود.
- بل هو الطريق نحو المطهر.
لكلّ شيء ثمن يا عزيزي.
- والآن، ما العمل؟
قال سليمان وقد أسقط في يده.
- سنستعيد المركب يا سليمان ولكنّ قبل ذلك، عليّ القيام بأمر تأخّر طويلا، هناك شخصان في انتظاري.
لا تغادر هذا المكان حتّى أعود!
ربّما أدرك سليمان ما أعني بكلماتي تلك، ولكنّه كان خائفًا.
-6-
لم أعِرْه أدنى انتباه. وكأنّه غير موجود.
غضب وأخذ يشتم، كان يرغب بإغاظتي ومعاركتي.
لكنّي أدركت أهدافه والشَرَكِ الذي يحاول جاهدًا رميي في شباكه.
كنت قد تجاوزت الطريق المؤدّي اليهما دهرًا من الزمن، وكنت نادم.
دخلت إلى القمرة المعدمة حيث يجلس العجوزان.
كانا قد شاخا على مركبي.
للحظة أدركا عمرهم الحقيقي، لم يعودا أولئك الوالدين المقموعين في أصل البيت.
انحنيت في حضرتهما، تناولت يد أمّي وقبلتها.
عندها سمعت صيحة عامِر المدوّية، عندها أدركت بأنّه قد اختفى وإلى الأبد.
عاد الأمن إلى المركب وعادت الطمأنينة إلى روحي المعذّبة.
أخذني والدي بين يديه.
- مرحبًا أيّها القبطان. قال فَرِحًا.
مرحبًا أيّها العجوز الجميل.
كان بودّي أن يناديني (يا بني) فقط، هكذا وبكلّ بساطة.
- مرحبًا يا ولدي، يا غريب الأطوار!
أضاف والدي وربّت على ظهري.
أنا الرجل القويّ، كنت بحاجة ماسّة إلى هذا الدلال، كنت بحاجة إلى يدِ والدي الضعيفة.
بقينا على حالنا بعض الوقت، كانت أمّي هادئة كما لم تكن يومًا ما من قبل.
- حان الوقت لنعود إلى عالمنا أيّها الصغير.
كانوا على عجلة من أمرهم، وكأنّهم نفّذوا مهمّة ملحّة، ودّعتهم على عجل وغادرت القمرة.
كان المركب قد عاد إلى جبروته، كان يشقّ البحر بكبرياء وجلل.
- أين عامِر يا سليمان؟
- لقد اختفى إلى غير رجعة، لا يوجد هنا مكان لأكثر من قبطان واحد.
لن نتخلّى عنك فأنت الوحيد القادر على المضيّ نحو برّ الأمان.
اختفت تلك العائلة العجيبة، ولم يبق لهم أثر على المركب، لكنّ الذكرى بقيت تدغدغ الطريق الطويل نحو البدايات.
في الأيام التالية كان سليمان يلازمني معظم الوقت، كان من الواضح بأنّ الغربة قد أخذت تأكل روحه.
سألته في إحدى الأمسيات إذا كان نادما على قدومه معي؟
فأجاب على الفور بأنّ هذه الرحلة هي أجمل ما قام به طِوال حياته.
أخبرني بأنّ المدينة إيّاها كانت تحتضر.
أخبرني بأنّ الليل فقد رونقه في تلك المدينة، ولكنّ تبقى ذكراها ما امتدّت به الحياة.
إنّها المدينة التي سرقت منه وقدّمت له أجمل لحظات الصِبا.
لذا يشعر بالحنين، لذا يدرك بأنّ جزءًا من حياته قد اقتطع.
قرأت كلّ هذا في عينيه، وكان في انتظارنا امتحان جديد.