أدركتنا الأمواج عند أوّل النهار وكنّا قد بلغنا اليابسة.
يابسة مجهولة لا نعرف لها اسمًا ولا تعريفًا جغرافيًا.
رسى المركب وبدأ ركابي بالهبوط إلى الشاطئ الدافئ.
كان الإرتياح بادٍ على وجوه رفاق السفر الطويل.
سليمان بقي إلى جانبي طِوال الوقت، ثمّ انضمّ إلينا صاحب الدرك.
كنّا نشعر بجوعٍ شديد، وذهبنا نتجوّل في المدينة، كانت نظيفة، أبنيتها بيضاء مزخرفة.
لكنّ المفاجأة كانت في طبيعة سكّانها، كانوا جميعهم محجّبين!
نساؤهم، رجالهم وأطفالهم دون استثناء.
شعرنا بأنّنا عراة وسط هذه الحجب الثقيلة، لم تبدُ من وجوههم سوى العينين!
كانت تدور في الحدقات، ترقب كلّ حركة نقوم بها، لكنّهم بالرغم من هذا كانوا مسالمين.
لم يتعرّضوا لنا بأيّ أذى.
ومضينا نبحث عن مكانٍ نطفئ فيه جموح جوعنا.
وصلنا إلى وسط المدينة وكانت المطاعم في انتظارنا.
جلسنا في أوّل المطاعم التي صادفتنا وكنّا نتوقّع طردنا من هناك، بسبب عرينا المتمثّل في وجوهنا السافرة.
ظهر الخادم بملابس بيضاء أنيقة، وضع أمامنا لائحة الطعام ولم يتفوّه بكلمة.
كنت أرغب بمعرفة السرّ الذي يحيط بهؤلاء الناس.
- ما رأيك يا سليمان؟
- والله أنا محتار، لا أدري ماهيّة سرّهم، ولماذا كلّ هذا التخفّي؟
- ربّما علينا أن نسأل أحدهم عن هذا التقليد!
قال صاحب الدرك وهمّ بتنفيذ اقتراحه على الفور.
- انتظر يا صاحبي، انتظر، دعنا نرى هذه القائمة.
في أسفل القائمة كان الخادم قد كتب بخطّ صغير "يُمْنَع طرحُ الأسئلة"
- أترون ما هو مكتوب في أسفل القائمة؟ ممنوع طرح الأسئلة يا أصدقاء!
قال سليمان وقد سال لعابه:
- أنا جائع للغاية. دعونا نطلب بعض الطعام.
- ألا يجب علينا أن نعرف أولا أفضل الأطعمة المتواجدة في المطعم؟
أضاف صاحب الدرك.
لكنّ سليمان أجاب على عجل:
- لا، الإتّفاق ينصّ على عدم طرح الأسئلة.
حضر الخادم بعد قليل وكان قد كتب على ورقة بيضاء،
- لا تطلبوا سمكًا.
- أحضر لنا أيّ شيء، ليكن دجاجًا أيّها الكريم.
انطلق الخادم بعد أن اختطف الورقة من أيدينا.
لم يَمْضِ سوى وقت قصير حتّى حضر الطعام وكان شهيًّا للغاية.
بدأنا نأكل بشهيّة واضحة، كنّا على وشك الإنتهاء عندما حاصرنا رِجال الشرطة.
كانت الأسلحة موجّهة نحونا، ومن بعيد شاهدتهم يجرّون الخادم إلى سيارة الشرطة.
كانوا يركلونه ويشدّون شعره من تحت الأردية الكثيرة التي كانت تغطّي وجهه ورأسه، وسرعان ما سقط الرداء الذي كان يغطّي رأسه.
كانت امرأة في منتهى الجمال!
كانت امرأة قادرة على أن تُفقد الرجال آخر ما يملكون من خطوط الدفاع.
كانت امرأة قادرة على زرع الفتنة فوق المراكب وفي بلاد الله الواسعة!
دقّقت النظر بعض الشيء، ثمّ لكزت سليمان قائلا:
- جميع سكان المدينة نساء، الشرطة، الحرس، الخدم. جميعهم نساء.
- نعم، صدورهنّ تكشف عن أنوثتهنّ.
- ولكن لماذا اعتقلونا؟
- هذا ما سنعرفه في المحكمة إذا كان هناك محكمة في عالمهم الغريب هذا!
كنّا في قفص الإتّهام أنا ورفاقي والمرأة إيّاها التي وقعت في شِباك العدالة بسببنا.
حضرت القاضية المحجّبة بالكامل وبدأت الجلسة.
- هل قمت بتحذيرهم بخصوص السمك؟
- لم أقصد الإساءة.
- هل قمت بالتحذير؟
- نعم، طلبت منهم عدم أكل السمك.
- إذن، هم سألوك عن أنواع الطعام المعروضة في المطعم؟
- لم تكن هناك أيّة أسئلة.
- هذا واضح، أجهزتنا تشير إلى أنّهم لم يطرحوا أسئلة في مدينتنا، على أيّة حال لدى الإدعاء العام بعض الأسئلة التي يرغب في توجيهها إليك، وبالرغم عمّا يمكن أن يصدر عنك من أحاديث، أشعر بالاشمئزار من خيانتك للمدينة التي حافظت على كرامتك، وصانت قدسيّتك طِوال هذه السنوات. تفضّل حضرة المدّعي العام.
كنت أعلم أيضًا بأنّ جميع المتواجدين في حرم هذه المهزلة نساء عدانا نحن الثلاثة.
- المواطِنَة البارّة تعمل في إحدى المطاعم وسط المدينة، ولم يبدُ من تصرّفاتها ما يشير إلى انقلابها على عالمنا هذا. لكنّها وقعت في فخّ الرذيلة دون مواربة، ولدى الاختبار الأول الذي تعرّضت له حين قابلت هذا المسخ (أشار إليّ) وهذا المسخ (أشار الى سليمان) وهذا المسخ (أشار إلى صاحب الدرك). سارَعَتْ بالكتابة. (نظر إليها مباشرة) ما الذي جعلك تكتبين هذه العبارة؟
- سماحة القاضي، هل لي بكلمة؟ قلت على الفور. لم أعد أحتمل استمرار هذه المهزلة التي تدور أحداثها أمامي.
- أنت تقاطع المدّعي العام أيّها..؟
- أنا لست مسخًا، ومقاطعتي للمدّعي العام قانونية.
- حسنًا ليكن ما تريد. تحدّث، ولكن باختصار شديد. قالت القاضية وقد بان الغضب في عينيها ونبرات صوتها.
- نيابة عن زملائي نحن لا نمانع في تناول السمك، وهي وجبة مفضّلة لدينا لأنّنا أبناء البحر. وقد كنّا على وشك سؤال خادم المطعم عن الوجبات المتوفّرة في المطعم. حقيقة لم نكن نعلم بأنّ الأسئلة ممنوعة في هذه المدينة، نحن غرباء ونحتاج إلى بعض الرعاية والاهتمام والتوجيه، خاصّة ونحن لا نقصد إيذاء أحد في هذه المدينة الجميلة. لا أدري ما الذي استدعى هذه المحاكمة؟ ولماذا لم يتم تخصيص محامٍ يدافع عن حقوقنا؟
- هل انتهت مداخلتك أيّها الغريب؟
- نعم يا سماحة القاضي، لقد انتهيت.
- تستطيع أن تكمل تجريمك لهذه العصبة حضرة المدّعي العام. قالت القاضية دون أن تجد كلماتي صدىً لديها.
- هل قلتم بأنّكم على استعداد لتناول قدرا كافيًا من السمك؟
أدركت بأنّ السمك الذي يحضّرونه للأجانب يحتوي على مواد خاصّة، ولها غاية محدّدة لا أعرف كنهها لغاية اللحظة!
- نعم، نحن على استعداد لتناول السمك المطلوب، ولكن ألا يحقّ لنا معرفة بعض القضايا التي استعصت على مداركنا؟
- لكنّ الأسئلة ممنوعة يا حضرات..
- لكلّ شيءٍ ثمن. نحن وافقنا بالطبع على تناول السمك.
ضربت القاضية الطاولة أمامها بمطرقة العدل الصغيرة وقالت:
- سؤال واحد فقط.
- لماذا كلّ هذه الأقنعة؟ قذفت سؤالي على الفور.
- هذا ألف سؤال، إلاّ هذا السؤال يا مجرمين. إلاّ هذا السؤال!
بقي المدّعي العام يكيل لنا الاتّهامات الواحدة تلو الأخرى حتّى تعب وجاء دوري للمرافعة، كنت غاضبًا فأنا لا أعرف قوانين هذا البلد، وستأتي مرافعتي كلامًا عابرًا ونثرًا واجتهادًا قد يكون خاطئًا. ولكن، ليس لديّ أيّ خيارات. أردت من خلال مرافعتي فضحهم واستخدام أسلوب الهجوم كأفضل طريقة للدفاع.
- أنا لست غبيًّا لطرح الأسئلة عليكم. أسئلة لا أعرف أجوبتها مسبقً!
- ماذا؟ هل انت جاسوس؟
- أرجوك يا حضرة المدّعي العام. أنا لم أقاطعك خلال مرافعتك، دعني أكمل ما لديّ ثمّ بإمكانكم اتّخاذ الحكم الذي ترونه مناسبًا بحقّي. السمك هذا يتسبّب بطمس الذاكرة والشخصية. هناك الكثير من الرجال فيما بينكم، لكنّهم تناولوا كميّات من سمككم المسموم، حتّى تُطْمَسْ ذكورتهم، ويبدأون بتصديق حقيقتهم الأنوثية المزوّرة، والزمن كافٍ بعد ذلك لتثبيت هذه الحقيقة الزائفة. أعتقد جازمًا بأنّ الفتاة التي تجلس في قفص الاتّهام إلى جانبنا هي في واقع الحال امرأة. لكنّها تشكّ في ذلك، وترغب بالتحقّق من هذا. بالطبع أنتم لا تستحقّون عناء إخباركم كيف تمكّنت من معرفة ذلك. ولكنّي ذات الوقت قادرٌ أيضًا على كشف الرجال المنتحلين عنوة أجساد نساء. هل ترغبون بتوضيح هذا الأمر الآن؟
عندها ضرب القاضي أو القاضية الطاولة أمامها بمطرقة العدل الصغيرة، وصرخت
- ما هذا الهراء؟
نظرت إلى عيون الحاضرين وتيقّنت من أنّ الشك قد بدأ يدبّ في صدورهم.
- حضرة القاضي المحترم. هل أنتم على ثقة من أنّني سأتناول الكميّة الكافية من ذلّكم، حتّى أتحوّل إلى الجنس الذي تريدون، آخذين بعين الاعتبار مقدرتي على المراوغة؟ هل ما زلتم تصرّون بأنّنا مسوخ تافهة؟
- حسنًا ما الذي تريدونه؟
عندها أدركت بأنّ الوقت حان لألقي في حرم المحكمة مفاجأتي الأخيرة.
- سماحة القاضي، أنت في واقع الحال رجل وسيم قادر على إنجاب الكثير من الأطفال، والاستمتاع بهذه الحسناء التي يحاول سعادتكم محاكمتها، والقضاء على مستقبلها. وأنا واثق كلّ الثقة من حديثي هذا. وإذا أراد الحضور الكريم التأكّد من هذا الشأن، ما على القاضي سوى أن يزيل هذه الأحجبة عن رأسه ووجهه!
ارتفع الصخب في الصالة وأخذ البعض يشيرون بأصابعهم إلى القاضي.
همس سليمان في أذني وقال:
- انت مجنون. إذا ثبت خِلاف ذلك فستمزّقنا الحشود الغاضبة المتشكّكة من حولنا.
- هذا هو المطلوب يا سليمان، الشكّ هو وسيلتي، ولن تعمد أو يعمد هذا القاضي على إزالة الأقنعة عن رأسه ووجهه. سلطتهم قائمة على الخوف والتنكّر للإنسانية. الشك هو الذي سيدفع بهؤلاء الناس إلى الثورة ضدّ هذا الواقع المزري، واقع الأنثوية القاصر. لقد كسروا أجنحة النساء، عهّروا الأمومة والمشاعر الأنثوية بهذا التمويه القاتل. حتّى وإن خلع القاضي حجابه وبدا امرأة، فإنّ الجميع هنا سيسارعون للمرآة لخلع القناع ورؤية حقيقة الأرواح الكامنة خلفها.
- تُرْفَعْ الجلسة لنصف ساعة.
- سماحة القاضي، انزع عن وجهك هذا الحجاب!
قال أحد الحضور بصوتٍ مدوّي، تبعه آخر وآخر وآخر. لم تمضِ سوى لحظات، حتّى أخذت الحجب تتطاير، بانت أخيرًا بعض الشوارب، كانت فرحتي لا توصف، وكان الرجال مزهوون برجولتهم، والنساء اطمأنّت لأنوثتهنّ المسفوحة تحت وطأة الحجب.
سارع القاضي أو القاضية ((لا أعرف حقيقة ماهية جِنْسه)) بالهرب إلى الخارج. اندفعت الجماهير خلفه، كانوا راغبين بمعرفة الحقيقة! ازدحمت الشوارع بالجماهير المحتشدة، هاجموا ما تبقّى من المحجّبين.
جلست قِبالة مركبي وطفقت أبكي. كلّ هذه المجتمعات المهزومة يا فؤادي، لماذا لا تمارس ما يشبه التمرّد؟ لم يكن هناك عيب في السمك، إنّه مجرّد الوهم! أخبرتني الخادمة نجوى التي كانت متّهمة معنا، بأنّهم اختاروا الدجاج كوجبة مبهمة في العام السابق. وكانت نجوى محتارة في تلك الأساليب، كانت تبحث عن ذاتها وسط هذا الوهم.
لم تكن مدينتي الوحيدة التي تعيش حالة من الوهم. هناك العديد من المجتمعات المهزومة الأخرى، وكان من السهل تحرير أرواحهم. لماذا تستعصي الحريّة علينا يا فؤادي؟ لماذا نقدّمها للغير ونبقى نجترّ هزائمنا عبر المحيطات والقارات المجهولة؟ حاصرتني الأسئلة مجدّداً، وليس لديّ أجوبة شافية. ليس لديّ رغبة بالمضيّ نحو العالم الخارجي بهذه السرعة. كنت متعبًا من حالة الإبحار الطويلة المتواصلة.
قَدِمَتْ نجوى، وضعت رأسها على كتفي، قبّلتْ جبيني واختبأت في معطفي الرقيق.
كانت في تلك اللحظة راغبة بالانحلال في عالمي.
نجوى قصيدة لم تكتمل، وكانت بانتظار قوافٍ لم تكتمل.
كانت ترغب بالتسامي فوق صفحات تاريخها الهارب من مفكّرة الزمن.
- أنت لست بحاجة لي يا نجوى، ربّما لأنّني ساعدتك للهرب من عالم الوهم، تجدين الآن نفسك مدينة لي!
- أسكت أرجوك، أنت لا تفهم حديث القلب على ما يبدو!
- أنا لا أفهم حديث القلب يا سيّدتي؟
- لا تصدّني عنك مهما بدر منّي!
- أنا غير قادر على اقتسام قلبي بين امرأتين يا نجوى. هناك نورا التي تنتظرني عند حدود المغيب كلّ يوم. هل تفهمين خارطة القلوب يا عزيزتي؟
- نعم، أفهمها جيّدًا. أنا الآن نورا البعيدة. دَعْني أتقمّص شخصية المرأة التي تبعد عنك رَدْحًا من الزمن.
كان في كلامها منطق امرأة تحرّرت من عبودية الجسد، أخذتها بين ذراعيَ وتلقّفت شفتيها. تُهْنا في قبلة طَويلة. حين انفصلت شفاهنا نظرتُ إلى عينيها مليًّا.
- مرحبًا يا نجوى. كأنّي أراها للمرّة الأولى! أخشى على شفتيك الاندلاق في دوّامة الشهوة.
- هل تهدّدني بالدواء الذي بحثت عنه طويلا؟
- هناك سليمان وصاحب الدرك وكلاهما يرغبك ويطلب ودّك.
- أحيانًا تضيق بنا الدنيا ولا تتّسع عينا المرأة سوى لرجل واحد.
يبدو الحوار أفلاطونيًّا ولا يصبّ في منابعها الظمآى!
ربّما كنت رجلا غبيًّا في تلك اللحظة. على أيّة حال، أنا لست مثاليّ.
قررت المضيّ مع نجوى لقطف بعض النجوم.
في تلك اللحظة، كانت قطوف الكرم قد تدلّت وامتلأت بعصير حلو المذاق، كان الشهد يقطر من حلماتها، يبحث عن أفواهٍ عطشى لصدى النداء.
-3-
أخذ سليمان يدير عمليّات تجارية ناجحة. أشار لي بأنّهم أبرياء وساذجين للغاية فيما يتعلّق بأصول التجارة. وحين حدجته بنظراتٍ ناريّة متساءلة، أقْسَمَ أنّه لا يغشّ، وكلّ ما في الأمر أنّه يقوم بعمليات شراء وبيع لا أكثر! سألته بأنّ هذا سهل للغاية فأجاب:
- لقد عاشوا في مجتمع منغلق، وكانوا يخشون طرح الأسئلة خوفًا من نظام الحكم القمعيّ. وبعد انهيار قوائمه تحرّروا، لكنهم بقوا أسرى أفكارهم البالية. تصوّر أنّهم عرضوا عليّ شراء مصنع تصل قيمة البضائع الجاهزة للتسويق في ساحته ضعف ثمنه.
- إنّهم ينتقمون من الدولة التي اعتبروها بقرة جاهزة للقتل والتقطيع. طلبت لقاء عمدة المدينة، وكان لي ما أردت على وجه السرعة.
- سعادة العمدة، أنتم تمزّقون البلد!
- ماذا تقصد أيّها المخلّص؟
- تبيعون أصول اقتصادكم بأموالٍ بخسة، مقدّرات المدينة أضحت بين أيادٍ قذرة. أعتقد أنّك تفهم ما أريد قوله؟
- نحن نرغب بالتخلّص من نظام الدولة الذي جعلنا أسرى وهمٍ اسمه الوطن. كلّ شيء مباح الآن، أدرك ذلك ولكن لا بدّ من التضحية. نحن نرغب بارتداء معاطف الحريّة!
- سعادة العمدة الموقّر، أنتم تعرضون أسهم محطّة توليد الكهرباء للبيع مقابل مبلغ قادر على تأمينه مغامر صغير. الطاقة عصب الحياة في مدينتكم، قد تضطرّون لشراءها من أماكن أخرى! وسيكون ثمنها أضعاف الثمن الذي تدفعونه الآن. ثمّ شركة الطيران التي تملكونها، والتي تنقل عدد كبير من البشر عبر هذه المدينة – الجزيرة. إنّها تحمل علَمُكُم ورمز دولتكم الجميلة. كيف تعرضونها للبيع لشركات مشبوهة وغير معروفة؟ أنت تافه يا حضرة العمدة، أنانيّتك ستؤدي إلى إفقار وتجويع هذا الشعب. لقد حقّقت الكثير من الأرباح على الصعيد الشخصيّ. ألا تكفيك الأموال التي جمعتها في البنوك الأجنبية؟
- كيف تجرؤ على شتمي وتجريحي؟!
وقف العمدة وبصق الطعام الذي ي فمه خوفًا من الاختناق. كان مستشاطًا نم شدّة الغضب بعد أن واجهته بتلك التهم، أضاف بعد قليل صائحًا:
- شركاتنا قديمة وتحتاج إلى التجديد، هل هذا واضح؟
- تحتاج إلى التجديد وليس للبيع. رجالك يبيعون آلات الإنتاج الجديدة المغلّفة، حتّى زيوتها ما تزال عذراء يا عمدة! ومع كلّ صفقة يطرد المالك الجديد جميع الموظّفين، ثمّ يبيع ما اشتراه بالسعر الحقيقي للسوق، ليصبح مليونير جديد وصاحب رأسمال سهلا للغاية. وغدًا سيطالب بمركزك وسيتمكّن من السيطرة على مقاليد السلطة، لأنّ رأس المال كما تعلم هو أقصر الطرق للسلطة. أنت تصنع مافيا يا عمدة. أنت تصنع مافيا يا رجل.
كان العمدة متأثرًا ومتورّطًا في الوقت نفسه! لم يعد قادرًا على التوقّف، لقد أصبح أسير الشبكة العنكبوتية التي نسجت خطوطها الأولى. أتى إلى طرفي في أحد الأيام وطلب منّي نصيحة. لكنّ الوقت كان قد فات، فقد تمكّنت المافيا التي ترعرعت على يديه من القضاء على جميع أعوانه الشرفاء. كانوا يقومون بعمليات تصفية أسموها "بالمبلولة"، وذلك نسبة لبرك الدمّ التي تخلّفها بعد تنفيذها.
بعد أسبوع من زيارة العمدة علمت بأنّه قد انتحر بعد أن فشل في مقاومتهم والوقوف في وجههم. كانت علاقتي جيّدة مع المدير العام للبنك المركزي، فقد كان رجلا شهمًا يعشق الوطن ويقسم بترابه، جاءني يومًا والعرق يتصبّب من جبينه:
- لقد طلبوا قرضًا بنكيًا هائلا يا قبطان، ولم يقدّموا أيّة ضمانات أو أملاك تغطّي ولو جزءًا صغيرًا من المبلغ المطلوب، وقد يؤدي هذا إلى إفلاس البنك بل البنوك بل القضاء على اقتصاد البلد برمّته!
- هناك مجلس إداري يا عزيزي، ليس من الضروري تحمّل هذا العبء لوحدك.
- المجلس الإداري موافق بالكامل، بل أخذ أعضاؤه يلوموني لمماطلتي على الموافقة والتوقيع لصرف القرض. لقد شروا ذممهم يا قبطان!
- لا أدري كيف أساعدك يا صديقي، لا أدري كيف أساعدك؟
بعد يومين ذهبت لزيارته في مكتبه، دخلت دون أن أقرع الباب وكانت مفاجاتي كبيرة. كان وجهه أزرقًا ومخضرًّا، جسده كان قد تلوّن. يا لها من ميتة. كان بإمكانهم قتله برصاصة لا يزيد ثمنها على بضعة دولارات. بيد أنّهم وضعوا في كرسيّ الإدارة الأسود الفاخر، قطعة من اليورانيوم المشعّ، التي يصل ثمنها إلى رقمٍ قياسيّ. قتلوه علانية وبصورة بشعة، دفعوا مئات الآلاف من الدولارات ليكون المدير عبرة لخلفه! من جهة أخرى، كانوا يرغبون عرض عضلاتهم ومقدراتهم. كانت أعينهم تصل إلى كلّ مكان، وكانوا قد هدّدوا سليمان بالابتعاد عن المشاريع الرابحة، وكان سليمان قد حقّق أرباحًا خيالية خلال فترة زمنية قصيرة، لكنّه توقّف إثر تلك التهديدات خوفًا على حياته.
استمرّت عملية إخلاء جثّة المدير المنكوب عدّة أيام. دخل رجالٌ يرتدون ملابس بلاستيكية مطعّمة بالقصدير، حتى لا تدركهم لعنة الذرّة والإشعاع. منعوا الجميع من التوجّه إلى المبنى فترة طويلة من الزمن، حاولوا جهدهم التخلّص من الإشعاع القاتل! هل أدركوا في الواقع بأنّ الإشعاع الأخطر أصبح يقطن في عمق أرواحهم، ويعبث بمستقبل أمّتهم بالكامل؟
نجوى حامل. مضى على وجودي هنا سنتان، أخذ بعض معارفي بإلقاء اللوم عليّ بعد ان ارتبطت بنجوى.
سمحت لها أن تلج عالمي، كنت بحاجة إلى فضاءات جسدها.
علاقتي بها كانت محاولة للرحيل نحو الضوء والحلم القابع في رحم الكابوس.
تجرّأت على ممارسة فضيلة النسيان
لوهلة!
مضيت أسعى نحو الأفق.
أفاق الجسد المتكوّر في قبضة يدي!
أعشق جنون الرغبة الخارجة عن حدود الألم، أنا الأنانيّ لا أتنازل عن مستحقّات اللحظة.
كنت قد قدّمت لامرأة أخرى خمس سنوات لتبرأ روحُها.
لست بنادمٍ على الأيام التي تساقطت من تقويم حياتي.
دعوني أتيه في لجّة الجسد الماثل أمام عينيّ، لحظات العشق لا تنتهي، وكانّي برئت من الحنين.
لا عودة عن مشاريع القلب المفاجئة، هكذا دون أن أطلب إذنًا من أحد.
من يقف في طريق خياراتي؟
سأحملها عبر أنفاق الروح المظلمة، علّني وإيّاها نجد نجمًا يضيء طريقَنا.
كنتُ قد دعوتُ الأولى إلى جنون التيه دون جدوى، أخذت أناديها بالأولى، نسيت اسمها!
وكأنّها نورا، ما الفرق؟ ضعنا في حمّى الحدث.
لا ينقضي الليلُ قبل أن أمتصّ رحيقها، أنا الرجل الهائم في وجوه الدنيا وأقنعتها.
كيف أصبحتم اليوم قضاة تدينون فؤادي؟
ابقوا في خارطة خطاياكم، دعوني أعيش لحظتي، سأمت عالمكم المثالي.
كنت في تلك اللحظة لا أرى من النساء سوى نجوى.
وكانت هي قادرة على هتك ستائر الحياء والخجل.
كنت في انتظار ابني الذي سيحمل يومًا اسمي. ولكن مهلا يا قبطان!
منذ متى تعني لك الأسماء شيئًا؟ هل الأسماء تصنع حامليها؟
أم أنّها تصبح في وهلة من الزمن لعنةً لا تُحْتَمَلْ؟
لن أعفيكم من أسئلتي اليوم، أنتم يا أحفاد المجتمعات المهزومة!
-4-
تخلّى عنّي الجميع سوى سليمان وصاحب الدرك.
كنت قد تزوّجت نجوى، وكانت هي على استعداد للمضيّ معي إلى ما وراء البحار، لكنّها طلبت قبل ذلك زيارة عائلتها للوداع. كانت على يقين من أنّ الرحلة ستطول. قرأت بعض الحزن في عينيها، وكان هذا جلّ ما أكره. إلاّ الدموع! لأنّها تغسل حدقات العين، لأنّها أفضل وسيلة لخيانة المشاعر. تموت المشاعر بعد البكاء.
- متى ننطلق لوداع عائلتي؟
- عند الصباح ننطلق برفقة ما تبقّى من أصدقائي، عند الصباح. ولكنّ أخبريني يا نجوى، أما يزال والداك محجّبين حتّى الساعة؟
- لا أظنّ بأنّ أحدًا بقي خفيًّا في هذه المدينة. بل على العكس من هذا، لقد تعرّى أهل المدينة. أصبح العري موضة تروق للكثيرين!
كان الجوّ جميلا والشمس ساطعة تريح الأعصاب المشدودة من حمّى الانتظار والاشتياق المقبل عند مقتل الشمس في المساء. ما أن جلست على المقعد حتّى غبت في سباتٍ طويل. إنّها المرّة الأولى التي أسافر خلالها في وجهة بعيدة عن البحر. كان وجه البحر دائمًا قبالتي. والآن، أخذنا نبتعد عنه بسرعة. كأنّها محاولة لولادة جديدة في هذا الكون الهلاميّ الضبابيّ!
شيءٌ ما يموت في داخلي،
كلّ هذه النسبية في عالم مطلقّ.
أمْسَكَتْ بيدي كانت يدُها تحترق!
أدركت بأنّ هناك بعض الشياطين الذين يتلاعبون بأفكارها الهائمة.
معتركٌ يتفاقم مع صوت المحرّك الرتيب، أنا هنا، ما أزال أبحث عن آيات الخالق وسط هذه الفوضى.
شدّت على يدي، كانت خائفة. هناك حيث أخذت الحافلة تصعد نحو جبل شاهق مرتفع. الحافلة تزحف تعارك قوانين الجاذبية، والمحرّك يصرخ غاضبًا، كيف للسائق إراحته وعينُ الجبل تحدّق ساخرة من عجز الطبيعة! الألم يتفاقم في جوف العجلات وحرارة المحرّك ترتفع دون مبرّر، رائحة الكاتشوك زكمت أنوفنا وهاجمت خلايا الدماغ المتحسّسة للخطر القادم على أجنحة المجهول.
الحافلة تصعد متعبة، وأنا أشعر بقلب الجبل يدقّ متسارعًا، لا تخمد حدّته مع كلّ مترٍ تقضمه العجلات.
- هل تشعرين بوجوده؟
- أشعر بماذا؟
- قلب الجبل يا نجوى، قلب الجبل!
- وهل للجبل قلبٌ ينبض؟
صمتّ على الفور، لا أحد يقدر استشعار أسياد الجبل، وعيونهم التي تحدّق في الماضين إلى أسراره. كنت أشعر به يتململ، شيءٌ ما يمنعه من السماح لنا بالمضيّ قدمًا إلى أسراره وعالمه! الغارق في سكينة أبديّة.
- أين يقطن أهلك يا نجوى؟
- هناك، عند قمّة الجبل.
لن نصل إلى هناك بسهولة، لقد تحرّك قلب الجبل وهو غير راضٍ عن حضورنا. ومضينا باصرار نحو تلك القمّة الشامخة. نظرت إلى سليمان وإلى حارس الدرك، فوجدتهم غارقين في نومٍ عميق. وصلت الحافلة إلى استراحة صغيرة فوق إحدى التلال. نظرت إلى وجه قائد العربة فوجدته شاحبًا.
تجنّب النظر إلى عينيّ، تجنّب النظر إلى وجوه المسافرين أيضًا.
انطلق إلى بهو الاستراحة، ولج إلى دورة المياه وسرعان ما خرج.
جلس إلى إحدى الطاولات وطلب بعض القهوة والعصير وقررت الجلوس إلى جانبه.
- أنت تعرف بأنّه لا يمكننا الاستمرار حتى نهاية الطريق؟ وجّهت السؤال إليه محدّقًا في عينيه.
- نعم، لا يمكنني تحريك الحافلة إلى الأمام ولا لحتّى شبرٍ واحد. أشعر بأنّ الأرض تهتزّ من تحتي. المحرّك سينفجر، هذا أمرٌ لم أعايشه سابقًا، كأنّ الجبل يلفظنا ويرفض ولوجنا إلى عالمه. لقد عبرت هذا الطريق مئات المرّات، هذه هي المرّة الأولى التي يرفض الجبل عبور حافلتي إلى القمّة.
طلبت من سليمان وحارس الدرك البقاء في الاستراحة والنوم فيها أو العودة إلى المدينة. لم أسمح لهم بتوجيه أيّة أسئلة. أدركوا على الفور مخاوفي ووافقوا على اقتراحي.
- نجوى علينا التوجّه إلى القمّة لوحدنا، هل أنت مستعدّة لذلك؟
- طبعًا يا عزيزي، معك لا أخشى شيئًا. أمّا أنا فأخشى الكثير منذ هذه اللحظة. هناك غضب يتكاثر في كبد الجبل. يراقبني، يراقب كلّ خطوة أقوم بها. أشعر به يحدّق في جميع خلايا جسدي. غاضبٌ، مستهترٌ وعملاق. ويبدو مدوٍ وحانقٍ ومستفسرٍ ومداهم.
أخذنا بالصعود إلى الأعلى، خطوة إثر أخرى. أمسكت بيدها جيّدا، صاحت نجوى متألّمة:
- أنت تؤلمني، أترك يدي أرجوك.
عندها رأيت عينيه تضحك ساخرة. إنّه يحاول الانتقام جاهدًا. لم يخطر لي من قبل بأنّ للجبال عيونٌ تفضح مزاجهم. تُرى هل سيفصح عن هواجسه ومخاوفه؟
لم يطل الأمر بي، حملت حجرًا وقذفت به في وجه اللعين.
- هذه لك يا جبان!
اختبأت نجوى خلفي، كانت ترتجف نم شدّة الخوف.
- هل تظن نفسك قادرًا على إرهابي؟ سأقلع عينك بيديّ هاتين. قذفته بحجرٍ آخر أكبر من سابقه وكنت أصرخ بملء صوتي، كنت ألعن وأشتم وأتحدّى. نظرت إليه، أردت أن أرى ردّة الفعل التي تركتها في عالمه العملاق، لكنّي لم أرَ سوى العجب! نعم، كان مندهشًا من فورة غضبي. أوداجي منتفخة والحريق يشتعل في أوردتي، وقلبي ينبض بكلّ ما أوتي من عنفوان!
- ما الذي تريده؟ ألا تخجل من لحيتك البيضاء يا عجوز؟
- تسمّيني عجوزًا؟
- نعم، لا ينقصك سوى المرآة كي تتيّقن من ذلك. تأمّل التجاعيد التي تركها الزمن في تضاريس وجهك الحجريّ. همهم وحكّ رأسه فارتجّت الأرض من تحتي. حافظتُ على رباطة جأشي ولم أتحرّك قيد أنملة.
- ما الذي تفعله يا قبطان؟ أنت تقتلنا بتصرّفاتك هذه! أنت لا تعرف مدى قدراته، هل نسيت بأنّ قلبه بركان وقادر على الثورة في أية لحظة مقبلة.
- بل هو بركان ميّت خامد. هل تسمع أيّها العجوز القذر؟ أنت بركان ميّت لا تقدر على بثّ الدفء حتّى في جدائل امرأة.
- ما معنى هذا يا قبطان؟ كيف يمكن لأحد أن يبثّ الدفء في جدائل امرأة؟ هل تريد حرق شعر النساء المتطاير في الأنحاء؟
- آه، كان هذا منتهى الغباء يا عزيزتي. على كلّ حال، أنا آسف!
- أيّها الكبير، أرجو أن تسامح زوجي على تهوّره وغبائه، لم يكن يقصد إهانتك!
- زوجك لا يقدر على إهانتي أيّتها الحسناء. على أيّة حال لقد تخطّيتما الامتحان، لكن يجب أن تمرّ من جانبي كي أسرّ لك بأمرٍ مهمّ وعاجل!
- لكنّنا في عجلة من أمرنا يا سيّد الجبال!
- لا تكن لحوحًا أيّها الصغير الفاني، قلت لك احضر إلى طرفي، وإلا فعليك أن تعود أدراجك!
- حسنًا، كما تشاء، نحن قادمون.
كان قد أغمض عينيه طِوالَ الطريق التي كنّا نخطوها تّجاهه، لكنّي كنت على يقين من أنّه يرقبنا بطرف عينيه. جفناه الحجريّتان تتحرّك بتثاقل، كلّما تعثّرتُ ونجوى ببعض الحصى. وكانت نجوى حائرة في فهم معنى كلّ ما يجري.
- لم يبقَ أمامنا سوى القليل يا نجوى.
- لماذا لا يدعنا وشأنا؟ ما لنا وكتلة الحجارة هذا؟
- دماغه كما ترين من حجر، ولا يمكن الاقتناع بسهولة.
قمم الجبال تمتدّ أمامي، لم أعد أشعر بالبرد بسبب المشي الطويل والمجهود الكبير الذي كنّا نبذله للوصول إلى غايتنا المنشودة.
بَدَتْ أخيرًا طرفُ لحيته للعيان، وهذا يعني بأنّ المشوار قد أشرف على الانتهاء. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ سيّد الجبال، كان طوال الوقت هادئاً إذا ما قورن بأسياد البحار والجزر. وهم في معظمهم نساء شبقات لا يقبلن بالقليل أبدًا.
- وصلت الى طرف شفتيك يا سيّدي، أخبرني أخيرًا عن مطالبك؟ ماذا تريد بحقّ الذي قدّك من حجر؟
ضحك العملاق وهمس قائلا:
- امضِ إلى بحيرة الحياة، إنّها تقعُ أمامي مباشرة. لا تخف يا قبطان! مياه، مجرّد مياه.
- وهل يمكن للقبطان أن يخشى الماء يا سيّد الجبال؟
اقتربت من المكان الذي أشار إليه. كنت أسمع صوت نجوى تلهث من خلفي. لا بدّ أنّها لعنت اللحظة التي أحبتني ورضيت الإرتباط بي. كان الفضول يأكل أطراف أعصابي المشدودة. وأخيرًا وصلتُ إلى طرف البحيرة، كانت المياه صافية، تمكّنت حتّى من رؤية قاعها الشفّاف.
- لم أشاهد طِوال حياتي مياهً بهذا الصفاء أيّها العملاق! أجاب العملاق الحجري بصوتٍ مخمليّ:
- يلزمك الغوص لسنة كاملة كي تصل إلى قاع البحيرة يا قبطان. فوّهتها هي البركان بعينه، مياهها إلى عمق الأرض السحيقة. اشرب من هذه المياه، اشرب فقد اجتزتَ الإمتحان.
- لماذا أنا بالذات؟
- هناك دائماً الشخص الأوّل. أنت البداية وأنت الخلاص.
توقّفت عن التردّد عندما سمعت كلماته تلك، وأخذت أعبّ من مياه البحيرة، لم أشعر بالإرتواء بالرغم من الكمّ الكبير من المياه التي شربتها.
- يا الله؟ لم أذق في حياتي مياهً بهذه العذوبة، أكاد لا أصدّق حواسّي!
- أنت الآن حرّ طليق يا قبطان.
- هل هذا بمثابة تصريح سفر؟
- كُنْ أمينًا على مقدّراتك الجديدة. أنت أوّل إنسان يشرب من ماء الحياة.
- لماذا لم تشربي من ماء الحياة يا نجوى؟
- وكيف لي ذلك. إرادتي كانت مقيّدة طِوالَ الوقت! كان يراقبني بعينيه العملاقتين، أنت الوحيد الذي سمح له بشرب الماء!
- لماذا أنا بالذات؟
- لأنّك القبطان يا عزيزي، لأنّك القبطان.
- لا، هذا جوابٌ غير مُقْنِعْ. كان عليّ أن لا أشرب من ماء الحياة وحيدًا، لا أريد أن أكون أوّل وآخر من يفعل ذلك على وجه الأرض. لا أريد حمل هذه الأمانة!
شعرت بالقوّة تعود إلى مفاصلي وعظامي المتعبة، شعرت في تلك اللحظة بأنّي قد استعدت السنين الخمس التي فقدتها في البحث عن روح نورا المعلّقة.
جسدي يرتجف من دفق القوّة التي انتابتني فجأة.
جسدي يكاد يتفجّر من النشوة العارمة.
جسدي يرقص طربا.
جسدي المسكين يحاول أن يتعالى فوق روحي الحائرة!
أشعر برغبة للقفز فوق حدود التلّ المقابل، أنا المسكين الراحل دائمًا خلف الأفق الهارب!
عاد للجبل صورته الطبيعية.
اختفت الأعين الوقحة القويّة، وهدأ قلب الجبل، لم أعد أسمع تأوّهاته وضربات قلبه المتسارعة.
أخذنا نصعد الجبل بسهولة، اختفت مقاومة التلال، بدت كأنّها ممتدّة على مهل أمام أقدامنا المتعبة.
بان السرور على وجه نجوى، كانت تظنّ بأنّها على وشك العودة دون أن تتاح لها الفرصة لمشاهدة أهلها. لكنّا أصبحنا قريبين من مشارف القرية، كان قلبها يرقص من شدّة الفرح.
- هنا قضيت أيام الصبا يا حبيبي! هنا طالت جدائلي حتى الخصر ودونه، بين هذه الأشجار الوارفة كنت أركض، وشهدت هذه الأكمات على بدايات تكوّن أنوثتي.
- قريتك مليئة بالألم! أشعر بذلك يا نجوى!
نظرت إليّ بحيرة ولاذت بالصمت.
استقبلونا بحفاوة، أهلها يعيشون في المنطاق الجبلية وهم مضيافين للغاية. كانوا على استعداد لفرش الحرير لاستقبالنا. قدّموا لنا العسل والحليب الجبليّ الشهيّ. أمطرونا بعشرات الأسئلة، وكانت أمّها تلمس بطن نجوى المتكوّر ما بين الحين والآخر.
قضينا بضعة أيام في منزل نجوى العائلي، وهناك في الغرفة المجاورة كان يقبع أخوها الكبير عاطف. رجل تعدّى الثلاثين من العمر، لكنّه ما يزال على هامش الحياة! كان يقضي مئات الساعات دون أن يتفوّه بكلمة واحدة، مفضّلا النظر إلى الفراغ، تكاد شفتاه تنفرج عن حرف أو كلمة، لكن الصمت سرعان ما يحضره. هناك بقعة كبيرة معطوبة في دماغ هذا الرجل!
يرغب برفع يده والمصافحة، لكنّ تيارًا من الهواء العاصف يضرب أطراف أصابعه لتعود إلى جانبه على عجل! وتبقى الرغبة بالبكاء على حاله قائمة، الشفقةُ تفقدُ الرجلَ حضورَه ورجولته المذبوحة عند فوّهة الشهوة والرغبة بإثبات الذات. عذاب لا يوصف، أليس من الجنون أن تبقى بين حشد كبير من البشر، دون القدرة على إثبات ذاتك وحضورك؟ أين هو من العشق والجمال؟ سيل من اللعاب يسيل على جانب فمه، تتقدّم الأم لتمسح لعابه بصمت قاتل. ترفض روح هذا الرجل مشاعر الشفقة المعلّبة بالضعف، لكنّه لا يقوى على التمرّد. يا له من موتٍ بطيء! يزحف نحو مداخل الروح ليلغي وجود عاطف نهائيًا. حتّى بدأ البعض يتحدّثون عنه بضمير الغائب (هو). الأقارب والزوّار نسوا أو تناسوا اسمه. ألغوا وجوده وتركوه وحيدًا يصارع شياطين عجزه.
التقت أعيننا للحظة، كان الجميع مشغولين بحديث مشوّق للغاية. بقيت أنظر إليه والخوف يعصف بقلبي، أمسكت بيده وانطلقت به مغادرًا إلى غرفته وسط دهشة الحضور! لم يجرؤ أحد على التدخّل، بل لم يفكّر أحد بذلك ولو لوهلة، وأغلقت الباب من الداخل.
- عاطف، عاطف. صرخت بملء صوتي.
كانت أمّه قد هرعت إلى الباب والدموع تنحدر سخيّة من عينيها! .
- أنا هنا يا عاطف، أعرف بأنّ المكان الذي بلغته بعيدٌ جدّا، لكن الوقت قد حان للعودة. تعال أرجوك، كلّنا بحاجة إليك. أنت بحاجة لأن تكون ذاتك، ربّما تشعر بالدفء هناك حيث تتواجد! لكنّه الخدر اللعين يا عاطف، يفقدك القدرة على الإحساس بالنهار والشمس التي لا تفتأ تدور من حولنا.
تحرّكت عيناه ونظر إليّ.
- نعم يا عزيزي، أنت قادر على العودة، سوف تجد أحبّتك هنا ما يزالون بانتظارك. لن يتخلّوا عنك عنك أبدًا، بالرغم من الضياع الذي عانيت منه طويلا.
فتحت الباب وتركت أمّه تدخل.
- إنّها هنا، أمّك التي وضعتك قبل ثلاثة عقود.
وضعت يديّ على وجنتيه وضغطت بكلّ ما أوتيت من قوّة.
- أتركه أرجوك، أنت تعذّبه يا قبطان!
وما أن أكملت والدته حديثها حتّى امتدّت يده إلى وجهها. للمرّة الأولى يقوم بحركة إرادية واعية!
- أنتِ هنا يا أمّي.
سقطت أمّه على الأرض متأثّرة.
قام بحلاقة ذقنه بنفسه، هذا أوّل ما قام به عاطف بعد أن عاد إلى ذاته. مسح وجهه بماء الكولونيا، ولبس أجمل ما يملك من الثياب.
أطال النظر في المرآة، كان يبتسم ويبكي بصمت، لكنّه سرعان ما يمسح الدموع التائهة فوق وجهه.
بانت وسامته، كان طويل القامة، تقاطيع وجهه متناسقة، وقف أخيرًا أمامي وأضاف:
- كنت أرغب طِوال هذه الفترة بشيء واحد أيّها القبطان، كنت أرغب بالموت، كنت أصلّي صامتًا من أجل ذلك، كنت أعيش وحيدًا فوق جزيرة الصمت.
أسمع كلّ شيء، لكنّي لا أملك القدرة على الردّ أو المشاركة.
جسدي يذبل، يموت ببطء، روحي لا تقوى على التمرّد.
كنت حيث الفراغ المطلق!
أعرف بأنّ المطر قد توقف بعد أن أغمس بالماء، ثمّ يبدأ البرد بشقّ طريقه إلى خلايا جسدي.
كنت أشعر بالبلل في سروالي بعد أن أنتهي من فعلتي!
وكانت هذه المرأة (أمّي) وحدها تسارع لمساعدتي، والحرج يا قبطان يقضم أطراف روحي، يرميني نحو النهايات ولا بدايات!
تستطيل الدنيا بل أجدها مربّعة، يمتطّ الكلام، أكاد لا أفهم معنى العبارات، أقرأ الشفاه من الياء إلى الألف.
أجد الكأس ملأى حتى الوسط وفي الوقت نفسه مقلوبة.
كيف لا تتساقط قطرات الماء من كأس مقلوبة؟
أتدري كيف تكون مشاعري حين تبتعد الأكفّ عن بعضها البعض، يسمّون هذا بالتصفيق!
الآن فقط أدركت منطق الأشياء، رغبتي بالموت كانت قدر رغبتي بالحياة.
كنت تائها في سراديب كريهة، وغالبًا ما كنت أشعر بالرغبة بالتقيّؤ.
كنت أصرخ دون أن يسمعني أحد، صوتي مقيّد ميّت!
- والآن يا عاطف، ما هي مشاريعك؟ لقد عدت للحياة مجدّدًا.
- سأبقى بين ظهرانية أهلي بعض الوقت، ثمّ أنوي المضيّ في بلاد الله الواسعة. أريد أن أبحث عن بعض أجزائي المشتّتة هنا وهناك.
- ونحن لا بدّ لنا من المضيّ في طريقنا الطويل. دعونا نتبادل كلمات الوداع، ولقاء قريب بإذن الله.
- لا أظنّ ذلك، لن أسمح لك يا عاطف بالابتعاد عن ناظريّ أبدًا. كانت أم عاطف سعيدة للغاية، بعد أن عاد ابنها إلى الحياة مجدّدًا.