09 / 05 / 2018, 38 : 03 AM
|
رقم المشاركة : [9]
|
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
|
رد: استطلاع جماهيري - الرواية - المشاركة في مسابقة نور الأدب الكبرى 2018
ازدادت المياه زرقة، شعرت بأنّ مركبي ريشة تتهادى، تتقاذفها الأمواج. فقدت القدرة على تحسّس الطريق نحو الوطن. تبدو الجهات جميعها متشابهة، بالرغم من أنّني قضيت معظم حياتي أجوب البحار. أخيرًا أسلمت مركبي لإرادة البحر، قضيت جلّ وقتي فوق سطح المركب دون أن أعير أحدًا أيّ أهتمام. قد تكون هذه فرصتي الأخيرة لمناجاة السماء ومراقبة النجوم السيّارة. كان بعضها مألوفًا، لكن ذاكرة الوطن كانت قد ابتعدت كثيرًا عن عالمي الصغير الدنيويّ في تلك اللحظة. شاهدت في البعيد ضبابًا أخذ بالتكاثر وسرعان ما أصبح كثيفًا. وقبل أن يدخل المركب في أجوائه، طلبت مساعدة الجميع خاصّة صاحب الدرك. كان هو أيضًا قد أصابه الخوف والقلق، وكانت رغبته بالعودة لا تقاوم. أجابني بأنّه فقد القدرة على تحديد طريق العودة نحو الوطن. أشار بخجل لإحدى الاتّجاهات، لكنّه سرعان ما تراجع عن قراره. حتى النجوم اختفت وتركتنا دون دليل. يا رحمة السماء! لذت بالصمت ولم أشأ أن أثبّط عزمه، سألت بعض ركّاب المركب، لكنّهم جميعًا كانوا يجهلون الطريق نحو الوطن. في تلك الأثناء، دخلنا رحاب الضباب.
انعدمت الرؤيا بالكامل، كان الضباب كثيفًا وثقيلا. أغمضت عينيّ، لكن النتيجة كانت واحدة. عندها سمعت أوّل الأسئلة.
- من أنت؟
- أنا القبطان أبو حمّاد، من يسأل؟
نظرت إلى المكان الذي اعتقدت وجود نجوى في رحابه، وسألتها: هل سمعت السؤال الأول؟ لكنّها صاحت خائفة وأجابت بأنّها لم تسمع أيّة أسئلة. أضافت فزعة: من يسأل؟ توقّف المركب، كان قد ارتطم بمادّة لزجة. أصابتني الحيرة، هل نمضي قدمًا نحو الأمام؟ لا بدّ من اكتشاف المكان، أحسست بأنّني أمام اختبار كبير لا يوصف، أدركت بأنّ كامل طاقم المركب لم يسمعوا أيّة أسئلة في فضاء المركب. إنّها العتمة، تسيطر على مشاعرنا وأحاسيسنا، أمسكت نجوى بيدي، كانت تبحث عن الدفء والمحبّة. لماذا يا تُرى اختارها قلبي الذي ما يزال أسيرَ امرأة أخرى؟ كيف يتخلّى المرءُ عن عاطفته وخياراته المصيرية في لحظة من الزمن؟ أحيانًا تصبحُ الرتابة والتعوّد أهمّ من جميع الخيارات المتوفّرة، يدرك المرءُ بأنّ الوجهَ الذي يألفه ويلقي عليه تحيّة الصباح والمساء، هو الذي يستحقّ الثقة. تأتي المحبّة دون حواجز، ينفتح القلبُ على مصراعيه، ثمّ يرتبط بعشقٍ جامح. أحبّها بكلّ جوانحي ووعيي وكياني وباطني الذي لا أدرك كنه معالمه وأسرار سراديبه. أراقب نجوى بعيني الثالثة، وحمّاد ثمرة ثمينة يحمل جيناتها وبعض ملامحها. حمّاد هو الجسر الذي بنيته بشرايين قلبي.
- لا تلمسوا شيئًا، سنهبط إلى هذا المكان بسلام. لا تأكلوا أو تشربوا من خيرات المكان! وجهت كلماتي لجميع المتواجدين فوق المركب.
الوحيد الذي سمع السؤال كان صاحب الدرك. أجابني بصدق بأنّه شعر بخوفٍ كبير حين سمع الصوت يطرح الأسئلة بهدوء غريب.
وجاء السؤال الثاني.
- لماذا يا قبطان؟
- إنّها مشيئة الله.
لقد سألت نفسي آلاف المرّات السؤال نفسه. وفي كثيرٍ من الأحيان كانت الإجابة بين يديّ، دون أن ألحظ ذلك، أحيانًا تبتسم لي الأجوبة كحسناء تنعكس صورتها في مرآة روحي. لهذا تناسيت هذا السؤال ولم أطرحه أمام المرآة ثانية. لماذا يبكي الوليد حين يغادر رحم أمّه، بينما يضحك الآخرون ويحتفلون بولادته؟ يشعل الهواء الرئتين حين يلامسهما. بداية الإنسان ألمٌ وبكاء، ثمّ تنجلي المشاعر. لا تسألني هذا السؤال مرّة ثانية، لقد أجبت عليه مطوّلا، أجبت بقلبي ووعيي الباطني.
انكشف بعضُ الضباب أمام ناظريّ حين انتهيت من السؤال الثاني. وطأت خطواتي اليابسة اللزجة الطرية، كانت أوراق الشجر مبتلة. يا له من مناخ غريب الأطوار!، ثمّ تبعني الآخرون إلى عمقِ المكان. سمعت همسًا ثمّ اشتدّت اللجة والجلبة. أصخت السمع وأدركت بأنّ هناك عشرات الأسئلة التي تدور وتحلّق في فضاء المكان. كانت تندلق الواحدة تلو الأخرى. كيفَ، لماذا، وأين ومتى. يبدو هذا الامتحان وجوديًّا بامتياز!
- أين أنت يا حمّاد؟
- أنا أقربُ ما أكون إلى القلب.
إنّه النداء الكونيّ الذي أبحثُ عنه في كلّ لحظة وثانية. لم تعد جغرافية المكان مهمّة، لدى قدوم اللحظة التالية. قد أكون في أكثر من مكان حين يدقّ القلب مفعمًا بالحياة.
- نورا، ماذا عن نورا يا قبطان؟ عندها سال الدمع سخيًّا على وجنتيّ.
- إنّها نُسُغ الحياة. قد تكون امرأة أوجدها خيالي المتعب! نورا حفنة عشق عابرة. تلتصقُ بين أصابع اليد، تندى فوقَ جفنيّ. تسلخني من الحضور السلبيّ الذي ارّق تيهي طِوالَ هذا التجوال. نورا تقذفني دفعةً واحدة نحوَ رحمِ الحياة. وتسألني بعد كلّ هذا عن نورا! نورا أمّي وأختي وحبيبة قلبي، نورا..
- أسكت، أرجوك. لا تقل أكثرَ من ذلك!
كان هذا صوت نورا. عرفته على الفور، صوتٌ مليءٌ بالدفءِ الواعد.
- هل أنتِ حقًّا نورا؟ سألت بشغفٍ لم أتمكّن من إخفائه.
- ولم السؤال يا قبطان؟ أنا دومًا متواجدة إلى جانبك. جناحيّ تحميك من عبث الأقدار، ألم تشعر بذلك؟
- أنا أحلم، لا بدّ أنّ كلّ هذا مجرّد حلم.
- ولم لا يا قبطان؟ الحياة عبارة عن حلم يتخلّله الواقع. يُمضي الإنسان جزءًا كبيرًا من حياته في النوم والسعي الحثيث نحو السعادة في عالم الأحلام.
- وفؤادي يكادُ ينفطرُ يا نورا. نبضات فؤادي تتسارع بعد أن كانت تتهادى. أين الخلاص في كلّ هذا التيه؟ انكشف مزيدًا من الضباب، وجاء صوتها مجدّدًا:
- اتبع فؤادك يا قبطان ولن تندم، ما زالَ في جعبتي الكثير من الأسئلة.
لماذا صوت نورا بالذات؟ بقيت متشبّثاً بنجوى، كانت بالنسبة لي أكثرَ من صوت حبيب.
عناقيد العنب الأسود والأصفر الفاقع. كروم العنب في كلّ مكانٍ من حولنا، أو هكذا تهيّأ لي في تلك اللحظة.
- لا تأكلوا العنب يا أصدقائي! لكنّهم أكلوا حتى دارت الدنيا أمامَ أعينهم. إنّه مبدأ القاعدة التي يتوق الجميع لكسرها وعدم الالتزام بها. فلتكن إرادتكم خلال هذا اليوم. قالها صاحب الدرك بعد أن اعتلى صخرة قبالة البحر.
- أنا متعبٌ من دوّامة الأسئلة يا قبطان. الآن فقط توقّف دفقها إلى رأسي المثقل بعبق الوطن. أودّ الآن أن أنام مطولا في بيتي الصغير. وضعت يدي على جبينه وهمست في أذنه: ولم لا تنامَ الآن يا رفيق الدرب؟ قريبًا سنمضي في طريقنا بعد الانتهاء من هذا الامتحان. أعدك بذلك.
عندها استلقى تحت كرمة وارفة الأوراق وراحَ في سباتٍ عميق.
- الرياحُ تراقص الجبال، كيف يكون هذا؟ سؤالٌ آخر هاجمني على حين غفلة.
- هذه سهلة يا نورا، الرياحُ لا تقدر على جرفِ الجبال الشامخة في وجوهها. لهذا تراقصها إجلالا، لكنها ذات الوقت تهذّب صخورها وتعرّيها من الغبار العالق بأطرافِ جدائلها. ضحكت نورا طويلا وقالت.
- أنتَ مسكونٌ بالشِعْرِ يا قبطاني الجميل.
انكشف مزيدٌ من الضباب أمام ناظريّ، أصبحت الرؤية ممكنة إلى حدّ بعيد. هذه الأسئلة آخذة بالتعقيد، والإجابة عليها تتيح لي الفرصة لاستعادة ذاكرتي، والعودة نحوَ البدايات المسطّرة في قاموس الخليقة. فليكن صوتك يا نورا هاجسي والقاضي الذي يمارس سلطة الضمير تجاه ما تبقّى من عالمي. ضمير حديث الولادة يحلّق في فضاء واعد. للمرّة الأولى تنفرج أساريري وأشعر بقوّة النور تتدفق عند مداخل روحي. وأنا وأنتِ يا نورا، وأنا وأنتِ يا نجوى. قصّة غرام عبرت حدود الزمن لتستقرّ في رحم العبث الإنسانيّ.
- أما زلت تذكرُ لونَ عينيّ؟
- هذا ليس مجرّد سؤالٍ عابرٍ يا نورا! كأنّك تسألين "أما زلتَ تذكرني؟" لهذا لن أجيب عن سؤالكِ يا عزيزتي. سألتزم الصمتَ الآن.
ازدادت كثافة الضباب مجدّدًا، يبدو أنّ القوانين قويّة بما يكفي لقراءة ما يعتملُ في الصدور. حسنًا، أوافقُ على هذا العقاب، لكنّني لن أسمحَ للضباب أن يشقّ طريقه إلى روحي.
أخذ الصوت يختلف ويتميّز، ضاعَ صوت نورا بين ملايين النبرات، وتوضّح بعد ذلك صوت رضيع بدأ يسألُ بإلحاح.
- هل حقًا نسيت لون عينيها؟ أعادَ الرضيعُ السؤالَ عشرات المرّات. ولم ألبث أن صرخت بملء فمي:
- اخرس. لون عينيها عسليّ. انفجر الطفل الرضيع بضحك هستيريّ. عرفت بعد حين بأنّه صوت ابني الصغير حمّاد. نظرت إليه فوجدته يغطّ في نومٍ عميق. يا لها من لعبة قذرة تلك التي تنسجها مجسّات الإرادة.
- متى يمكنني الخلاص من غياهب التيه؟ انقطع صوت الطفل فجأة، وسمعت صوت رجلٍ يهمهم بصوتٍ خفيض.
- أنت تطرح الكثير من الأسئلة، بالرغم من أنّ دورك لا يتجاوز الإجابة!
- لكنّك بهذا تلغي وجودي!
- وجودك! ما هذا الهراء؟ أنت حتى لم تجرؤ على تناول العنب، هل تخشى كرومي؟
- بل أخشى المزيد من الأسئلة.
- أسئلتي رجعُ الذاكرة، لا تخشاها يا قبطان.
- كرومك حلوة كالشهد. قد يسكرني رحيقها!
- وهل هذا أمرٌ سيّء؟
- تصعب عليّ محادثتك. أنتَ الآن لا تحسن سوى طرح الأسئلة.
- وهل هذا أمرٌ سيّء؟
- يصعب عليّ الحكم على نواياك أيضًا.
- أنت الذي قصدتني، أنت من جاءَ إلى دياري دون دعوة. أحسنت استقبالك، وأطعمتك ورفاقك من خيراتي الكثيرة. هل تنكر ذلك؟
- مزيدًا من الأسئلة. على أيّة حال، سارت المياه بما ترغب السفن، ولا مانع لديّ من مغادرة المكان على الفور.
- ليس قبلَ الإجابة عن السؤال المئة.
- السؤال المئة! ما زلنا في بداية المشوار يا قبطان! عليك الانتظار حتى السؤال الأخير، ثمّ يمكنك المضيّ في طريقك نحو الوطن بعد الإجابة عليه.
- الوطن؟
- أرجو أن يقتصر دورك على الإجابة فقط. هذه الأسئلة تعيدك إلى الوراء كثيرًا يا عزيزي.
- أشعر بأنّني كتابٌ مفتوح، يقرأني الصغير قبل الكبير في هذا السجن المقيت.
- إنّه سجن الروح، حاول أن تحرّر روحك لتمضي في طريقها نحو الفضاء. عندها فقط يمكنك بلوغ الحكمة.
- لقد سمعت هذا الكلام من قبل. أنا لم أبلغ بعد ملكوت الحكمة. آه، تذكرت الآن لهفة الأمير في سبر أغوار الحكمة. كان هذا هاجسه الدائم. ربّما سيضطر لارتكاب الكثير من الأخطاء، بما في ذلك مجازرَ دامية ليدرك دروب الحكمة. طريقها مرصوف بالدمِ القاني والألم.
- لأنّه طريق يتيم. عندما ينفصلُ المرءُ عن حضارته يصاب باليتم، ويبدأ بالبحث عن مسلّمات الأشياء العابرة. عندها يفقد القدرة على التواصل مع الذاكرة.
- ما هو سؤالك التالي؟
- أخطأت ثانية يا قبطان. ألم أخبرك أن تتجنّب طرح الأسئلة؟
- لقد نسيت. ربّما عدت إلى نقطة البداية، الضباب يعود كثيفا أمام مركبي كأنّي أصبت بالعمى!
أحيانًا تعودُ الذاكرةُ مرّةً واحدة. بدا لي المكان مألوفًا، بالرغم من الضباب الكثيف الذي يلفّ المكان. أدركت بأنّ قراري بعدم تناول أيّ من الثمار كان صحيحًا. أستأذنتُ الأصوات والأخيلة قبل أن أمدّ يدي للثمار وعناقيد العنب. لكنّ جميع الذين فعلوا ذلك أصيبوا بفقدان الذاكرة.
- أنا بانتظار كلّ أسئلتك، اطرح ما في جعبتك! قد تكون الأمور قد اختلطت عليّ لغاية الساعة، لكن الأوان حانَ لكشفِ كافّة الأوراق.
اختفى الصوتُ لعدّة أيام، والغريب أنّني لم أشعر بالجوع أو العطش خلال تلك الفترة من الزمن. حمّاد بدوره كان يكبر وينمو، ونجوى تزدادُ جمالا وتألقًا. قالت لي يومًا:
- اشتقت إلى يوميات الحياة الرتيبة يا قبطاني، اشتقت للأعراس والطهور والحزن والفرح والعزاء. اشتقت للأعياد ولفنجان القهوة عند الصباح!
- قريبًا يا نجوى، قريبًا سنبتعد عن هذه الأجواء القاتمة. سيكون لنا غدًا واعدًا على متن نجمة.
- بل أفضّل الخيمة على النجمة! أنا امرأة بسيطة تسعى للسعادة. لا تعقّد الأمور أكثر من ذلك، لقد سئمت هذا الضباب. أرغب ببعض الشفافية يا قبطان، أعِدْ لي حياتي الأخرى. أعِدْ لي ما انقضى من ابتساماتي وهموم حياتي التقليدية، الغسيل وكيّ الملابس وقمصانك البيضاء. هذا كلّ ما أرغب به الآن يا قبطان!
أصابني الترقّب والصمت وبوحها المفاجئ بحيرة لا تنتهي. كنت أدفع ثمن خطايا كثيرة. كنت أحاول الهرب من المجتمعات المهزومة، لكنّها متواجدة في كلِّ مكان. كنت أنتحلُ عشرات الوجوه وأرتدي ثيابًا لم تفصّل لي ولا تليق بحضوري! كنت على وشك الانتهاء من هذه الرحلة المضنية، وأنا فعلا قادرٌ على ذلك.
- كيف حالك اليوم، أين البداية؟
- بخير يا صديقي. أشعر بالملل والإحباط. أمّا البداية فأقرأها اليوم في عيني نجوى وحمّاد. يفنى الجسد وتبدأ الروح رحلتها نحو بدايات أخرى. قد تصاب بالدوار بعض الوقت وتضيع بين العوالم السرمدية.
- لماذا هذه السوداوية؟
- إنّه الضبابُ الذي يقتلني على مدار الوقت! لقد عقدنا وإيّاك صفقة يا جاري العزيز قبل سنوات، هل نسيت؟
- هل هذا سؤال؟
- لم يعدْ هناك ما يخيف. اعتبره سؤالا إذا شئت. حللت بضيافتك يومًا ما. تراودني ذكرياتٌ لا يَقدر الزمانُ على طيّها. هل عرفتني يا قبطان؟
- أظنّ ذلك.
- ولماذا لا تصرّحُ باسمي؟
- تعلّمت ألا أستبق الأمور.
- إنّها الحكمة. لقد بدأت تدرك خفاياها. لماذا ابتعدت عن ثماري الوفيرة؟ دعوتك لأكثرَ من مرّة إلى مائدتي!
الضبابُ إلى زوال! يومًا ما هاجمنا ثمار هذه الجزيرة، تبيّن لنا بعد ذلك بأنّ الثمار أجنّة تنتظر اكتمال أعضائها وأطرافها.
- هل عرفتني؟
- هذا سؤال آخر، لكنّه ليس الأخير. هذا ليس السؤال المئة!
- هل تريد السؤال المائة؟
- نعم أرجوك، لو سمحت.
- غدًا يا قبطان، غدًا.
-4-
نمت طويلا تلك الليلة، ما أن حطّ الظلامُ حتى احتضنت نجوى. عانقتها، قبّلتها، شربتُ رحيقَ فيها، تُهْتُ في سراديب أنوثتها، سكبتها في تلافيف ذاكرتي، مسّدتُ شعرها، لثمتُ خدّها وعنقها. شعرت بها ترتجفُ بين يديّ. طِوالً تلكَ الليلة لم أتركها لحظة واحدة. وعند الصباح كانت قد تفتّحت كالورد لجوري الأحمر النديّ.
كانت نجوى تخاطبُ الربّ شاكرة. كانت مستعدة للموت بعد أن تيقّنت من محبّتي واشتياقي وحضوري.
- صباح الخير يا قبطان، انشقّ الضباب.
- صباح الخير يا سيّدة السيّدات، صباح الخير يا نجوى.
لن يكون هناك أسئلة أخرى.
- وماذا عن السؤال المئة.
- أنتِ السؤال المائة يا نجوى.
- لا أفهم.
- لا تفكّري كثيرًا يا عزيزتي، لقد انقضى كلّ شيء. الآن فهمت ما لم أستطِعْ فهمه وإدراكه منذ مئات السنين.
- إنّها مجرّد ليلة واحدة.
- بل العمر كلّه. إنّه الغرام الذي ينقذ الإنسانية من براثن المشاعر الآسنة. إنّها الحياة تدبّ مرّةً واحدة في شراييني الجافة. أنت السؤال المئة. تجوّلت في الجزيرة المألوفةن كنت أبحث عن أبي سنونو في الأنحاء، لكنّي فوجئت حين شاهدت فتى قويًّا يتجولُ هناك.
- مرحبًا.
- أهلا بالقبطان.
- أتعرفني؟
ضحك الفتى وابتعد. دقّقتُ النظر في تقاطيع وجهه، كان يحمل عينيّ حورية الجميلة وأنف فارس، يا لها من مفاجأة!
كنت فرحًا وحزينًا ذات الوقت. بدا طريقُ العودة واضحًا، إنّها المحطة الأخيرة تأخذني نحو لعنة الظلام.
انطلقت أبحث عن القبطان الآخر. جموحٌ بلا حدود، ورغبة بالتوحّد والانطلاق. كنت أظنّ نفسي حرًّا طليقًا، لكنّ الشمع اندلق فوق شفتيّ. أطبقت شفتيّ ولم أعد قادرًا على النطق والبوح كلّما اعتلت الشمس صهوة السماء، لتخصب وجه الأرض عند الصباح.
- مرحبًا يا قبطان، لقد اجتزت الامتحان. كان أبو سنونو يقف قبالتي مبتسمًا.
- لقد قُتِلَ رستم. كانت رغبته بأن يدفن في أرض الجزيرة.
- نعم، أدركت ذلك في لحظة موته. أشكرك باسمي وباسم أهل الجزيرة. كان لا بدّ من دفنه في مسقط رأسه.
- هذا واجبي يا سيدي. ولكن ماذا عن السؤال المئة؟.
- لماذا تسأل يا قبطان؟ لقد انقضى الأمر.
- لكنّ السؤال بقي طيّ الكتمان، لماذا أبقيته في جعبتك؟
- من النادر طرح السؤال المئة مباشرة. ألم تخبر نجوى بأنّك أدركته؟
- مجرّد تخمين. لا أدري إن كنت قادرًا على تصديق حدسي.
- السؤال المئة تجده في ذاتك. ربّما تمتلك الإجابة عنه منذ زمن بعيد. لا تقلق بهذا الشأن. لقد انتهة رحلة التيه والضياع، لم يعد هناك ما تخشاه، لماذا لا تتذوّق العنب، إنّه إكسير الحياة!
بدأت مراسم دفنَ رستم.
حضر المئاتُ الحفلَ وشاهدت في الصفوف الأولى فارس وحورية، كأنّ الزمن لم يطأ عتبة جيناتهم الوراثية.
- حورية، جئت من أجلك أنتِ وفارس. لقد حان وقت العودة.
لم تجرؤ على النظر في عينيّ. أدركت بأنّها ترغب بالبقاء فوق الجزيرة، ربّما كانت تخشى ظهور ليلى أخرى في مكانٍ ما. امرأة قادرة على خطف فارس لبعض الوقت، من يدري؟
- فارس، أرجوك أن تعود مع عائلتك إلى أرض الوطن. نحن على وشك الإبحار قريبًا. بقي مطأطئاً رأسه، لم يجرؤ على النظر هو الاخر في عينيّ.
- حسنًا، كما تشاؤون! مضت سنوات طويلة على وجودهم فوق الجزيرة، ربّما أصبحوا جزءًا من عالمها الداخليّ.
عند المساء، أقاموا وليمة لإحياءِ ذكرى رستم. تحدّثت طويلا عن مآثره وبطولاته. أخبرتهم كيف أنقذ المركب لأكثر من مرّة. لكنّ القضاء كان نافذًا، ومضى رستم للقاء ربّه! بكى البعض وتأثر آخرون، وسرعان ما شربنا نخبه.
عند المساء، أويت إلى سريري. كانت النجوم تتراقص في عينيّ واقتربت لحظة العودة والوداع.
حان وقت العودة نحو البدايات، وكنت أخشى ذلك. هل أنا مستعدٌ لمواجهة بداية أخرى مماثلة؟ وكان طيف نورا يهاجم مخيّلتي طِوالَ الوقت.
يصمت الصغير حين أحمله بين يدي، يشعر بالأمان والهدوء والطمأنينة. وحين أضعه جانبًا، يثور ويبدأ بالبكاء والصراخ. تبدو ردود فعله أجوبة!
في صباح اليوم التالي، حزمت أمري وقررت الإبحار دون تأخير. تركت الخيارات مفتوحة أمام الجميع، ليبقى من يرغب بذلك. وكان صاحب الدرك أوّل من صعد إلى المركب، كان متلهّفًا للعودة إلى الوطن.
وقف صاحب الدرك عند مقدّمة المركب، كان يحمل بين يديه منظارًا نحاسيًا صغيرًا. وبين الحين والآخر كان يشير بيده إلى مكانٍ ما في زرقة المياه!
كنّا حفنة من الرجال والنساء، نجترّ الذاكرة ونسعى لاكتشاف بقعٍ جديدة في الكتلة الرمادية للدماغ. كنّا نسعى لبلوغ الشاطئ البعيد القريب، الذي كان على مرمى النظر من أعلى مركبي.
عند المساء، لاحت في الأفق بقع من الأضواء، آلاف الأضواء الناعسة. كانت المدينة تتوهج بأنوار الحياة. كانت الأضواء تبدو كأنّها أرواحًا تتدافع مرحبّة. أوقفت المركب وانتظرت بعض الوقت عند أصل الشاطئ.
كنت أخشى أن يداهم القذى عينيّ.
كنت أخشى ثِقَلَ السنين.
كنت أخشى ذاتي وحضوري المخضّب بالحنّاء ورائحة المشرق.
كنت أخشى مواجهة فؤادي حين أنظر في عينيّ نورا.
في تلك اللحظة، حضنتْ نجوى كتفي وقبّلت وجنتيّ، شعرت بالراحة والدفء والغبطة. وهناك من خلفي، كان حمّاد يكبو، ثمّ يقف ويضحك.
كان حمّاد يكبو، ثمّ يقف ويضحك، لحظات قبل أن أدخل رحم المدينة. ---------------
انتهت
|
|
|
|