رد: مدينة الأشباح
الغُيومُ العالِقَة
في المَدينَةِ الغارقة في تَأمُّلِ السُّكون تَدَّفَقَتْ الشَّمْسُ عَبْرَ الفُوَّهَةِ الزَّمَنِيَّة الَّتي تُهَرِّبُ الضُّوءَ المُرْتَجِفَ لِيُبارِكَ خَرَزات السُبْحَة المُنْفَرِطَة حَوْلَ بَهْرَجِ الخَزَفِ المُلوَّنِ بَعْدَ أنْ تَبرَّأ مِنْ سِمَة الطَّينِ الْمَحْرُوقِ.
تَمَلْمَلَتْ الأَرْواحُ المُتَناسِخَةُ تَحْتَ أَشْجَارِ البَلُّوطِ الهَرِمة الَّتي تَراشَقَتْ حَوْلَ الكاتِدرائيَّة العَتيقَةِ وعَلَى أواصرِ قرابَةِ المَكانِ تَنَفَّسَتْ أزهارُ البابونج البَّريّ أبْخِرَةَ الغَسَقِ وضَجيج عَرَبَاتِ السِّكَّةِ الْحَدِيدِيَّةِ التي ضَرَبَتْ بَعَجَلاتِها الأَرْضِ عَلَى وَقْعِ النُّوتاتِ الْمُعَرْبِدَةِ في مَدينَةِ العَجائِز الَّتي تَعُجُّ بثَرْثَرَةِ التَّمَاثِيل العَاريَة الَّتي تَسْكُنُهَا اللَّعْناتُ البُرْجوازِيّةُ مُنْذ أَنْ ظَهَرَتْ في طَوْرِ الاحْتِراقِ الكَامِل.
لَيْسَ مِنْ بَارِقَةِ أّمَلٍ لِذلِكَ المُتَسَكِّع الذي أَرادَ أنْ يَسْتَمِرَّ فِي النَّوْمِ فَوْقَ الأَرْصِفَةِ الحَجَرِيَّةِ مُخالِفًا بِذلِكَ قُدْسِيَّة الشَّمْسِ الَّتي مَرَّرَتْ ثَوْرَتَها المَدْسوسَةِ عَبْرَ أَوَّلِ خَيْطٍ اسْتَطاعَ أنْ يَفُكَّ كَمَّاشَةَ الفَجْر حِينَما نَقَرَتْهُ حَمامَةٌ قُمْريَّةٌ مُكْتَنِزَةٌ تَرْتَدي ألْوانَ الضَّبابِ المُتَشابِكَة مَع انْعِكاساتِ الصَّفائِح المَلْسَاء الَّتي رَكَلَتْ الضُّوءَ بِضَرْبَةٍ عَكْسِيَّةٍ مُرْتَدَّةٍ مِنْ عَلَى عُلُوٍّ متَطَرِّفٍ في الارْتِفاع نَحْو الغيوم العالِقَةِ في سَقْفِ التَّنَدُّرِ .
مِسْكينٌ أدْرِيان لَقَدْ قَدَّدَ الزَّمَنُ ثَوْبَهُ وَمَكَثَ في جُنُونِهِ ثَلاَثَ مِائَةٍ مِنَ السَّنَوات الضَوْئيَّة وبَقِيَ الشَّريطُ السَّينَمائِيُّ الذَّي اقْتَرَنَ ذِهْنِيَّا بِمَشاهِدٍ بُطُولِيَّةٍ واضْطراباتٍ شاذَّة و دَّوافع مُتَناقضة يَتَمَوَّجُ في ذاكِرَةِ ذلك المُتَشَرّد الَّذي يدَّعي بِأنَّه مِنَ النَّسِلِ المُحَسَّن وَنُخْبَة النُّخْبَة من الطَبقةِ النَّبيلة أبَـًا عَنْ جَدٍّ .
أرْسَلَتْ بيترا نَظَرات التَّخاطُر عَنْ بُعْدٍ عِنْدَما تَلاقَتْ عَيْناها بَعَيْنَي أدريان المُتَشَرّد مَعْ إدْراكِها المسبق بما يَنْطَوي عَلَيْهِ ذلِكَ من تَبِعَاتٍ مَعْنَوِيَّةٍ عَميقةٍ دُون أنْ تَنْبِسَ لَهُ بِبِنْتِ شَفَةٍ حينَما تركتهُ وَتنحَّتْ جانِبًا عَلَى المَمَرَّ الرَّمْلِيّ الَّذي يُوازي البَحْر عَلَى بُعد أَمْتارٍ لِتَسْلُكَ مَدارِجَ البَحْر الصَّاخب مِنَ الجَنُوب السَّويديَ إلى العاصِمِة الدَّنَماركيَّة عبر القارب السَّريع.
بَدَتْ بيترا بِشَعْرِها الأَحْمَر القُرْمُزيّ وَبَشَرَتِها المُنَمَّشَةِ مِثْلَ دُمْيَةٍ باريسِيَّةٍ صُنِعَتْ في بِدايَةِ الألفيّةِ الثَّالِثَةِ ,كانَتْ مولعة بِتَأَمُّل الأشْياء الَّتي ظَهَرتْ لَها عَلى حَقيقَتِها المُجَرَّدَة نَتيجَة طَفْرَة جينيَّة مكْتَسَبَة فباتَتْ تُدْركُ ما لا تُدْركهُ الرُّؤْيةُ المألوفةُ كانتْ تَرى القَمَرَ كَأديمٍ مُحَفَّرٍ وَمُتَجَرِّدٍ منْ ألقابِهِ الكلاسيكيَّةِ ومن الجَمال لوْلا الضوء المُكْتَسَب التي مَنحَته إيَّاه مَكانَتُهُ الاسْتراتيجيَّة كانتْ تَتَأمَّلُ دقائِقَ الغُبار الَّتي يَتَلاعَبُ بِها مَزاجُ الرِّيحِ المُتقَلِّبةِ عنْدما تواصِلُ غَيّهُا دُونَ رَادِعٍ كانت تَرى تَدافُعَ الحُشود المارَّة المُجَرَّدة منْ كلِّ شيءٍ عَدا نواياهُم الَّتي تبايَنْت بيْن درجات اللَّوْن الشَّفاف و لوْن الغيوم الدَّاكنة.
عَلى مَقْرُبَةٍ من أسْيجَةِ المساءِ المُفَخَّخ وقفَ الناجي الوحيد الذي يكرِّرُ نفسَهُ على نفْس الهَيْئة منْذ العصور الوُسْطى بأسماء وأشْكالٍ مَخْتلفَةٍ منْذ أنْ تداوَلَتهُ الحِكايات الشَّعبية في الرّيف الإسكنْدنافي، علَى شاكلِةِ كائِن مُقدَّسٍ يحْملُ بيَدهِ مِطْرَقةً عظيمةً وفي مرَّة من المّرَّات أقْسَمتْ كاتيا العَجوزُ الخَرِفَةُ التي ترْتدي جبَّةً صَنَعتها من فراء أوْهامها أقسمت ْبأنَّها رأتْ هذا الكائِن بِصورتِهِ الهلُامية الجبَّارة
على مقْرُبَةٍ منها وظَهرَ لها بعينَيهِ الخَضْراوين وَشَعْره الأحْمر ولحْيته الكَثّة الَّتي اسْترسَلتْ إلى مَسافاتٍ تَجتاز المَناطِقَ المُحرّمَةَ دوَليًا قَبلَ انْ يتَجَسَّد في هيْئة البَشَر .
ظلَّت العجوز الخَرفَة تُقسم أغْلظَ الأيْمان بِمُعْتَقدها الوَثنيّ الذي أخفته عُنْوة بأنَّها رَأت لحيتَهُ المُشَتتة في ثنايا غابات الجنّ المتحوّل ..أشاحتْ بيترا وجْهَها نَحْوَ حُقُولِ الخزامى (اللافاندل) البَنَفْسَجِيَّة الَّتي توزَّعَتْ بِرَتابةٍ فوْقَ وُعُورَةِ الأرْض ثمَّ غَرقتْ مِنْ جَديدٍ في عالَمِها المَخَفيّ .
الجزء (5) الغيوم العالِقَةِ
بقلم حتام حمودة ,السويد مقاطعة سكونة
|