دلالة القافية -2-/ د . رجاء بنحيدا
القوافي المتنوعة:
إذا كان الشعر التقليدي يعتمد على القافية الموحدة، فإن ما يميز القصيدة الحديثة هو غياب "كل نظام" موحد في القافية. فالقافية في الشعر المعاصر أضحت عنصرا غير تزييني، عكس ما هو عند القدامى كابن جعفر في كتابه "نقد الشعر"، وابي هلال العسكري في كتابه (الصناعتين)، وابن رشيق في كتابه (العمدة) وآخرين، وقد اعتبرتها نازك الملائكة حلية تضاف إلى البيت لإثبات نهايته، وهذه الوظيفة يعاكسها جان كوهين في كتابه "بنية اللغة الشعرية" كما عاكسها أرغوان في قوله: "إن القافية .. هي التي تملي علينا مكان الرجوع إلى السطر". والحقيقة أن الشعر الحر لم يهمل القافية، فالقافية قائمة في الشعر الحر، وإن أخذت شكلا أو إن صح القول أشكالا هي في جوهرها أشد صعوبة من القافية القديمة إذ قد نجدها في أول السطر، في وسطه أو في نهاياته، فهي لا تستقر في موضع واحد، وربما لا نجدها متوالية سطرا بعد آخر، فهي إذن متنوعة، فهي لم تعد وسيلة تجميل فقط. ولا وسيلة تكبيل وتقييد كما يقال بقدر ما اضحت "تحمل إحساسا عميقا بأن البيت الشعري كالبيت الاجتماعي لم يعد يصلح للسكنى، ولا تجدي معه أية محاولة لترميمه، وإصلاحه لذلك لا مفر من هدمه من أساساه وتشييد بناء جديد يصلح لظروف العصر ويلبي متطلباته المستجد ويستجيب لقوانينه المغايرة وتحولاته المستمرة".
فالقافية في الشعر الحر تميزت بتنوعها على ما استقر في الأذهان من بنية الشعر التقليدي إذ حاولت أن "تشاكل بينها وبين دور حرف الروي أو بعبارة أخرى حاولت أن تجعل حرف الروي صوتا متنقلا .. وبذلك صارت القافية هي أنسب صوت أو كلمة ينتهي بها السطر الشعري، بحيث يمكن الوقوف عندها والانتقال منها إلى السطر التالي ومن أنماط القافية:
1- القافيـة المرسلـة:
هي القافية الخالية من حرف الروي، وهي معروفة قبل مجيء حركة الشعر الحديث فيما سمي بالشعر المرسل".
وقد أكدت الدكتورة سهير القلماوي جدوى الشعر المرسل وفائدة الإنعتاق من قيد القافية الموحدة ورأت في الشعر المرسل "أنواعا جديدة من الموسيقى يعجز عنها بل قد يفسدها الشعر المقفى، الوزن في القصيدة ليس بالنغم الخافت الذي تسمعه الأذن، هناك موسيقى الألفاظ وموسيقى الحروف، فهل من المحتوم وجود القافية المحركة بحركة معينة حتى تشعر بأن هناك موسيقى".
وفي رأيي أن القافية من دعائم الشعر، لا يمكن الاستغناء عنها، أو إلغائها إلغاء كليا، بل إن ملاحظتها في مقطوعة بعد مقطوعة متعة تخف إليها الأذان.
ولعل أكبر دليل على ذلك هو اضمحلال الشعر المرسل منذ الخمسينات، لأن أصحابها لم يستطيعوا أن يقدموا النماذج الرائعة التي تعوض عن القافية وسيطرته على الأذواق العربية، وهكذا ظلت حركة الشعر المرسل حركة مسايرة للشعر الموروث لا بديلا عنه. يقول بلندحيدر:
1) "أسقط من بعدي الأول.
2) وجهي يغرق في وجهي.
3) عيني تبحث عن عيني.
4) ها إني.
5) أتمزق بين اثنين.
...
6) "فأنا وحدي المقتول بقتل أبي.
7) والذنب وحيد مثلي.
8) ما اسمك؟
9) لا أعرف لي اسما .. لا أذكر ما اسمي"
ونورد أيضا هذه الأبيات المرسلة من قصيدة "الدعاء لخال يوسف"، كما يشهد هذا المقطع من قصيدة "دعاء":
1) "وأدرنا وجوهنا: كانت الشمس
2) غبارا على السنابك، والأفق
3) شراعا محطما؛ كان تموز
4) جراحا على العيون وعيسى
5) سورة في الكتاب
6) واهالدينا
7) من بخور، من خمرة، من رخام
8) تختفي، تختفي على وهج دنيا
9) من نخيل برقها وهجير
10) وحروف محفورة في السماء.
2-القافيةالمحورية:
في هذا النوع من القافية يبدأ الشاعر بقافية تظل تتردد هنا وهناك حتى تجدها في آخر بيت في القصيدة، يقول هنري ميشونيك: "أن القافية المركبة والقافية المجانسة تدخلان من الجدة والضرورة اللتين تكونان تاريخية القصيدة لدى مايو كوفسكي.
مثال على ذلك قول محمد السرغيني:
1) على سراج الشمس والحجارة
2) على نعوش الخبز المنهارة
3) أعود، لو تنصفني العبارة
4) يا حامل الهودج بالأقدام
...
5) أن يستعيد صورة البكارة.
ومن النماذج أيضا قصيدة بدر شاكر السياب "ها .. ها .. هوه":
1) تنامين أنت الان والليل مقمر
2) أغانيه أنساموراعيه مزهر،
3) وفي الأحلام، من كل دوحة
4) تلقاك معبر
5) وباب غفا بين الشجيرات أخضر
6) لقد أثمر الصمت (الذي كان يثمر
7) مع الصبح بالبوقات أو نوح بائع)،
8) بتين من الذكرى وكرم يقطر
9) على كل شارع
10) فيحسو ويسكر
11) برفق فلا يهذي ولا يتنمر.
3- القافية المتتابعة:
في هذه القافية يتوالى الروي على سطرين أو ثلاثة ثم ينتقل الشاعر بعدها إلى روي أخر ليفعل معه ما فعل مع الروي الأول وما يقارب ذلك، وقد عرفت بكثرة لدى الرومانسيين في القرن 19 في ما سمي بالشعر الحر أو المنطلق كما عرفتعند شعراء البند.
يقول بلند الحيدري:
أريد أن أسأل من يحلم ... عن أحلامه
أريد أن اسأل من يألم... عن آلامه
عن قطرة مسمومة في جامه المحطمة
أريد أن أزحزح الليل فلا تختل تحت ظله
أفعى ولا تسعى وراء رجله
تنفث ألف فكرة محرمة.
4- القافية المتعانقة:
وهو نمط يعتمد على شكل (أ-ب-ب-أ) فهي عبارة عن قافيتين متشابهتين تفصل بينهما قافيتان متشابهتان كذلك.
يقول خليل حاوي في قصيدة "الوجه السرمدي"
1) إن خلف الباب، في صمت الزوايا يحفر الموج، تدوي الهمهمة ←(أ)
2) إن في وجهك آثار امن الموج، وما محى، وحفر ← (ب)
3) وأنا عدت من التيار وجها ضاع في الحمى، وفي الموج تكسر ← (ب)
4) بعضنا مات ، ادفنيه، ولماذا نعجن الوهم ونطلب الجمجمة← ( أ )
ويقول بدر شاكر السياب في قصيدة جيكور أمي :
- تلك أمي وإن أجئها كسيحا ←( أ )
- لا ثما أثمارها والماء فيها، والترابا ←( ب)
- ونافضا بمقلتي أعشاشها والغابا ←( ب)
-تلك أطيار الغد الزرقاء والغبراء يعبرن السطوحا ← (أ).
5- القافية المتواطئة:
كانت الشعرية العربية القديمة تسمى إعادة كلمة الروي بلفظها ومعناها إيطاء، وقد صنفتها عيبا من عيوب القافية في حين يعتبرها محمد بنيس من مظاهر القوة الايقاعية في النصوص الشعرية المعاصرة، إذ "يصعد الإيقاع ويكثفه فيما هو يلغي المعنى الواحد ليحل محلهبناء الدلالية".
يقول نزار قباني في ديوان "خمسون عاما في مديح النساء":
1) لوننا المفضل السواد
2) ونفوسنا سواد
3) عقولنا سواد
4) داخلنا سواد
5) حتى البياض، عندنا، يميل للسواد.
وكذلكنموذج من قصيدة: "خيبة الإنسان القديم"
1) صليت يل أختاه
2) صليت حتى صارت الذنوبفي مجاهلي صلاه
3) وصمت حتى جفت الشفاه
4) وقلت: في الشفاه
5) في الخثب المعد للشتاء لي إله
6) وإنني سحابه جادت بها يداه
7) وإنني حلم الرمال السمر بالمياه
8) وإنني من يبسي أفجر الحياة.
هذه إذن بعض الأنماط التعددية للقافية، وليست حصرا شاملا لها بقدر ما هي تحديد لبعضها ورسم إطار لبعض أشكالها، إذ إن عملية وضع قانون وقاعدة أساسية للقافية وأنماطها، لن تبلغ غاياتها وحدها النهائي ما دامت القصيدة المعاصرة لم تعرف بعد أشكال حدودها الموسيقية الايقاعية.
- يتبع -
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|