كاتب نور أدبي مضيئ
|
رد: ورشة لكتابة القصة القصيرة جداً / راجية من الجميع المشاركة
لحظة ألـــــم
تَحدَّى الموتُ تلكَ الليلةَ المُرعبةَ الحالكةَ الظلامِ، زَخَّاتُ المطرِ تتساقطُ بين الفينةِ والأُخرَى مع هَبَّاتِ ريحٍ قويةٍ, عربدةُ الجنودِ وأصواتُهم عَبْرَ مكبراتِ الصوتِ المزعجةِ سيدةُ الموقفِ, منذُ فجرَ أمسٍ والقريةُ مُحاصرةٌ كأنَّها ثُكْنَةٌ عسكريةٌ, الجندُ مُنتشرون في كلِّ مكانٍ, أسْطحُ المنازلِ نقاطُ مراقبةٍ تُؤذي الأهالي, الدَّوريَّاتُ تجوبُ شوارعَ البلدةِ وكشَّافاتٌ تدورُ في كلِّ الاتجاهاتِ بحثًا عن عددٍ من الشبابِ, طائراتُ الهليوكوبتر ما إنْ تختفي حتَّى تعود, قنابلُ الإنارةِ تُطلقُ في سماءِ القريةِ فتحيلُ الليلَ إلى نهارٍ للحظاتٍ؛ حتى بلغت القلوبُ الحناجرَ.
صراخُ زوجته التي أوشكتْ على الولادةِ يقصفُ كِيانَهُ, طِفلهُ الذي يصارعُ بكل قوته للخروجِ من ظلماتِ ثلاثٍ إلى ظلامِ الدُّنيا المضطربِ, بناتُهُ الثلاثُ يرقدْنَ كالملائكةِ في غرفةٍ مجاورةٍ, كان يدعو اللهَ أنْ يرزقه طفلاً ذكراً يحملُ اسمه ويكونُ الجارحَ له عند كِبَرِهِ, طلقاتُ الرصاصِ تُسمعُ كلَّ حينٍ ترهيبًا وجُبنًا, الطبيبُ الوحيدُ في آخرِ القريةِ ومن المستحيلِ الوصولُ إليهِ, القابلةُ غيرُ القانونيةِ وصولُها بحاجةٍ لمُعجزةٍ رَبَّانيةٍ, تساءل - لِمَ القدرُ يعاندُني حتَّى اختارَ هذا التوقيتَ السيِّئَ؟ لعن الصهاينةَ الذين يُعكِّرون صفوَ القريةِ دون سابقِ إنذارٍ كلما طابَ لهم ذلك.
حمدًا للهِ أنَّ للبيتِ بابًا خلفيًّا يفتحُ على الحديقةِ، حمدًا لله أنَّ بيتَ القابلةِ بعيدٌ عن الشارعِ الرئيسِ، قال لزوجتهِ كي تطمئنّ.َ
الزوجةُ تتألمُ والطفلُ يأبى إلا الخُروجَ, أطفأ النورَ وأبقى على نوَّاسةٍ صغيرةٍ، فتح البابَ ببطءٍ شديدٍ, لبسَ عباءَتَه ذاتَ اللونِ البنيِّ, سمع صوتَ الدوريةِ تتوقفُ أمامَ بيتِهِ, الجند يصرُخُونَ ويُعربدون.
يا إلهي! لماذا الآن؟ متى سينصرفون؟
دقاتُ قلبهِ تزدادُ مع كلِّ ثانيةٍ ينتظرُها, كان يخشى أن يقتحمَ الجندُ منزلَه في غيابه فيزدادَ الأمرُ سُوءًا؛ سيتهمونَه بالإرهابِ ودعْمِ الفدائيين -الإرهابيين كما يزعُمُون- هو يعلمُ تمامًا أنهم يُطلقون النارَ على كلِّ مُتحرِّكٍ, أعصابُه مشدودةٌ, صراخُ زوجتِه يُعذبُه, صوتُ الدوريةِ يزدادُ قوةً. لا بُدّ أنهم سينصرفون الآنَ. لحظاتٌ قاتلةٌ, قلبُه يكادُ يخرجُ من قفَصِهِ الصدريّ, تحرَّكت السيارةُ إلى قلبِ البلدةِ, أخذ يزحفُ في الطينِ غيرَ مبالٍ, كلما سمعَ صوتًا أو أنارت السماءُ بقنابلِهِم أخلدَ إلى الأرضِ, يزحفُ ببطءٍ شديدٍ, ساعةً وهو يجاهد حتى وصلَ إلى بيتِ القابلةِ, دقَّ البابَ بنعف؛ تجمَّد الأهلُ بالداخلِ, قامت الأم فزعة, خشيتْ أنَّ جندَ الاحتلال سيقتحمونَ المنزِلَ غيرَ مُبالين كالعادة, أسعفَهُ لسانُهُ فنطقَ: - أنا عِمرانُ يا أمَّ محمودِ. - عِمرانُ! ما أتى بكَ الساعةُ؟
- زوجتي يا أمَّ محمودٍ, تتألم.
- الصباحُ رباحٌ يا عمرانُ, سيكونُ أمانًا, ورُبما ذهبَ اليهودُ.
ـ مستحيلٌ, زوجتي على وشْكِ الوِلادةِ.
ـ كيفَ سنذهبُ والجنودُ يُطلقون النارَ حتى على الحيوانِ؟
ـ سنذهبُ من الخلفِ عبرَ البساتين فلا أحدَ يكشفُنا.
-لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ! انتظرْ لأرتديَ ملابسي.
ـ أرجوكِ يا أمَّ محمودٍ, علينا أنْ نزحفَ وإلا شاهدَنا الجنود.
نزحفُ! هلْ جُننتَ يا رجلُ؟ الوحلُ يملأُ كلَّ مكانٍ!
ـ هذه هي الطريقةُ الوحيدةُ لنصلَ أحياءً, هيَّا لا وقتَ نضيعُهُ.
أخذت أمَّ محمودٍ الأرضُ, زحفتْ في الطينِ, المطرُ ينهمرُ بسخاءٍ, طلقاتٌ تُسمعُ كلَّ حينٍ, نالَ الشوكُ من أيديهما, تعثَّرَا كثيرًا في الحجارةِ, وقعَا في الحُفَرِ المملوءةِ بالماءِ, أمُّ محمودٍ تكادُ تبكي ممَّا حَلَّ بها, أخيرًا وصلَا البابَ الخلفيَّ, فتحَهُ ببطْءٍ شديدٍ, سمعَا صوتَ طفلٍ يبكِي بمرارةٍ, دخلتْ أمُّ محمودٍ وأغلقَ البابَ, أنارَ الضوءَ, الدَّمُ يملأُ المكانَ, كانت الفتياتُ الثلاثةُ مرعوباتٍ حتى الموتِ, وقد تجمدْنَ حولَ الأمِّ كأصنامٍ. في عَجَلٍ قطعتْ حبلَهُ السُّرِّي وربطتْهُ, ولدٌ يا عمرانُ مبروك. ـ إنهُ ولد.
. حملهُ بين يديهِ بحنانٍ ضمه لصدره, اغرورقت عيناه بالدموع سعيدا, ثم, انفجر باكيًا عندما أخبرَتْه أمُّ محمودٍ أنَّ زوجتَهُ فارقتْ الحياة.
|