رد: رواية رجل من الماضي على حلقات
كانت الصحفيَّةُ سوزي تعملُ محرِّرةً لصفحةِ الحوادث في الجريدة اليوميَّةِ في البلدة بعد أن تخرَّجتْ في كلية الإعلام، اعتادتْ بعد ظهرِ كلِّ يومٍ زيارة مقرِّ الشرطة للاطِّلاعِ على ما يستجدُّ من حوادثَ في البلدة؛ لتعودَ بها إلى الجريدة، وتنشرَها في العددِ القادمِ.
كانتْ سوزي معروفةً في البلدة لدى الجميع، كانتْ على عَلاقةٍ قويَّةٍ مع قائد المخفرِ وأفراد الشرطةِ، وكثيراً ما تجدُها في موقعِ الحادثة فورَ وقوعِها، فتلتقطُ الصورَ وتجمعُ المعلوماتِ من كلِّ مَنْ له عَلاقةٌ بتلك الحادثة؛ وهذا ما أكسبَها شهرةً كبيرةً.
كانتْ تجلسُ في مقرِّ الشرطة ككلِّ يومٍ في الميعاد نفسه، الصحفيةُ سوزي بشعرِها المائل للحمرة وقَصَّتِهِ الفرنسية التي تُضيفُ هالةً تحيطُ بوجهها الدافئ، بعينيها اللامعتين بلون الزيتون الأخضر، بقامتها الطويلةِ، ترتدي بنطالَ الجينزِ الأزرقَ السماويّ والسترةَ ذات اللون الهادئ الذي يعكسُ لونَ عينيها، تحضرُ كلَّ يومٍ لتسجِّلَ الأحداثَ التي تجري يومياً؛ لتنشرَها في الجريدةِ التي تعملُ فيها.
عند ظهرِ ذلك اليوم كانتْ سوزي هناك، تجلسُ مع النقيب جاك، عندما حضر شابان على عجَلٍ بادٍ عليهما الفزعُ، وبلّغا عن رجلٍ غريبٍ ظهر بشكلٍ غريب، ويتصرف كتائهٍ أو مجنون، ويسألُ أسئلةً غريبةً، ويتجول في الشوارع بلا هدفٍ، يرتدي ملابسَ غريبةً وباليةً، أكَّدَ الشابان أنَّ صديقاً لهما يتبعُ الرجلَ ليُراقبَهُ، ويبلِّغَ عن مكانِه حتى تحضرَ الشرطةُ.
رنَّ هاتف الجوال مع أحد الشابّين، وتلقَّى مكالمةً من صديقه الذي يتبعُ الرجلَ وأخبرَه أنَّه يجلسُ الآن تحتَ شجرةٍ بوسط الحديقة، على الفورِ غادرتْ سياراتُ الشرطةِ مُتوجِّهةً نحوَ الحديقةِ وهي تُطلقُ صفاراتِها، وتنيرُ الشارعَ بأنوارِها، وتفرَّقتْ ملتفَّةً حولَ الحديقةِ من كلِّ جانبٍ.
4
عاد الرجلُ إلى حالةِ صمتٍ رهيبٍ خيَّمتْ عليه، كانتْ الأفكارُ تضطربُ بعقله ووجدانه، بعد أنْ آل إلى هذه الحالِ جلسَ تحت الشجرةِ؛ ليأخذَ استراحةً قصيرةً قبل أن يُعاودَ البحث عن أسرته بعد أن تذكَّر زوال بيته القابع بجانبِ قصرِ العمدةِ -الذي اختفى أيضاً- ولم يبقَ إلَّا أطلالٌ منهما..
كان الرجل مُشوَّشاً لدرجة أنَّه لم يكن قادراً على التفكير في شيءٍ، وساد الهدوءُ حوله بالرغمِ من أنَّ ضجيجَ السيَّاراتِ التي تعبرُ الشارع يصمُّ الآذانَ، إلا أنَّ الرجل بدا في سكونٍ مُطبقٍ، اقتحمَ النقيبُ جاك ورجالُه الحديقة مُلوِّحين بمسدساتِهم بعد أنْ انتشروا حوله، أصابه الوجومُ والخوفُ، حاول النهوضَ والهربَ، ولكنه أدرك أنَّه لا جدوى من ذلكَ؛ فآثر الصمودَ والمواجهةَ.
في تلك اللحظةِ غادرتْ سوزي مقرَّ الشرطةِ مع الشابين، وتوجهت أيضاً نحو الحديقةِ، وأخذتْ تُراقبُ ما يجري، وتُسجِّلُ في دفترِها الملاحظاتِ وتلتقطُ الصورُ.
قال النقيبُ جاك بعد أنْ تقدَّم إلى الأمام عبر مُكبِّر الصوتِ: المكانُ مُحاصرٌ، سلِّمْ نفسك، ضع يديك خلفَ رأسِك، لا تتحركْ وإلا سأطلقُ النارَ عليك.
قام الرجلُ وقد تملَّكه الرعبُ من هوْلِ ما رأى ومن كثرةِ رجال الشرطةِ وسياراتهم وأنوارها المتلألئة فوق سقوفها حتى ظنَّ الناسُ أنَّ هناك سطواً مُسلَّحاً أو فيلماً سينمائيّاً يصوَّرُ خاصةً عندما شاهدوا زيَّ المُتَّهمِ الغريبَ.
شاهد الرجلُ كمًّا هائلاً من الناس يُحيطون بالمكان من بُعد، وازدحمتْ السيارات وتعطَّلتْ حركةُ السير، وتجمَّعَ الصحفيون حتى بلغ منه الرعبُ مبلغه، خارتْ قُواه وأيقن بالهلاك، شعر أنَّ نهايته قد اقتربتْ، صلَّى صلاةً سريعةً: "مَنْ آمَنَ بي وإنْ ماتَ فَسَيَحْيَا".
وقف الرجل رافعاً يديه خلف رأسه مفرجاً ما بين قدميه، تقدَّمَ نحوه عددٌ من رجالِ الشرطةِ مُصوِّبين مسدساتِهم نحوه وأحاطو به، قام أحدُهم بتفتيشِه تفتيشاً دقيقاً ثم كبَّلوه بالقيودِ، لم يُعثرْ معه على شيءٍ، فقادوه إلى السيارةِ التي تنتظرُه ثم توجَّهوا به إلى مقرِّ الشرطةِ لاستجوابه.
بقيتْ سوزي تلتقطُ الصورَ إلى أن تمَّ إلقاءُ القبضِ عليهِ، فعادتْ أدراجها إلى مقرِّ الشرطةِ؛ لتتابعَ ما سيحدُثُ، أخذتْ سوزي موعداً مع الشابين في المقهى، بعد الانتهاءِ من التحقيقِ.
كان الرجلُ خائفاً مُتعباً وهو مُحاطٌ برجالِ الشرطةِ الذين لم يسبقْ له أنْ تشرَّفَ بلقائهم من قبلُ؛ فانهارَ مَغشيّاً عليه وهو يهذي: أريدُ أرضي.... أريدُ زوجتي....
نُقلَ الرجلُ إلى المستشفى، وأُعطي العلاجَ اللازمَ، ثمَّ طلبَ الطبيبُ من الشرطة ترْكَ الرجلِ حتى يستريحَ،... وضعتْ الشرطةُ حارساً عليه، وقُدِّمَ للرجل الطعامُ والماءُ والدواءُ.
كان لدى المحقِّق حَدَسٌ أن ثَمَّةَ ما يربط بين الجثةِ والمُتَّهم بالرغم من تقريرِ الطبيبِ الشرعيّ أنَّ الموتَ كان طبيعياً.
طلبتْ سوزي من الشبابِ أن يَرْووا، لها ما حدثَ معهم ومع الرجلِ عندما ظهرَ عليهم فجأةً، وعندما شاهدتْ سوزي الشبابَ يجلسون أمام المقهى ومن خلفِهم سياجٌ حديديٌّ كبيرٌ ولاحظتْ عُلوّ البنايةِ وعرفتْ أنَّ الرجل ظهرَ خلف الشبابِ من جهة الحاجزِ أصابَها الوجومُ كما أصابَ الشبابَ أوَّلَ مَرَّةٍ....
كان لدى سوزي اعتقادٌ أنَّ هذا الرجل ليس طبيعيّاً، وربَّما ليس من البشر وأنَّه يحملُ أسراراً غامضة.
أخذتْ سوزي المعلوماتِ الكاملةَ من الشباب وسجَّلتْ الوقتَ الذي ظهر فيه بدقَّةٍ.
5
يتبع
|