رد: رواية رجل من الماضي على حلقات
مدينة بايون 1827م
عاش جو ويلسون مع أخيه الأصغر المُدَلَّلِ والأنانيِّ جون وأخته جوليت لأبوين فقيرين مُعدَمَينِ في منزلٍ يدلُّ على البؤس والحرمان؛ يتكون من غرفتين حقيرتين خاليتين من أبسط الضروريات، فيهما صناديق خشبية قديمة تُستخدمُ خزائنَ لملابسهم الباليةَ وبضعُ بُسُطٍ للنوم، وعِدَّةُ أغطيةٍ مُهترئة وبعضُ أواني المطبخ الكالحةَ.
كان والدُه مارتن ويلسون يعمل نجاراً في محلٍّ متواضعٍ في أحدِ أزقَّة البلدة بأجرة زهيدة بالكاد تكفي لقمةَ العيشِ، وهو رجلٌ ضعيفٌ البنية، متوسط الطول، أصفر البشرة، رقيق اليدين، عيناه عسليتان، وأنفُهُ دقيقٌ، له لحيةٌ ذاتُ شعرٍ خفيفٍ، وقد عُرِفَ بسلاطةِ لسانِه.
أمُّه متوسطةُ الطولِ، شعرُها أشقرُ مائلٌ إلى الحمرةِ، عيناها عسليتان لوزيتان، وأنفُها جميلٌ، ورثَ جو طيبةَ أمِّه وشكلَ أبيه، في حين ورثتْ جوليت وجون جمالَ أمِّهما.
أحبّ جو أباه وأسرته وآلمته حالةُ والدِه الصحيةُ والنفسيةُ؛ إذ كثيراً ما كان يتعرَّضُ للإهانةِ من صاحبِ العملِ على مرأى من الكثيرين، فيشتمُ ويلعنُ وينهرُ بل كان صاحبُ العملِ يضربُه أحياناً، تلك الحالة التي كان الأبُ يتعرَّضُ لها من أجل تحصيلِ لقمةِ العيش لأسرته، جعلتْ من جو وحشاً في قفصٍ يتَّقِدُ صدرُه غيظاً، وبداخله صراعٌ عنيفٌ حولَ مَثَلِهِ الأعلى الذي اهتزَّ أمام عينيه مراتٍ ومراتٍ؛ إذ مَثُلَ أمام عينيه ذليلاً خانعاً لأوامر سيِّدِه صاحبِ العملِ، مِمَّا حدا به يوماً إلى الخروج من البيتِ مُبكِّراً هائماً على وجهه في شوارعِ البلدةِ على غير هُدًى يُراقبُ الناسَ وأحوالَهم، ويرى عجباً من سادةٍ ظلمةٍ قُساةٍ وفقراء بائسين؛ فيلعنُ الحياةَ وقسوتَها، ويلعنُ أغنياءَ البلدةِ البلهاء ذوي القلوبِ القاسية.
ذاتَ مساءٍ التقى جو ببعضِ الصبيةِ من أقرانه يتسكَّعون في شوارعِ البلدة قربَ الحيّ الذي يسكنُ فيه، لكنَّهم كانوا يلبسون أفضلَ منه ولديهم بعضُ النقودِ التي لم يلمسْها يوماً بيده، عندما سألهم عن حالهم عرف أنَّهم من عائلاتٍ فقيرةٍ مثله تماماً، إلَّا أنَّهم يعملون في أسواقِ البلدةِ أعمالاً مختلفةً كالعتالةِ والتنظيفِ لقاءَ بِضْعِ بنساتٍ.
عندما فاق جو من حُلْمِ الطفولة وأصبحَ صبياً يعي ما يدورُ حوله ثار ضدَّ حياة الفقرِ التي يعيشُها مع عائلته، وأخذَ يفكِّرُ في رفعِ مُستوى حياتهم ومساعدةِ والدِه المسكين الذي أعياه المرضُ في وقتٍ زادتْ معه تكاليفُ الحياة.
طلب جو من الفتيه أن يقبلوه رفيقاً لهم يشاركُهم حياتَهم، ويتعلَّمُ منهم كي يستطيعَ مساعدةَ والده، ذلك الأمرُ الذي رحَّب به الجميعُ.
في صباح اليوم التالي وفي الموعدِ المتَّفَقِ عليه وفي المكان المُحَدَّدِ التقى جو بأصدقائه الجددِ ورافقَهم ذلك اليوم ليتعلَّمَ منهم، وما هي إلا أيامٌ قليلةٌ حتَّى استقلَّ جو عن رفاقه لما رأى منهم معاملةً سيئةً للفقراء والمساكين وكبارِ السِّنِّ، وأخذَ يعتمدُ على نفسِه لكنَّه اتَّبعَ سياسةً تختلفُ عن غيره فكان يقبلُ أيَّ عَمَلٍ يُعرَضُ عليه ويقبل أيَّ أجرٍ يُدفَعُ له، وكان يعمل مَجَّاناً للفقراء على شاكلة والديه؛ فيساعدهم ويشفقُ عليهم.
أحبَّه الجميعُ لإيثاره وحُبِّه مساعدةِ غيرِهِ فكان الناسُ يتعاملون معه تاركين الصبيةَ الآخرين؛ لذا كان يقضي يومَه في العملِ دون انقطاعٍ لإخلاصه وأمانته.
كان جو ينسى الشقاءَ والتعبَ عندما يعودُ إلى بيته ويضعُ تلك البنساتِ القليلةَ التي يحصلُ عليها في يد والده، وهو يرى آثارَ السعادةِ والابتسامةَ على وجه أبيه وأمه، لكنَّه سرعان ما يقبعُ في زاويةِ البيت كعادته في كلِّ مساء حزيناً كئيباً غريباً بين عائلته شاعراً بالألم والحزنِ والتعاسةِ.
الأبُ يداعبُ جون بشغفٍ ومحبة:
عزيزي جون، يا لك من ولدٍ طيِّبٍ، سيكونُ لك مستقبلٌ رائعٌ بني.
قالتْ الأمُّ وهي تحتضنُ جون: ما أجملك! وما أروعك! ستكون لنا عوناً وسنداً، سترفعُ رؤوسَنا بين الناس، وسنفتخرُ بك بني.
جو يسمع ويتألَّمُ، جوليت تنظرُ بِشَفَقَةٍ لجو، وتتمنَّى أن يكفَّ والداها عن تدليلِ جون.
تهمسُ في أذنِ أمِّها:
أمي، أرجوك لا تبالغي في تدليلِ جون، تحدَّثي مع جو مرَّة بطيبةِ قلبٍ؛ فهو يشقى ويتعبُ من أجلنا جميعًا.
يسمعُ الأبُ كلامَ ابنته:
جوليت عزيزتي، لا أحدَ يعترف بجو، الجميعُ ينادون عليَّ بوالد جون، بل يسخرون مني بسببه، بالأمسِ عندما جاء إليَّ المعلمُ نهرَني وعنَّفني وكاد أن يضربَني عندما علم أنَّ جو ابني، إنَّه عارٌ علينا جميعًا، انظري إليه إنَّه أشبهُ بحيوانٍ، فلتأخذْه الآلهةُ بعيدًا عنا، إنَّه لعنةٌ علينا، إنَّه سببُ ما نحن فيه من الفقرِ والعذاب، صدِّقيني بنيةُ منذ وُلِدَ هذا الأبلهُ ونحن في فقرٍ شديدٍ ومرضٍ مؤلمٍ.
جوليت: إنَّه منا وله علينا المحبةُ والاحترامُ، إنَّه يكدُّ ويشقى طوال اليوم ليساعدَنا فقط، منذ أنْ عمل جو حصلنا على أشياءَ لم نكنْ نستطيعُ شراءها من قبلُ، علينا أن نُقدِّرَ ذلك والدي.
الأب: أنتِ لا تفهمين بنيةُ، إنَّه... إنَّه يُخفي المالَ عنا، لا يُعطينا إلَّا القليلَ، لن أسامحَه على ذلك أبدًا.
يعيش جو مُتألِّما بين أسرته، هكذا يمضي أيامه ولياليه، لقد تسبَّبَ له والداه بحالةٍ نفسيَّةٍ حزينةٍ ومؤلمةٍ وصعبةٍ، لكنَّه كان يحبهم ويحترمُهم خاصَّةً أختَه جوليت، كانت دومًا تدافعُ عنه وتُشعرُهُ بحبها.
كان والداه يعطفان على أخيه الأصغرِ جون كثيراً، وكان جون الطفلَ المُدلَّلَ في العائلة، له كلُّ الحبُّ والحنان، وطلباته مُجابة، حتى غدا أنانيًّا للغاية وصعبَ المِراس، لكنَّ جو تعوّدَ على تلك المعاملة غير العادلة، كان يأملُ أن تتغيَّرَ المعادلة عندما أصبح عاملاً يساعدُ في مصروف العائلة، ولكنَّه بقي مَنسياً كالعادة.
ذات يوم عاد جو من العملِ مُبكِّرًا على غير العادةِ، كان خائفًا يرتعدُ كعصفور بلله المطر، دخل البيتَ، أغلقَ البابَ خلفه، كان يُتمتمُ بكلام غير مفهوم، أسعفته أخته بكوب من الماء، رمى بنفسه بأحضانِ أمِّه، ونظر إلى البابِ قائلاً:
المُسلَّحون يُطلقون النار في كلِّ مكانٍ، قبضوا على صديقٍ لي وأخذوه معهم، كاد أحدُهم أنْ يُمسكَ بي، لكنَّني أفلتُّ منه وهربْتُ، قتلوا الكثير من الناس في السوقِ، نهبوا المحلاتِ، سرقوا كلَّ شيء... كلَّ شيء.
قالتْ الأمُّ: - بصورةٍ عفويَّة على غير العادة- لا عليكَ بني، أنت الآن بأمان، لا أحدَ يصلُ إليك، اللعنةُ عليهم، هؤلاء الأشرارُ ليس لهم عملٌ إلَّا القتلَ والنهبَ، أينَ الشريفُ ورجالُه؟ أينَ القانونُ؟
قالتْ الأختُ: لعلهم شركاءُ لهم؛ لذلك لا يظهرون إلَّا بعد فواتِ الأوانِ، حمدًا لله على سلامتِك أخي جو.
كان المسلحون الفارُّون من القانون يعيثون في الأرض الفساد هنا وهناك، تلك الحادثةُ أدخلتْ الخوفَ في نفس جو، كان يهربُ حتى عندما كان يرى الجندَ الذين يُحافظون على الأمن والقانون، وكان يعملُ في السوق بحذرٍ وخوفٍ، ويجدُ نفسَه في البيت منبوذًا من الأبِ والأمِّ، حياة اعتادها جو وعاشَها بمرارةٍ.
اعتادتْ العائلةُ كلَّ مساءٍ الجلوسَ والحديثَ، كان جون محورَ الحديث دائماً، ونظراتُ المحبة والدلال تنصبُّ عليه، فيما كان جو وحيداً واضعاً رأسَه بين ركبتيه، حتَّى يغشاه النعاسُ فيخلد في نوم عميقٍ من التعبِ والشقاء، ولم يفقْ من نومِه إلَّا في الصباحِ الباكرِ على صراخِ أبيه الذي يلكزه بقدمِه يطلبُ منه الذهابَ إلى العملِ.
يستيقظُ جو كلَّ صباحٍ مُبكراً فيرتدي ملابسَ العمل الرثَّةَ ويتناولُ الطعامَ اليسيرَ مع والده، ونظراتُ عينيهِ الحزينةُ ترقبُ أخاه جون وهو يغطُّ في نومٍ عميقٍ في فراشٍ دافئٍ، وهو يراقب قُبُلاتِ والده التي تودعه كل صباح قبلَ خروجه للعمل، فيما كان ينتظر جو يوماً آخرَ من الشقاء والتعب في ظلِّ ظروفِ الشتاءِ القاسيةِ والأمطارِ الغزيرةِ والبردِ القارسِ.
كان يفكرُ: كيفَ سيعودُ آخر النهارِ تقطرُ ثيابُه ماءً، وهو يرتعدُ من البرد في حين يرى والدَه يحتضنُ جون بشغفٍ ومحبَّةٍ أمام المنزل لدى عودته من العمل كلَّ مساء؟
هل يتقبَّلُ الأمرَ فحسب؟ أم عليه أن يدافعَ عن نفسه ويجدَ له مكانًا في قلب والده وبين أسرته؟ متى سيشعرُ أنَّ له قيمةً في البيت؟
لكنَّه كان يقول في كلِّ مرَّةٍ: هذا والدي لا أستطيعُ أن أتحدَّثَ في حضرته، عليَّ أن أعتادَ على ذلك.
كان جو بسيطاً ساذجاً ذا رأسٍ كبيرٍ وعينين واسعتين وجبينٍ ضيقٍ وحواجبَ عريضةٍ، يميلُ إلى السمرة، نحيفاً، طويلاً، سريع اللفظ، تفكيرُه محدودٌ، وهو مع كلِّ ذلك متواضعٌ وخدومٌ.
تمضي الأيام والشهورُ وجو يدورُ في نفس الحلقةِ من البيت إلى السوقِ ومن الشقاءِ إلى الأَلَمِ الذي كان يدقُّ قلبَه كلَّ مساءٍ عندما تجتمعُ العائلة، ويقبعُ هو في زاويةِ الغرفةِ يرقبُ ويتأمَّلُ ويحلمُ في عملٍ أفضلَ، بل كان يتمنَّى لو يستطيعُ الهروبَ من هذه العائلةِ والبلدةِ كلِّها إلى أيِّ مكانٍ؛ ليتخلصَ من معاناته التي يسبِّبُها له والداه بإهماله الشديد واحتضان أخيه جون حتى أصبح أنانياً وجشعاً ومُتعجرفاً حتى أن والده أرسله إلى المدرسة ليتعلم؛ فكان يحصلُ على كلِّ شيءٍ دونَ أنْ يقدِّمَ أيَّ شيءٍ.
يتبع
|