عرض مشاركة واحدة
قديم 18 / 09 / 2019, 31 : 07 AM   رقم المشاركة : [18]
رياض محمد سليم حلايقه
كاتب نور أدبي مضيئ

 الصورة الرمزية رياض محمد سليم حلايقه
 





رياض محمد سليم حلايقه has a reputation beyond reputeرياض محمد سليم حلايقه has a reputation beyond reputeرياض محمد سليم حلايقه has a reputation beyond reputeرياض محمد سليم حلايقه has a reputation beyond reputeرياض محمد سليم حلايقه has a reputation beyond reputeرياض محمد سليم حلايقه has a reputation beyond reputeرياض محمد سليم حلايقه has a reputation beyond reputeرياض محمد سليم حلايقه has a reputation beyond reputeرياض محمد سليم حلايقه has a reputation beyond reputeرياض محمد سليم حلايقه has a reputation beyond reputeرياض محمد سليم حلايقه has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: الشيوخ - الخليل - فلسطين

رد: رواية رجل من الماضي على حلقات


أفاقَ والدُ جو مُبكراً كعادته، لكنَّه لم يجدْ جو في فِراشِه، جالَ بعينيه حتى وقعتْ على الرسالةِ الموجودةِ في موقعٍ ظاهرٍ للعيانِ في زاويةِ البيتِ،.... نظرَ إليها وأخذ يتأمَّلُها، بدا عليه القلقُ؛... كان منظرُها يُوحي لهُ بشيءٍ غير طبيعيٍّ،.... إنَّه يعلمُ أنَّ جو لا يعرفُ الكتابةَ والقراءةَ...لكنَّه كانَ خائفاً.... التقطَ الرسالةَ وأخذَ يتفحَّصُها بعينين ثاقبتين، ثم نظرَ إلى جون....
كان يغطُّ في نومٍ عميقٍ، فموعدُ المدرسة لا زال بعيداً لكنَّه كان حائراً وخائفاً، فاضْطُرَّ لإيقاظِ جون من منامه؛ ليقرأَ له الكلماتِ الغامضة في تلك الرسالة الرهيبة، أخذ جون يقرأ رسالة جو....
كانت دموعُ والدتِهُ وأُخْتِهُ جوليت تنهمرُ، لكنَّ الأبَ كان غاضباً وأخذَ يُتمتمُ ثم ارتفعَ صوتُه وتكلَّم بكلامٍ غير مفهومٍ، لكنَّ الغضبَ سيطرَ عليهِ فتركَ البيتَ مُسرِعاً إلى حيث محطة القطار المتجهِ إلى البلدات المجاورة.
كانتْ المحطةُ فارغةً؛ غادرَ القطارُ قبل وصوله بفترةٍ طويلةٍ، جلس على الأرض وهو يتأمَّلُ سِكَّةَ الحديدِ، كانَ يأمَلُ لو يستطيعُ سحْبَ تلك السكةِ كأنَّها مربوطةٌ بحبلٍ؛ ليُعيدَ القطارَ إليهِ ويُخرجَ منهُ ابنَه جو ودموعُ عينيه الغزيرةُ تتساقطُ على الأرض....
كانتْ يداه تُمسكانِ بقضبانِ سكَّةِ الحديدِ وتشدَّانِ عليها بقوَّةٍ وعنف، كان الألَمُ يعصفُ بذراعيه وكتفيه ورأسه أيضاً، كانت الشمسُ قد بزغتْ ونشرتْ أشعَّتَها في كلِّ مكانٍ وتَسَمَّرَ مكانَهُ كتمثالٍ ونسيَ أنَّ موعِدَ العملِ قدْ حَانَ.
لقد أيقنَ أنّ جو غادرَ إلى الأبَدِ، وأنَّه لن يعودَ وكانَ يتمنَّى لو تعودُ عقاربُ الساعةِ للوراءِ ليَضُمَّ إليه جو بحبٍّ وحنانٍ ويعوِّضَهُ عن قسوةِ قلبِه وإهمالِه له؛ لأنَّه تأكَّدَ أنَّ جو قدْ هرَبَ من مُعاملتِهِ لهُ وأنَّهُ فقدَهُ إلى الأبَدِ.
مرَّ وقتٌ طويلٌ وهو يُعاني تأنيبَ الضميرِ، بينما كان جالساً على إليته رافعاً ركبتيه كَكُنغرٍ يراقبُ أعداءَهُ، ويداه ما زالتا تقبضان بقوةٍ بسكة الحديد، كان وقتاً عصيباً، كان يُخَيَّلُ إليه بينما -هو مُجهشٌ بالبكاءِ- أنَّ ابنَهُ هربَ من قسوتِهِ عليهِ وإهمالِهِ لهُ، وقد صارحَ نفسَهُ بحقيقة تفريغِ الضغطِ الذي كان يواجهُهُ من ربِّ العملِ في ابنِهِ المسكينِ الذي كان يعاملُهُ كعبدٍ أو حيوانٍ، لا يأبَهُ له إلَّا عندما يأخذُ منهُ ما حصلَ عليه من بنساتٍ، لِقاءَ شقاءِ ساعاتٍ، كان يقسو عليه في الكلامِ البذيءِ والنعتِ الذليلِ، وعندما تذكَّرَ خنوعَ ابنِهِ لهُ دونَ أنْ يُجيبَ عليه أو النظرِ في عينيه يتمزقُ ألماً وحزناً، وهو ذليلٌ يقبعُ في زاويةِ البيتِ حتى يغلبَهُ النعاسُ.
تذكَّرَ ساعاتِ الصباح الباكرِ في الشتاء القاسي حين كان يركَلُهُ بقدمه لينهضَ للعملِ وينهرُه بشدةٍ وينعتُه بالأبلهِ، تذكَّرَ عندما كان يَنْسَلُّ من الفراشِ ويذهبُ دون إفطارٍ إلى مصيرهِ المُتعبِ كأنَّه يريدُ الخلاصَ منه فيزداد في النحيبِ ويزداد الألمُ في صدرِه.
يُلملمُ والدُ جو نفسه ويجرُّ جسمَهُ المُنهَكَ عائداً إلى بيته كئيباً حزيناً وقد غابتْ عيناه تحت هولِ الدموع الحارقة كمريضٍ محمومٍ، عندما رأتْهُ زوجتُهُ بتلك الحالةِ التي تُضمرُ الشقاءَ والألمَ بَدَا عليها أنَّها أكثرُ شقاءً منه؛ لقد عادَ وحيداً دونَ ابنِه، فكَّرَتْ الزوجةُ:
لو أنَّها استسلمتْ لليأسِ لما استطاعتْ أنْ تتغلبَ على قسوةِ الحياةِ، كانتْ تنتحبُ ببطءٍ بجانبِ زوجِها، تشجَّعتْ قليلاً اقتربتْ منه وضعتْ راحةَ يدِها على رأسهِ تمسحُهُ بِرِفْقٍ وقالتْ له:
لا تُفَكِّرْ كثيرًا بجو لا يُمكنُ أنْ يُصيبَه مَكروهٌ، أنا أعرفُ ذلكَ إنَّه ولدٌ طيِّبٌ وشجاعٌ وسوفَ يتدبَّرُ أمرَهُ.
قالَ والد جو بصوت مخنوقٍ:
لقدْ قسوْنَا عليه كثيراً؛ لم نُشعرْهُ يوماً بأنَّهُ ابنَنَا، لم نُعطِهِ حقَّهُ من الحنانِ والحُبِّ، لقد كُنَّا السببَ في هَرَبِهِ، كانتْ جوليت على حقٍّ، لم نسمعْ لها ولم نأخذْ بنصيحتِها، كانتْ تشعرُ به أكثرَ منَّا وكأنَّها تعلمُ مصيرَهُ، يا للمسكينِ! كيف سيتدبَّرُ أمرَهُ في هذا الطقْسِ البارد؟ أينَ سينامُ؟
ماذا سيأكلُ؟
كيف سيعيشُ؟
لن أغفرَ لنفسي ذلك ما حييتُ... أبداً....أبداً.
القطارُ يسيرُ مُسرِعًا، صوتُ سكةِ الحديدِ تَئِنُّ تحتَ وطأةِ عجلاتِ القطارِ الحديديَّةِ، وهي تسيرُ بينَ التلالِ والسهولِ والركابِ في هرَجٍ وضحكٍ وفرَحٍ ومرَحٍ، سيطرتْ أصواتُهم على المكانِ كلِّهِ، بينما يجلسُ جو على كرسيِّهِ كئيباً كعادتِهِ يفكِّرُ في اللحظاتِ القادمة، أخذ يلومُ نفسَه على تركِ منزلِهِ وعائلته بتلك الطريقةِ، أيقنَ أنَّه تسرَّعَ في التصرُّفِ لكنْ لا مجالَ للعودةِ بعدَ الآنَ، كان في دُوَّامَةٍ كبيرةٍ كأنَّه لم يكنْ موجوداً مع الآخرين في العَرَبَةِ وإن كان جسدُه مُلْقًى في العربة كحقيبة ملابس.
مدينة جيرسي 1985
بعد ساعاتٍ فقط من نشرِ صورِ المُتَّهمِ وصلَتْ برقيَّةٌ من أحدِ مشافي الأمراضِ العقليَّةِ في بلدةِ (ترنتون) التي تبعدُ مسافةَ ألفِ كيلو مترٍعن البلدةِ، تُؤكِّدُ أنَّ هذا الرجلَ أحدُ نزلاءِ المَشفى، وأنَّ فريقاً برئاسةِ الطبيبِ المُشرفِ على المريضِ وبرفقةِ والديهِ سيحضُرونَ لاستلامِهِ ومعهم كتابٌ خَطِّيٌّ من المَشفى.
شعرَ النقيبُ جاك أنَّهُ أصابَ الهدفَ، وأنَّ تخمينَهُ كان صائباً، فكَّرَ النقيبُ بإصدارِ أمرٍ بالقبضِ على كلِّ أصحابِ السوابقِ للتحقيقِ معهم بخصوص الجثة، لكنَّهُ تراجعَ أخيراً، عندما فكَّرَ ثانيةً في البرقيَّةِ التي وردتْ من المَشفى:
"هذا غير مَنطقيٍّ أبداً، لا يُمكنُ أنْ أصدِّقَهُ" تمتمَ النقيبُ جاك، ثم صمتَ قليلاً بينما توجه الشرطيان بكلِّ حواسِّهما نحوَ النقيبِ وتابع قائلاً:
هلْ يُعقلُ يا سادةُ أنَّ رجلاً مَجنوناً يقطعُ هذه المسافةَ الطويلةَ من مدينة (ترنتون) إلى هنا.... شخصٌ مجنونٌ فاقدُ العقلِ لا يملكُ مالاً ولا هويَّةً؟
قال شرطيٌّ: سيصلُ غداً مُوظَّفُ المَشفى مع والديه وسنتحقَّقُ من الأمر، لا أظنُّ أنَّ والديه لا يعرفانِه، بالرغم من كلِّ الشكوكِ إلا أنَّ المُحقِّقَ ورجالَهُ وجدوا في هذه البرقيةِ نهايةً لمعاناةٍ استمرَّتْ أيَّاماً في التحقيق مع الرجل بلا فائدة، كان الرجلُ يتكلَّمُ بثقةٍ وشخصيَّةٍ قويَّةٍ حتَّى أنَّهُ لم يشكّ أحدٌ فيه أنَّه مجنونٌ.
تعافى المتهمُ قليلاً وأُعيدَ إلى غُرفةِ الحجزِ في مَقَرِّ الشرطةِ، أرادَ النقيبُ اختبارَ المُتَّهَمِ ليرَى ردَّةَ فِعْلِهِ بخصوصِ البرقيَّةِ التي وصلتْ من المَشفى، ومن خلف القضبانِ تحدَّثَ إليه المُحَقِّقُ:
لكَ مُفاجأةٌ سارَّةٌ أيُّها الرجلُ.
قال الرجل: هل وجدْتُم زوجتي وعائلتي؟
قال المُحقِّقُ: نعم، وجدْنا أمَّك وأباك، وسيحضرون قريباً لرؤيتك.
قال الرجل ضاحكاً: أمي وأبي!
واستمرَّ بالضحك.
قال المُحقِّقُ: لماذا تضحك؟
يبدو أنَّك تضحكُ من الفرحة، أليسَ كذلك؟
قال الرجلُ غاضباً: أتسخرُ مني سيدي؟
قال المُحقِّقُ: لا إنَّها الحقيقةُ، اتصلوا بنا وأكَّدُوا أنَّهم سيحضرون قريباً.
قال الرجل: لكن أبي وأمي ماتا قبل سنينَ طويلةٍ سيدي.
ذُهِلَ المُحقِّقُ من جواب الرجلِ، ووقفَ واجِماً للحظةٍ، واستغرب من ردَّةِ فِعْلِ المُتَّهَمِ الواثقِ من نفسه وهو يتكلَّمُ بجدٍّ فغضبَ ثم ترَكَهُ وغادرَ المكانَ إلى مكتبهِ.
اتَّصلَ المُحقِّقُ بالصحفيَّةِ، وطلبَ منها عدَمَ نشرَ أيَّةَ معلوماتٍ عن المتَّهمِ حتى يتحقَّقَ من الأمرِ، وأطلَعَها على فحْوَى برقيَّةِ المَشفى، وطلبَ منها حضورَ الجلسةِ.
عندما وصلَ الطبيبُ ووالدا الرجلِ إلى مركزِ الشرطَةِ واجتمعوا مع المُحقِّقِ ورجالِهِ بوجودِ الصحفيَّةِ، قال الطبيبُ للمُحقِّقِ: كان من المفروضِ أن تتصلوا بنا فورَ إلقاءِ القبضِ عليه، خاصَّةً وأنَّ سامَ يحملُ في عنقهِ سِلسالاً به كلُّ المعلوماتِ اللازمةِ عنه.
قال المُحقِّقُ: لم نجدْ معه شيئاً يثبتُ شخصيَّتَهُ، ويبدو أنَّهُ لا يعرفُ شيئاً؛ لذلك قمْنا بتعميمِ صورته في وسائل الإعلام، ولم نقرأْ أو نسمعْ أنَّ هناك مَريضاً مَفقوداً.
أحضرَ الشرطيُّ الرجلَ إلى غرفةِ التحقيق.
كانتْ الأمُّ قلقةً وفي شوقٍ شديدٍ لرؤيةِ ابنها وكان والدُه لا يقلُّ عنها فرحةً وسعادةً، كان الجميعُ يتوقَّعُ أن يقابلَ الرجلُ والدَيه بحرارةٍ، بعد غيابِ أيَّامٍ عنهم.
الجميعُ في لهفةٍ وشوقٍ لما سيحدُثُ عندما يدخلُ الرجلُ لمُقابلةِ والديهِ والحضورِ، وكان المحقِّقُ في حيرةٍ كبيرةٍ، ويترقَّبُ تلكَ اللحظةَ باهتمامٍ بالغٍ.
كانت سوزي تتوقَّعُ مفاجأةً كبيرةً خاصَّةً عندما قال الطبيبُ أنَّ اسمَ الرجلِ سام، والرجلُ يقولُ أنَّ اسمَهُ جو، وأنَّ أمَّه وأباه ماتا منذُ زمنٍ بعيدٍ.
قال المُحقِّقُ: أرجو من الجميع عدمَ التَّكَلُّمِ مع الرجلِ أو التحركِ عندما يدخلُ القاعةَ؛ لنرى إن كانَ يتعرَّفُ عليكم أم لا.
دخل الرجلُ برفقةِ الشرطيِّ ووقفَ جانباً كالعادةِ ظاناًّ أنَّه سيتعرَّضُ للتحقيقِ ككلِّ مرَّةٍ، لكنَّ الرجل التفتَ نحوَ الموجودين وتفحَّصهم ولم يحرِّكْ ساكنًا، فيما كانتْ الأمُّ، تحاولُ القيامَ إليهِ وضمِّهِ إلى صدرِها بعد هذا الغيابِ لولا أوامرُ المُحقِّقِ.
كانتْ مفاجأةً كبيرةً وصدمةً لوالديه ولطبيبِ المَشفى مِمَّا أدخلَ الشكَّ ثانيةً إلى عقلِ المُحقِّقِ ورجالِهِ.
قال المُحقِّقُ: أَلَا تتعرَّفُ على ضيوفِنا؟
انظرْ إليهم أَلَمْ تعرفْ أحداً منهم؟ ألم تقابلْهم من قبلُ؟
قال الرجل: لا أعتقدُ سيدي.
رمقَ النقيبُ الأمَّ بنظرةٍ فيها إيحاءٌ لها، أنْ تتقدَّمَ نحوَ المُتَّهمِ- ابنِها كما تَدَّعي- وكما هو واضحٌ من لهفتِها عليهِ وحُزنِها الشديدِ لما آلتْ إليهِ حالُهُ، كأنَّها تجلسُ على الجمر في انتظارِ السماحِ لها بأخْذِه في أحضانها ومعانقَتِهِ، وقفتْ الأمُّ وعلى شفتيها ابتسامةٌ رقيقةٌ حنونةٌ وهي مُجهشةٌ بالبكاء الصامتِ دون أن تنبسَ ببنتِ شفةٍ، تقدَّمتْ نحو الشابِّ بحذَرٍ، في حين اتَّجهتْ كلُّ الأنظارِ نحوَهما في انتباهٍ يشوبُه القلقُ، بدَا على المُتهمِ العُبوسُ والتجهُّمُ وضاقتْ عيناهُ وبدَتْ نواجِذُهُ مُحملقاً في السيدةِ، وقالَ لهَا بعدَ أنْ اقتربتْ منه كثيراً: ماذا تريدين مني سيدتي؟
أرجوكِ ابتعدي عني، لو علمتْ زوجتي بذلك، لغضبتْ منكِ أشدَّ الغضبِ.
قال المُحقِّقُ: إنَّها والدتُك يا رجلُ! أَلَا تعرفُها؟ وهذا والدُك، انظر كم هو سعيد لرؤيتك! كان الوالد واقفاً مُتحمِّساً للقائه.
قال الطبيبُ: ماذا أصابَك يا سامُ؟
هل نسيتَ أمَّك وأباك؟
كنتَ تحتضِنُهم كلمَّا جاءوا لزيارتِك في المَشفى، جئْنا لنُعيدَك لإكمالِ العلاجِ.
قال الرجلُ: سام! عمَّن تتحدَّثُ؟
لا بدَّ أنَّك تعني رجلاً آخرَ، أنا اسمي جو، جو مارتن ويلسون، وأنا لا أعرفُكم، ولم أرَ أحداً منكم من قبلُ.
ثم التفتَ نحوَ المُحقِّقِ وقالَ:
أرجوكَ سيدي لا تصدِّقْهم، والديَّ ماتا قبل سنينَ طويلةٍ كما أخبرتُك، وأنا أعيشُ مع زوجتي وأولادي منذُ زمنٍ طويل، فابنتي تبلغ أربعةَ عشرَ عاماً، ولا أدري من أينَ جاءَ هؤلاءِ الرجالُ؟
قال الطبيب بعد أن قام من مكانه ووقف أمام الرجل:
سيد سام، يبدو أنَّك متعبٌ لعدم تناولك الدواء اللازم في موعده، ما جعلك تنسى حتى والديك.
تقدم الأبُ وتقدمت الأمُّ نحو الرجل والمحقق والجميع يتابعون ما سيحدث، مد الأبُ يده نحو الرجل مصافحًا إياه، تراجع الرجل قليلاً ولم يتكلم، كانت الأمُّ أكثرَ جرأةٍ من الأب وأكثر شوقاً وحناناً له، لكنَّها كانت خائفة ترتجف، نظرت إليه بحب وحنان، تأملته جيداً، حدَّقت فيه وفي عينيه.... صرختْ الأمُّ بصوتٍ مرتفع وهي تتراجعُ إلى الوراء وتردِّدُ: مستحيلٌ، مستحيلٌ، ورمتْ بنفسها بأحضان زوجها، ما زالتْ تبكي وسط استغراب الجميع حتى زوجها، نهض الجميعُ فزعين دون أن يعلموا سببَ بُكائها.
ما زالت الأم تردد: مستحيل، مستحيل.
قال الزوج: ما هو المستحيل عزيزتي؟
قالت الأم: عيناه انظر إليهما، إنَّهما مُخيفتان تلمعُ كالجمر، كعيون الحيوانات في الليل.
أجلسَ الزوج زوجته تقدَّمَ نحو الرجلِ يُرافقه الطبيبُ، ونظر في عيني الرجل بإمعان ثم قال: حقًّا إنَّهما مُخيفتان.
نظر إلى الطبيبِ ثم أمسكَ بربطة عنقه وقال بغضبٍ:
ماذا فعلتم بابني؟
ماذا فعلتم به يا دكتورُ؟
ماذا؟
وأخذ يبكي أيضًا.
قال الطبيب: لم نفعلْ به شيئًا، أقسمُ على ذلك.
قالت الأم بصوتٍ مرتفعٍ: إنَّه سام، إنَّه ابني، لكن عيناه...
وأخذتْ تبكي وتتأمَّلُ ابنَها.
وقالتْ: عيناه ليستْ عيونَ بشرٍ أبدًا، هذا مستحيلٌ.
أكَّدَ الطبيبُ أنَّه سام، لكنَّه يتقمَّصُ شخصيةَ رجلٍ آخرَ؛ لأنَّه مصابٌ بفقدان الذاكرةِ وانفصامِ الشخصيةِ.
كان المحققُ متردداً في اتخاذ أي قرار بعدما سمع أقوالاً متناقضةً حتَّى من الذين يدَّعون أنَّه ابنُهم، والطبيبِ المشرفِ على علاجه، خاصةً وأنَّ الرجلَ أنكرَ معرفتَه لأيٍّ منهم.
بعد انتهاء الجلسةِ الأولى بين النقيب جاك والمتهم، مع مَن وصلوا من المشفى من مدينةِ بايون ومع كلِّ التأكيدات التي طرحوها أنَّ الشاب- المتهم- هو ابنُهم الذي يُعالَج في مشفى الأمراض العقليةِ والذي تمكَّن من الهربِ، أُعيدَ المتهمُ إلى غرفةِ الحجز؛ ليقبعَ وحيداً من جديدٍ بانتظار تحقيقٍ آخر، لكنَّه كان سعيداً؛ لأنَّه تخلَّص من هؤلاء الذين جاؤوا ليأخذوه بعيداً عن بلدته، حملقَ المتهمُ في السقف والنافذةِ ذات القضبان الحديديةِ السميكة، ونظر إلى السماء وذهب بعيداً يستذكر محطاتٍ من حياته السالفة.
يتبع
توقيع رياض محمد سليم حلايقه
 http://"]http://[/URL]
رياض محمد سليم حلايقه غير متصل   رد مع اقتباس