عرض مشاركة واحدة
قديم 17 / 03 / 2020, 23 : 05 PM   رقم المشاركة : [1]
رشيد الميموني
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب


 الصورة الرمزية رشيد الميموني
 





رشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

فريخيليانا (Frigiliana)

الجزء الأول
======
Frigiliana

فريخيليانا تظل تعبق بأريج الرمان والبرتقال منذ الأزل ، وربما إلى الأبد . تحتضن قرميدها المستسلم لسفوح جبال أندالوسيا. تهيم بساحل الشمس ، لكنها تعشق السكون وتألف الروابي وكأنها تجزع لفراق غرناطة القريبة منها شمالا . تستيقظ على دفء أشعة يوليوز وتتثاءب ملقية نظرة رضى على " خوان" المزارع العجوز وهو ينطلق نحو حقول كرومه ليتفقدها في حنو . و"خوصي"النادل الشاب وهو يصفف كراسي وطاولات المقهى- الحان. و"أنا" وهي تحث خطاها نحو دكانها الزاخر باصائص وصحون ومزهريات تقليدية... وآخرين هبوا مع أول ضوء النهار إلى " نيرخا" و " موتريل " و " ألمونييكار". هاهو " مانولو" السائق الطيب وهو يصعد بحافلته الأنيقة عبر الطريق الضيق نحو " فريخيليانا ". يلقي التحية على الجميع . أشير إليه و أنا أتمشى منحدرا عبر الحقول ، منتظرا عودته إلى الساحل فيحني رأسه. أتخيل نفسي منطلقا من الشاون إلى الوادي الكبير. ما أكثر تشابه المكانين و، أيضا ، ما أكثراختلافهما ... بعد دقائق ، يلحق بي مانولو فأركب.
Buenos dias… Le gusta Frigiliana ?-
- Buenos dias .. Pues .. si
كيف لا وأنا أشعر كأني في حلم ؟... حين أنشد الوحدة ، أحس بنفسي منقطعا عن العالم وكأن سكان القرية وزوارها قد انشقت الأرض وابتلعتهم . وحين أروم الحديث والمناقشة ، أجدني محاطا بثلة من الشباب والغيد . هم أيضا يعشقون الحديث ويتلهفون لمعرفة كل شيء عن الضفة الأخرى... حتى تلك المرأة الشقراء التي تصحبهم دون أن تنبس ببنت شفة ، ترمقني في فضول وتبتسم في اقتضاب حين يقهقه الآخرون ، ثم تهز رأسها وهم يترنمون بأغنية مانولو ايسكوبار " Que viva Espana"
ملامحها غير إسبانية . ربما كانت فرنسية . طريقة حديثها وشكل شفتيها يشيان بذلك . وحين أمتطي الحافلة أجدني صدفة بجانبها . أحييها بالإسبانية فترد التحية باقتضاب . تخميني في محله. ليست من إسبانيا . ترى، ما جنسيتها ؟ وما سبب هذا الانقباض البادي على قسمات وجهها المحتفظ بحسنه رغم التجاعيد التي بدأت تغزو جبهتها وجفنيها ؟... أعرض عن التفكير في كل هذا وأنشغل بالنظر إلى الروابي المنحدرة إلى البحر، لكني أحس بها تتجنب الالتصاق بي كلما مالت الحافلة عند أحد المنعرجات . فيم تفكر ؟... أبتسم وأخرج كتابا لأندري مالرو، وأبدأ في قراءته للمرة الخامسة . معاناة " تشن" تثيرني وعالم الصين الغامض يجتاحني. أشعر بها تلتفت نحوي بحذر. هل أدهشها أني أقرأ، بينما أنا في نظرها من أمة لا تقرأ ؟ ... و أنزل في أولى محطات نيرخا قبل أن تغوص الحافلة في متاهات شوارعها المكتظة بشتى الأجناس . أشتم رائحة البحر والسمك و أقصد مقهى أوصتني "أنا" بارتيادها . أتناول فطوري بشهية ثم أستلقي على الكرسي مغمض العينين . الشمسية الزرقاء تحجب عني أشعة شمس يوليوز الحارقة . أفكر في لا شيء . هل هي الراحة المطلقة ؟ بجانبي إسبانيان يتحدثان عن غزو العراق . أفكارهما متباينة .
- كان يجب فعل هذا منذ أمد بعيد... هذا أقل ما يستحقه هؤلاء البدو.
- لا تنس أن الأطماع هي وراء الغزو، أما تحرير الشعب والديموقراطية... هل تعلم أن الأمريكيين والانكليز هم الرابحون أولا وأخيرا ؟
- أنت مخطئ... علينا محالفتهم مهما كان هدفهم .
- هل اقتفاء أثرهم في كل نزواتهم كالكلاب ، تسميه تحالفا؟
و أنا في مكاني ، أنفعل وأمتعض وأثور وأهدأ مع كل كلمة تقال . تجتاحني رغبة في مشاركتهما الحديث وإبداء وجهة نظري ، لكني أتمالك نفسي . فهما غريبان عني وقد يرتابان مني . على أية حال ، لدي فرصة للتعبير عن رأيي مع أسرة "أنا"
هكذا نحن- قال لي يوما أحد زملائي في العمل – لا حول لنا ولا قوة . مصيرنا بيد الآخرين . حتى تحليل الأوضاع نترقبه منهم لنكرره كالببغاوات ، مستشهدين بالقنوات التلفزية الإسبانية والفرنسية والانكليزية .
زميلي هذا لا يطيق مشاهدة سوى القنوات الإسبانية ، ويتحسر على فترة حكم فيليبي كونثاليث رغم انتقاده لجر بلده إلى الحلف الأطلسي . يكره الأمريكيين ، لكنه يعشق الشوينكوم والجين وأفلام الكاوبوي وشرب الكوكاكولا . وأكثر ما يمقته أغاني أم كلثوم وليالي "الطلبة"...أضحك بالرغم مني . الراحة المطلقة تتلاشى ويشملني قلق مفاجئ وانقباض . وأسائل نفسي: هل ينطبق علي القول" أنا ، وبعدي الطوفان ؟ وهل ينتفي الإحساس بما يجري حولي ؟ ..." إذن أنا كالآخرين . لا تهزهم ما تتناقله شاشات التلفزة من فظاعات تقوم لها الدنيا ولا تقعد في السند والهند وما وراء بحر الظلمات ونهري سيحون وجيحون ، بينما أنا هنا أسلو بالكرة وتخطيطات الفيفا كما يسلو آخرون بمهرجانات الطرب والغناء . ولأن مادة التاريخ كانت دائما العائق الوحيد في سبيل حصولنا ، أنا وزملائي في المدرسة ، على أعلى الرتب ، فلا يهمني –مثلهم – أنه في زمن مضى ، كانت صرخة عمورية كافية لأن ترتج الأركان وينهد البنيان . لكن معتصما واحدا لا يتكرر ، وعمورية اليوم صارت عموريات. ليس من المحيط إلى الخليج فقط ، بل من المحيط إلى المحيط . لا زلت أذكر أن مدرسنا كان لا يمل من ترديد جملته المفضلة التي كان يختم بها حصته :" لا تنسوا أن التاريخ هو العدو اللدود لكل من ينسى أو يتناسى."
أديت الحساب وفكرت فيما سأفعله قبل العودة إلى فريخيليانا . في الحقيقة ، كنت متعبا رغم عدم قيامي بأي مجهود جسدي . راقني جو نيرخا خاصة حين أقبل الظلام وتوهجت المدينة بالأنوار. أفقت من غفوتي لأ جد نفسي في نفس المكان بالمقهى الذي لم أغادره إلا لتناول الغذاء . لم أشعر برغبة في السباحة ، واكتفيت بالنظر إلى البحر من ساحة المقهى . أقرأ الجرائد وأستمع إلى الموسيقى . لكني أدركت فيما بعد أن جو فريخيليانا الهادئ لا يعوض . حقا ، هناك أيضا سواح ومقاهي وعلبة ليلية ، لكنها تظل هادئة خاصة عند الجانب الآخر المحاذي لسفح الجبل . شعرت فجأة بالحنين إلى الهضبة المطلة على القرية فانصرفت .
الساعة تشير إلى التاسعة ، والمدينة تفور حيوية . نسيم البحر لا يزال مشبعا بلهيب النهار. أقف عند قارعة الطريق منتظرا أحدا ينقلني إلى أعلى . تتوقف سيارة ، ويطل وجه مألوف لدي. إنه خوصي يشير إلي :
- هيا اركب... قضي علي الليلة أن ألم شمل زوار فريخيليانا ... لكن لا بأس . وجودكم بيننا يسرنا . نحن أحفاد العرب ، مثلكم نحب الضيوف.
لم أدر ما يعنيه بزوار فريخيليانا إلى أن ركبت السيارة . كانت تجلس بجانبه السائحة الشقراء.
- أظنكما تعرفتما على بعضكما البعض ، أليس كذلك يافرانسواز؟
فرنسية ولا شك . ساد الصمت ولم يرد أحد.
- ماذا ؟ ألم تتعرفي على ضيف "أنا"؟
استدارت لتحييني بابتسامة فأجبت بالمثل .
- عفوا... لم تسعفني الظروف لمعرفتك.
قدمت لها نفسي ففعلت نفس الشيء... سائحة من " نيم". بلد "ألفونس ضوضي". تهت لحظة مع أحداث "الشيء الصغير" ، ثم انتبهت إلى السيارة وهي تتوقف لتنزل فرانسواز ممسكة بحقيبة تجرها جرا.
Au revoir . -
Au revoir. -
نزلت بدوري بعد لحظات تطرق فيها خوصي إلى مواضيع شتى في الرياضة والسياسة ومشاكل منطقنه. خوصي متحمس لرؤية أندالوسيا مزدهرة ويأسف لتولي الحزب الشعبي الحكم في إسبانيا.
أزقة فريخيليانا هادئة وتغريني بالتجوال فيها وعدم الدخول إلى منزل الأصدقاء باكرا... سأجد حتما خوان العجوز محاطا بأحفاده وعلامات الرضى تعلو محياه ، بينما تعد الأم حساء بمساعدة "أنا" العائدة توا من دكانها التقليدي ، والآخرون أمام التلفاز... ينتظرني الجد ليعيد على مسامعي حكاياته حين كان جنديا بالناظور ثم مليلية ، ويضحك كثيرا متذكرا يوم اقتحامه الحدود منحدرا بدراجته وهو يصيح :" الدراجة... ليست للدراجة فرامل..."
أتوغل قليلا في الأزقة المواجهة للجبل وألمح شبحا يجر شيئا على الرصيف . إنها فرانسواز التي طاب لها التأخر ولاشك خارج البيت . تلمحني وألحظ ترددها ، لكني أتقدم : - هل يمكنني مساعدتك ؟
- شكرا ... لا داعي لإ زعاجك .
- دعي لي الحقيبة... أرى أنها ثقيلة جدا.
لم تمانع . سرنا بضع خطوات قبل أن نتوقف أمام منزل صغير في غاية الجمال . فتحت الباب فلاحت لي السلالم . ترددت بدوري قبل أن أقول بحزم :
- دعيني أحملها إلى أعلى .
تركت الحقيبة إزاء باب المطبخ وعدت أدراجي لألتقي المرأة في منتصف السلالم .
- ليلة سعيدة .
- أوه ... شكرا ... أنا جد...
- لا تقولي شيئا ، فأنت لم تطلبي مني ذلك...
كانت فيما يبدو تغالب دهشتها . أدركت أنها مشتتة الأفكار. ربما لم تكن تتوقع ماحدث .
- على الأقل... اشرب شيئا .
- مرة أخرى... شكرا وليلة سعيدة... أهنئك على هذا المسكن الرائع .
سرها هذا الثناء ، ووجدت نفسها مرغمة على الالتزام بما نسميه عندنا " الصواب" فقالت :
- يمكنك العودة لزيارته...
- سوف أفعل ذلك بكل سرور... طابت ليلتك .
فريخيليانا تشدني إليها وتمنعني من مغادرتها . لكن أوان العودة إلى الوطن قد حان . غدا سوف أعود عبر ساحل الشمس لتقابلني هضابها وتماثيل الثيران المنتصبة عليها في إباء . سيبقى شيء يثير فضولي . لماذا كل هذا الحزن المطل من عيني فرانسواز وما سر انعزالها عن الخلق هنا في فريخيليانا ؟
- لقد وجدت فيها الهدوء و الأمان المناسبين لامرأة مثلي.
تركتها تتحدث بعد أن ألقيت سؤالي . لقد زرتها في آخر ليلة لي بالقرية كما وعدتها من قبل . حدثتني عن حياتها وعملها كعارضة للأزياء . لم أقل لها إني أمقت هذه المهنة ، لكنها تابعت كمن يقرأ أفكاري :
- كم كنت أعشق هذا العمل ، وكم أكرهه الآن ... هل تشرب ؟
- كلا... إذا كان عصير فواكه ، فنعم .
في تصرفي هذا نقيض ما كان يوصيني به زميلي وهو يودعني في ميناء سبتة . قال لي بحماس :
- احذر أن ترد دعوة امرأة ، سواء للشراب أو المضاجعة ، فهذا تخلف . حاول أن تتخفى وأنت تصلي ، لأني أعرف عنادك ، بل... اسمع لم لا تجمع ما عليك من صلاة هناك لتأديتها إلى حين عودتك ؟

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
رشيد الميموني غير متصل   رد مع اقتباس