رد: رفقة الأمس
ثانيا: ثنائيات:
1 ـ نمطا السرد والوصف: استحوذ الوصف على مساحة لا بأس بها من النّص ، فكان السِّمة الغالبة تقريبا .. إذ لا يمكن الفصل بين النّمطين في أيّ عمل قصصي ، الأمر الذي جعل صاحبة (رفقة الأمس) توزّعه على مساحة كبيرة من إبداعها ، حيث جاء خادما ، وبشكل مدهش، للنّص..تفنّنت (عروبة) ، وهذا مجالها دون شك، في اصطحابنا رفقتها أينما ذهبت ، وحيثما اتجهت ، ، ، أشركتنا في رحلتها عبر طبيعة ساحرة ، حيث شعرنا بالراحة والاستمتاع إلى الحد الذي كانت تعيشه..فكان الوصف شفيفا دقيقا عذبا ! وتمثّل ذلك في اللوحات التي قدّمتها من خلال نصّها الأنيق..والأمثلة كثيرة وغنية ومتنوّعة..خذ مثلا قولها في الفصل الأول: (عاد ليطارحني الأمل، فتحت باب المنزل وعطر رجولته الذي راح ينسكب من البطاقة يتسلل من بين أصابعي مالئاً أرجاء الصالة..) ..ومن الفصل الثاني الفقرة الأولى: (وتبدأ شمس الصباح بالتسلل من خلف زجاج النوافذ باعثة الأمل في البشرية، تدعوهم للاستيقاظ ومعانقة الطبيعة في الحياة مايستحق العمل والجد والنشاط..)..ومن الفصل الثالث : (وتغيب وسط زحمة الشوارع، بعيداً وراء السحب المسافرة كما وسائد قطنية توحي بالمطر في فصول فوضوية الترتيب، تروي عطش الأرض، إن عاد سيكون كل شيء على مايرام، وإن بالغ في صده فهو في غياهب"الأرض المفقودة" التي يفتش عنها وأبداً لن يتحول السراب إلى واقع يتمناه! )..وفي الفصل الرابع: (كانت الطيور تستعد لهجر أوكارها، تشد انتباه نزلاء الفندق وكانت الشمس باهتة ترسل بعض من أشعتها بتوهج فاتر للغاية، سحبٌ داكٍنة، زخات متفرقة من المطر..)..وفي الفصل الخامس: (كانت أجواء خريفية بامتياز، تمتزج الموسيقى بحفيف أوراق الشجر، كلما اهتزت أغصان الأشجار تطايرت أوراقها يمنة ويسرةً، فوق صفحة الماء لتضفي المزيد من السحر والبانورامية على المكان..)..وفي الفصل السادس: (كم هو غجري ليل أيلول، التنزه فيه يثير المشاعر بفوضوية، يلقي بنسائمه الحيرة والدهشة، تتوسد أوراقه الصفراء صفحات الماء الرقيقة، فوق البحيرات والأنهار، تنجلي الأتربة عن الأسطح القرميدية، تغسلها زخات ماطرة تهيئها لغيم تشرين السارح الذي يرطب الخواطر الحزينة، يغسلها ينقي الوجدان من الحقد، والنفوس من الدنس، والصدور من الوسواس الخناس.)..وفي الفصل الأخير : (كان طريق العودة رطباً، تغسل قطرات المطر زجاج سيارتي الأمامي بكل انسيابية، وفوقي السماء رمادية داكنة، غيمة ماطرة وأخرى سابحة..) ..فالأوصاف التي أوردتها كانت غاية في الرّقة وبشاعرية بليغة ! الأمر الذي أضفى على السياقات والأنساق لمسات فنية ساحرة !
أما السرد فجاء بحسب حاجة الأحداث..رغم بساطة لغته ، كان قويا..فتتابع الأفعال الماضية خاصة (والماضي هنا له أثره البيّن) لأنّ ظروف الحكي تقتضي ذلك..فالأفعال (كان ، كنت ، جلست ، تناولت ، نظرت ، صعدت...) جاءت لتحفر الأحداث حفرا..فالذاكرة (عند عروبة) لها خصوصية وحساسية..جسد النّص ملتصق أكثر بالماضي..تعيش الكاتبة وللحظات حاضرها ولكنه يتكئ وبقوة على الماضي..تريد السفر إلى الآتي ولكنها سرعان ما تزجّ بنا في عمق الماضي !! وسأكتفي في هذا الباب بذكر أمثلة على عجالة ، حتى لا أُرهق القارئ (ابتسامة)..تقول: (كم كانت حقائبنا المدرسية تشبه تلك الحقيبة التي كان يحملها بيده ذاك الشخص طويل القامة، الذي دخل المبنى من لحظات قليلة، كانت تلقى كل إعجاب واهتمام من تلامذة مدرستنا الابتدائية..)..( آه كم أشعر بأنني أمام رجل يبحث عن أمل يحيا به عن شيء ما، عن وميضٍ يمنحه بارقة أمل بغد أفضل لكنه لن يأتي! الحياة لن تعود إلى تلك المساحات التي اغتالتها عصاباتهم، والزمان محال أن ينسى حناجر الغدر، تسأل العودة وعودتهم هي الأولى، هي القِبلة الأولى، وهي الحكاية التي على الأجيال القادمة خط آخر سطور فيها..).
2 ـ الطبيعة والأمكنة (الخلفية والموسيقى التصويرية): شكّلت الطبيعة خلفية للنصّ بامنياز ! فكان وصفها كلّما تغيّرت الأمكنة هو هو..جميل أنيق ساحر..تتبدّل الأمكنة والطبيعة واحدة ! فكانت كموسيقى تصويرية ترافق الشخوص والأحداث..الطبيعة بمناظرها..الأماكن وعبق العطور..كلّ ذلك شكّل جوّا رائعا غمرنا برومانسية رقيقة ، جعلنا نلتهم القَصَّ التهاما ! دون شعور بالملل..ومثلما أشرتُ في التوطئة ، فالكاتبة تعتبر الطبيعة جزءا منها ، أو هي جزء من الطبيعة ! فافتنان الكاتبة بجمال الطبيعة غير خفي..فالإسهاب في وصفها دليل على ذلك ، ودليل قوي ! أنسنة أركان الطبيعة واضح جلي..فالوديان والدروب والجبال والنسيم وحفيف الأوراق..الكل يتفاعل مع البطلة، يشاركها أحاسيسها..شعورها بالراحة..أو شعورها بالانقباض! حتى (صديقة مانويل النحيفة) ألصقتها بشيء من الطبيعة..ألصقتها بالثلج..فراحت تدعوها بـــ (فتاة الثلج)..
يـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــتبع..
|