الدرس الخامس: التشبيه التمثيلي
إعداد: توفيق حموشاوي
تمهيد:
للتشبيه التمثيلي فائدة كبيرة في توضيح الكلام، وإبراز خبايا المعاني الكامنة وراءه؛ لهذا نجد أن هذا الأسلوب يكثر في فصيح الكلام منظومه ومنثوره؛ لما له من قدرة كبيرة على تحفيز الأذهان، وحثها على التفكر والتأمل وهنا تكمن جمالية هذا النوع من التشابيه.
أقوال العلماء في التشبيه التمثيلي:
يعد التشبيه التمثيلي قسما وفرعا من فروع التشبيه، فكما قيل كل تمثيل تشبيه، وليس كل تشبيه تمثيل، وقد اختلف البلاغيون في تعريف التشبيه التمثيلي، فهناك آراء ثلاثة حول تعريف التشبيه التمثيلي:
الرأي الأول: للعلامة الإمام عبد القاهر الجرجاني والذي يرى أن التشبيه التمثيلي محصور ومحدد في كل تشبيه كان وجه الشبه فيه عقليا غير غرزي سواء أكان مفردا ، أو مركبا حيث قال : "اعلم أن الشيئين إذا شبه أحدهما بالآخر كان ذلك على ضربين أحدهما أن يكون من جهة أمر بين لا يحتاج فيه إلى تأويل، والآخر أن يكون الشبه محصلا بضرب من التأول. إذ قد عرفت الفرق بين الضربين، فاعلم أن التشبيه عام والتمثيل أخص منه، فكل تمثيل تشبيه وليس كل تشبيه تمثيلا"
الرأي الثاني: هو رأي السكاكي أن التشبيه التمثيلي هو "ما كان وجه الشبه فيه مركبًا عقليًّا على هيئة انتزعت من أمور متعددة"
الرأي الثالث: هو رأي الخطيب القزويني، حيث يرى أن التشبيه التمثيلي هو "ما كان وجه الشبه فيه مركبًا سواء كان حسيًّا أو عقليًّا ، وهذا أعم من رأي السكاكي، وهو رأي جمهور البلاغيين الذي خص التشبيه التمثيلي بكون وجه الشبه فيه مركبا"
الرأي الرابع: يقول الطاهر بن عاشور: "للتشبيه التمثيلي الحظ الأوفى عند أهل البلاغة ووجهه أن من أهم أغراض البلغاء وأولها باب التشبيه ، وهو أقدم فنونها، ولا شك أن التمثيل أخص أنواع التشبيه؛ لأنه تشبيه هيئة بهيئة فهو أوقع في النفوس وأجلى للمعاني"
أمثلة الانطلاق:
يقول شاعر:
أنظر إليه كزورق من فضة قد أثقلته حمولة من عنبر
ويقول شاعر آخر:
كأن سواد الليل والفجر طالع بقية لطخ الكحل في الأعين الزرق
وقال أبو فراس الحمداني :
والماءُ يفصلُ بينَ زهـ رِ الروضِ ، في الشَّطَّينِ، فَصْلا
وقال المتنبي في سَيْفِ الدولة :
يَهُزُّ الجَيشُ حَوْلَكَ جانِبَيْهِ كمَا نَفَضَتْ جَناحَيْها العُقابُ
وقال الشاعر :
وَتَرَاهُ في ظُلَمِ الوَغَى، فتَخالُهُ قَمَرً يَكر عَلى الرّجالِ بكَوْكَبِ
قال تعالى:
[إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]
وقال سبحانه :
[وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا]
وقال عز وجل :
[اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ]
تحليل الأمثلة:
في المثال الأول شبه الشاعر الهلال في السماء الداكنة بزورق فن فضة محمل بالعنبر ووجه الشبه هنا وجود قوس فضي في محيط أزرق .
وإذا تأملت المثال الثاني . ألا تلاحظ كيف أن الشاعر جمع صورتين يبدو للوهلة الأولى أنهما متباينتان، ولكن حقيقتهما عكس ذلك فهما تجتمعان تحت وجه شبه واحد وهو:
هيئة وصورة وانقشاع سواد الليل حين رفع ستاره والفجرطالع كهيئة بقايا الكجل في عين امرأة زرقاء العينين ووجه الشبه هو اختلاط اللونين الأزرق والأسود.
وفي المثال الثالث : يشبِّهُ أَبو فِراس حال ماء الجدول، وهو يجري بين روضتين على شاطئيه حلَّاهما الزَّهْر ببدائع ألوانه مُنْبثًّا بين الخُضرة الناضرة، بحال سيفٍ لماعٍ لا يزال في بريقِ جدَّته، وقد جرّدَه القُيُونُ على بساطٍ من حريرٍ مُطَرَّزٍ. إذ يلاحظ أن الشاعر يريد أَنْ يشبّه صورةً رآها بصورة تخيلها، يريدُ أنْ يشبِّه حال الجدول وهو بين الرياض بحالِ السيف فوق البساط الموشَّى، فوجهُ الشبه هنا صورةٌ لا مفردٌ، وهذه الصورةُ مأخوذةٌ أَو مُنْتَزَعَةٌ من أَشياء عدَّة، والصورة المشتركةُ بين الطرفين هي وجود بياضٍ مستطيلٍ حوله اخضرار فيه أَلوان مختلفةٌ.
وفي المثال الرابع نجد أن المتنبي يشبه صورةَ جانبي الجيش: مَيْمَنَتِه ومَيْسَرَتِه، سيفُ الدولة بينهما، وما فيهِما من حركة واضطرابٍ.. بصورةِ عُقَابٍ تَنفُض جَناحَيْها وتحرِّكُهما، ووجهُ الشَّبه هنا ليس مفردًا ولكنه مُنْتَزَعٌ من متعددٍ وهو وجودُ جانيين لشيءٍ في حال حركةٍ وتمَوُّجٍ.
وفي المثال الخامس نلاحظ أن الشاعر يشبه صورةُ الممدوح وبيده سيفٌ لامع براق يشق ويفل به ظلامَ الغبار، بصورة قمر يشقُّ ويخترق ظلمةَ الفضاء وكوكب وضاء متصل به، ووجه الشبه هنا ظهور شيء مضيء يلوح بشيء متلألئ وهاج في وسط الظلام والعتمة.
وإذا تأملنا الآيات القرآنية الثلاثة لنجد أن:
المشبه في كل الآيات السابقة: حال الدنيا في إقبالها، ونضرتها وغرور الإنسان بها، وإسراع الزوال إليها.
والمشبه به: حال النبات وقد اختلط به الماء فنما وازدهر، وزين الأرض
حتى تعلق به أصحابه، وظنوا أنه أصبح بمأمن من الآفات، وبمنجى من
المهلكات، إذا هو يبس ويزول ويصبح كان لم يكن.
ووجه الشبه: الهيئة الحاصلة من أن كلاً منهمرا ينمو ويزهو حتى يكون في حالة تسر وتغر، ثم لا يلبث أن يزول.
ونلاحظ أن المشبه في الآية الأولى والثانية يمر مرورا سريعاً خاطفاً –الحياة الدنيا- وفي الآية الثالثة طال عرض المشبه –كما يراه الكفار- فهي لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر ، وتكاثر في الأموال والأولاد، وذلك ليؤدي غرضاً، ويؤكد هدفاً، وليبين للكفار: إن هذا الذي تستطيلون أمده في تصوركم إنما هو قصير زائل، وعرض حائل.
وحينما ننظر إلى وجه الشبه الذي يجمع بين الطرفين نجد فيه كثيراً من التفصيل الذي يحتاج إلى إمعان في الفكر وتدقيق في النظر.
ففي الآية الأولى مثلاً نجد أن المشبه به يحتوي على عشر جمل، وقد دخل بعضها في بعض حتى كأن الجمل العشرة جملة واحدة، ثم إن وجه الشبه فيها
منتزع من مجموع تلك الجمل من غير أن يمكن فصل بعضها عن بعض، حتى لو أننا لو أسقطنا منها جملة واحدة في أي موضع، أخل ذلك بالمراد من التشبيه، وكل تشبيه فيه وجه الشبه على تلك الهيئة يسمى « تشبيه تمثيل »
قاعدة التشبيه التمثيلي:
يُسمَّى التشبيهُ تمثيلاً إِذا كان وجهُ الشَّبه فيهِ صورةً مُنْتَزَعَةً منْ متعددٍ، وغيْرَ تَمْثِيل إِذَا لم يَكُنْ وجْهُ الشَّبَهِ كذلك.
تطبيقات :
انطلق من الأمثلة الآتية مبينا أن التشبيه الذي بصدده هو تشبيه تمثيلي مع ذكر أطراف التشبيه وأركانه؟
قال تعالى:
[وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ]
قال المتنبي في الرثاء :
وما الموْتُ إلاّ سارِقٌ دَقّ شَخْصُهُ يَصولُ بلا كَفٍّ ويَسعَى بلا رِجْلِ
ويقول شاعر:
والبدر في كبد السماء كدرهم ملقى على ديباجة زرقاء
لائحة المصادر والمراجع:
• القرآن الكريم؛
• الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد، أسرار البلاغة، تح: محمود شاكر، مطبعة المدني؛القاهرة،
• السكاكي يوسف بن أبي بكر بن محمد أبو يعقوب، مفتاح العلوم، تح: نعيم زرزور، 1407هـ-1989م، .
• القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة؛
• محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، 1997م.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|