الشراكسة (1)
العادات الشركسية والتقاليد
(الأَدِيغةْ خابزة)
مدخل:
تنتظم العادات والتّقاليد عند الشّراكسة ضمن قانون "الأَدِيغة خابزة". وإذا جمعنا التَّعريفات المتعددة لـ "الأَدِيغة خابزة"، حصلنا على مصطلحات متشابهة، فهي "دستور"[1]، وحكمها حكم "القانون"[2]، وهذا القانون عظيم ومقدس وأخلاقي[3]، وهي تمس جميع جوانب الحياة[4]، فتشمل "كل التَّنظيمات المتعلقة بالمجتمع الشّركسي"[5]، وبذلك "تتجاوز كونها مجرد عادات وتقاليد لتصبح القانون الأديغي، فهي ضوابط سلوكية وقانونية وأخلاقية يخضع لها الحاكم والمحكوم والمحكمة.
إنها تحدد السّلوك الضَّروري والجماعي وتؤطر الواقع القانوني والاجتماعي وتنظم العلاقات مع الآخرين ومع المجتمعات الأخرى مستندة على الخبرات المحصلة قوميًّا[6]. وهي - بالمعنى الواسع للكلمة - تعني: "تنظيم البلاد، وقيادة الشّعب وتنظيم الجيش وتداول المال والقوانين السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتحرص الأَدِيغة خابزة على عدم تعارض أنظمة الأمور مع بعضها البعض، بل تربط هذه القواعد وتنسق بينها وتؤثر عليها منطلقة كلها من مبدأ واحد ومتجهة إلى هدف واحد[7].
و"الأَدِيغة خابزة" اجتماعيًّا تنظم حياة الإنسان منذ اليوم الأول لولادته، وتضع ترتيبًا حتى لملابسه الأولى وطرائق تربيته وتعليمه وتدريبه، ثم تتابعه حين يكبر.
كما أنها تنظِّم أمور الزّواج والحياة العائلية حتى يهرم المرء ويموت[8]، فهي بذلك تصل إلى العلاقات الإنسانية الحميمة لتنظمها وتضبطها وفق قواعد لا تجد إلا الاحترام[9].
وهي "ميراث الأجداد"[10]، وبالتّالي فهي "مرعية التَّنفيذ ومعمول بها بدقة ونظام منذ الآف السّنين"[11]. وهي "موروثة مما قبل الإسلام ومما قبل المسيحية"[12].
ويرجع الدّكتور محيي الدّين دوغوظ جذورها إلى عصر سيطرة الأم، إذ كانت الأمهات هنَّ اللَّواتي يتولين شؤون السّلطة والقيادة ويضعْن الأنظمة، فكانت هذه السّلطة الأساس الّذي استندت عليه التّشريعات القانونية والعادات التَّنظيمية في العصور الّتي تلتها[13]، ويؤكد قول الدّكتور دوغوظ وجود مجلس الأمهات في أساطير النّارْتيين: "النّسوة البعيدات النَّظر كنَّ يحضرن ذلك المجلس وكن يناقشن طريقة حياة أولادهن ويتحاورون لتشريع العادات والتّقاليد والقوانين الواجب اتّباعها مستفيدات من تجاربهن وخبراتهن وما مر بهن وما شهدنه أو رأينه عبر سنوات حياتهن الطّويلة"[14].
بعد ذلك، أي بعد تشكل العشائر والقبائل، ظل المجلس يتخذ القرارات ويقرر الأنظمة والقوانين والعادات إلى أن صار مجلسًا للرِّجال، وفي النّهاية: مجلسًا للشّعب مِن الرّجال والنِّساء وصارت مهمته مراقبة تنفيذ القرارات مِن مخاتيرها والأمراء ورجال الأمن والشّرطة حسب التّغييرات في الأَدِيغة خابزة والأنظمة[15].
وقد وصلت قوانين "الأَدِيغة خابزة" إلينا، رغم أنها غير مدونة وغير مكتوبة[16] وذلك من خلال أساطير وقصص شعبية وأغان[17].
وقد لعبت المضافة الشّركسية (هاتشئيش) دورًا مهمًّا في الحفاظ على الثّقافة والتّقاليد الاجتماعية[18]، فهي مكان مناقشة وانتقاد لما يستجد مِن أمور وأحداث وقرارات يتخذها الكبار فيما يتعلق بالعادات والتّقاليد، فكانت مدرسة يجري فيها تبادل وتوسيع المعلومات والخبرات وأصول العادات ونقل الثّقافة بشكل حي، والإضافة عليها مِن دون إغفال أهمية دور الشّعراء والمغنّين الجوالين حيث يلقي الشّعراء قصائدهم - رجالاً ونساءً - في الـ(هاتشئيش) أو ساحة القرية أو القرى المجاورة، بينما يقوم المغنون الجوالون بدور أوسع، إذ يغنون هذه القصائد في الحفلات والمعارك فتصبح من الأدب الشّعبي الّذي يحفظ تواريخ وتفاصيل أحداث قديمة ظلت حتى اليوم في أذهان النّاس بسبب تناقلها في هذه المجالس[19].
لكن الأَدِيغة خابزة لم تبق على ذاتها منذ القديم، فقد حدثت تغييرات عديدةٌ وتعديلات في أزمنة مختلفة هي أوقات التّحولات الاجتماعية والقومية والدّينية.
وكانت الطّريقة تتلخص في "دعوة المجلس للانعقاد للبحث في التَّغيير أو التَّعديل"[20].
أما "الأَدِيغة خابزة" الموجودة اليوم، فقد وضعها في صورتها الحالية الحكيم الشّركسي المشهور: (قازان يقوه جباغه) الّذي عاصر بطرس الأكبر استنادًا إلى مبادئ الدّين الإسلامي الحنيف[21] إذ أصلحها[22] و"نقحها وجعلها أكثر ملاءمة لروح العصر"[23] وإن لم تكن هذه العادات والتّقاليد - أصلاً - بعيدة عن الإسلام حتى قبل اعتناقه دينًا، فهي شبيهة "بالتّقاليد السَّائدة لدى المسلمين في كل مكان"[24].
وللنِّظام - أو للخابزة - عند الشّراكسة نوعان:
النّظام الشّركسي: (الأَدِيغة خابزة)، والنّظام القفقاسي: (ورق خابزة).
الأول: النّظام الشّعبي، ولم يكن يقبل بوجود سادة وعبيد، بينما استحدث الثّاني عند القبائل الّتي سارت على نظام الأمراء الوارثين وعنى نظام النّبلاء أو الأمراء.
ويختلف الثّاني عن الأول في أنه يضاف إلى القانون الأول بعض الامتيازات الخاصة بالنظام الطّبقي[25] الّذي ضم الطّبقات الست التّالية وفقًا لتراتبها في السّلطة:
1- بشه: بمعنى الأمير أو الزّعيم أو الرَّئيس[26]. ويجب أن يكون عريق النّسب، متصفًا بالحكمة والرّوية والاتزان والرُّجولة والكرم[27]، وله امتيازات خاصة شرط ألا تتعدى امتيازاته دائرة العادات والتّقاليد القومية[28].
2- لقوة لاش: نبلاء من الطّبقة الأولى[29] ولكن أقل مرتبة مِن البْشِهْ[30]. وهم يقيمون بالقرب مِن البْشِهْ ولهم حاشية من النّبلاء (الورق) والخدم والمماليك[31].
3- ورق: نبلاء مِن الدَّرجة الثّانية[32] أو هم أعيان من الدَّرجة الأولى "امتازوا في الحروب بشجاعتهم النادرة وأظهروا ذكاء وعبقرية خاصة أو أتوا أمرًا عظيمًا في فائدة القبيلة ورفعتها"[33].
وهم دون الـ "لقوة لاش" ويشبهون "الحكام الإداريين، وهم يحلون مشاكل القبيلة ويتصرفون في الأمور الّتي تحتاج إلى معالجة بين الأفراد والجماعات لديهم"[34].
وبالإجمال، فإن كلمة (ورق) تعني: أصيل ونبيل وأصبحت في الأجيال التّالية لقبًا وراثيًّا خاصًّا بالعائلات المتنفذة[35]. وما زالوا حتى اليوم يفخرون بلقب النَّبالة في تركيا وسوريا والأردن[36] ويتزاوجون من طبقتهم[37].
4- فقول: بإمالة الضّمة إلى الفتحة ويعني بهم: الجمهور[38] أو الشّعب.
5- بْشي لْ: أي رجال الأمير[39] وهؤلاء كانوا يُشترون أو يؤخذون أسرى في الحرب[40].
6- وونه أوت: وهم طبقة العبيد، وهم أسرى حرب غالبًا، ولا توجد لهم حقوق مميزة[41]، وقد يعني اللَّقب: "أشخاص الحوش أو الخدم. (معناها بالشّركسية: الّذين ينتظرون أمام البيت)"[42].
إن الطبقية أثارت ثورة شعبية إذ جمعت القرى الشّركسية في سهول الكوبان قواتها ضد الزّعماء النّبلاء بين عام 1790 - 1810م، وقضت على نظام الإقطاع في حركة عصيان كانت انقلابًا اجتماعيًّا بمعنى الكلمة وحركة تصحيح عامة[43]، وإن كان الأمراء ما زالوا يحسون - حتى اليوم - في الوطن الأم وخارجه، "بضرورة وجودهم وبأنهم الممثل الحقيقي للشّعب الشّركسي"[44].
[1] محمد خير حغندوقة، ع. س، ص74.
[2] مت جوناتوقة يوسف عزت، ع. س، ص92.
[3] نفسه، ص194.
[4] نفسه، ص200.
[5] سولا بينيت: الأبخاز أشهر معمري العالم، تر: فاضل لقمان (دمشق: 1986)، ص61.
[6] صلاح الدّين شروخ، ع. س، ص77.
[7] فؤاد يحيى دوغوظ: الأَدِيغة خابزة، محاضرة ألقيت في: 8/7/89 (عمان: الإخاء، اللجنة الثّقافية في الجمعية الخيرية الشّركسية، 1989م)، ع: 28.
[8] نفسه.
[9] شروخ، ع. س، ص77.
[10] مثل شركسي، انظر: حغندوقة ع. س، ص80.
[11] مت جوناتوقة يوسف عزت، ع. س، ص200.
[12] سولا بينيت، ع.س، ص61.
[13] دوغوظ، ع. س.
[14] مدوح قوموق، ع. س، ص72.
[15] دوغوظ، ع. س.
[16] حغندوقة، ع. س، ص74، وكذلك: جوناتوقة يوسف عزت، ع. س، ص92.
[17] شروخ، ع. س، ص77.
[18] باتراي أوزبك: أساطير النارْتيين والتّاريخ الحديث للشَّراكسة. تر: أحمد راتب زنداقي (عمان، مكتبة الشّباب ومطبعتها: 1989)، ص77.
[19] نفسه ص81 - 82.
[20] نفسه.
[21] حغندوقة، ع.س، ص74.
[22] مت جوناتوقة يوسف عزت، ع.س، ص140.
[23] شوكت المفتي (حابجوقة): أباطرة وأبطال في تاريخ القوقاس، (عمان: 1974م)، ص57.
[24] سولا بينيت، ع. س. ص61.
[25] دوغوظ، ع.س.
[26] نهاد برزج، ع.س، ص28. كذلك: مت جوناتوقة يوسف عزت، ع.س، ص175.
[27] حغندوقة، ع.س، ص74.
[28] مت جوناتوقة يوسف عزت، ص178 - 179 - 184 - 193. كذلك: ب.س. بالاس: رحلات إلى الأقاليم الجنوبية الشّركسية من الامبراطورية الرّوسية 1792 - 1794، تر: فهي شما، تجميع وإعداد: وصفي ميرزا باشا (عمان، جمعية عمال المطابع التعاونية: 1982)، ص 28 - 29. كذلك باتراي أوزبك، ع.س، ص65.
[29] مت جوناتوقة يوسف عزت، ع.س، ص175.
[30] حغندوقه، ع.س، ص74.
[31] مت جوناقه يوسف عزت، ع.س، ص186.
[32] نفسه، ص115.
[33] نفسه، ص180.
[34] حغندوقه، ع.س، ص74.
[35] شوكت المفتي، ع.س، ص53 و49 - 59. كذلك مت جوناتوقة يوسف عزت، ع.سن الصفحات: 175 - 180 - 181 - 186- 187 - 191، وبالنّسبة إلى طبقات الورق ودخلهم ولباسهم. انظر: باتراي أوزبك، ع.س، ص10 - 65. انظر: أيضًا ب.س. بالاس، ع.س، ص 28 - 31.
[36] انظر: أرسلان رمضان بكج (1934 - 2011): (صور من التراث الأردني - الفلسطيني 1981)، (عمان بين الأمس واليوم 1983)، .(The land of Jordan: 1990)
(طيور الأردن 1992)، (عمان تاريخ وصور 2002)، (صور من ذاكرة الأردن 2008).
[37] باتراي أوزبك ع.س، ص65.
[38] مت جوناتوقة يوسف عزت، ع.س، ص175.
[39] نفسه، ص175.
[40] باتراي أوزبك، ع.س، ص66 - 70.
[41] نهاد برزج، ع.س، ص28.
[42] باتراي أوزبك، ع.س، ص67.
[43] نهاد برزج، ع.س، ص77.
[44] باتراي أوزبك ع.س، ص59.
رابط الموضوع:
https://www.alukah.net/culture/0/69098/#ixzz6ZpzHXS00