وقتما نتحدث عن طربنا ببديع مفردات الأخوين رحباني (عاصي رحباني ت: 1406 هـ / 1986 م، ومنصور رحباني ت: 1430 هـ / 2009 م)؛ وإعجابنا بسحر وجمال الشعر الآتي من أقصى المغرب؛ رغم عسر فهم مفردات دارج لغتهم، دون قصد التفريق بين المكانين = فهذا يعني تمكن (الشعر) من تخطي خصوصية (اللهجة)، بسبب غناء موسيقى النص وفتنته، وبسبب أن لغة الشعر واحدة، يجمعها صدق التعبير وأصالته. ومثل ذلك انبهارنا بروائع الشعر(النبطي) المحكي بلهجة أهل الخليج؛ أو بأزجال أهل الشام، أو بـ (طرائق) غنائهم.
فهل يعني ذلك، وقتما نفتتن به، أننا نساعد، من حيث لا ندري، ابتعاداً متعمداً عن الفصحى، وترسيخاً لتجزؤٍ نرفضه؟
أم هو نمطٌ من التعبير، وشجنٌ ساحرٌ، لا يؤدَّى إلاَّ بهذه الصورة الجميلة؟
** ** **
في كتاب " الشعر والشعراء" لابن قتيبة (عبد الله بن مسلم، ت: 276 هـ / 828 م) وهو من مصادر الأدب الأولى، ومقدمته أول مقدمة في النقد الأدبي، ترجم فيه ابن قتيبة للمشهورين من الشعراء الذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في علوم الدين والعربية، غير مقتصر على ذكر الشعراء الجاهليين والإسلاميين، بل تناول بالذكر أيضاً عدداً من المُحدَثين الذين عاشوا في القرن الثاني الهجري / 719 م وأوائل القرن الثالث الهجري / 816 م. دفعه إلى ذلك مبدأ المساواة في النقد بين القدماء والمُحدَثين، ناظراً إلى جودة الشعر وشرفه وحسن صناعته، ومخالفاً في ذلك مذهب العلماء الذين كانوا يفرطون في التعصب للقديم.
وفي كتابه " عيون الأخبار" وهو أوسع كتبه، وأكثرها دوراناً في المراجع العربية، نجده يختار مقتطفات من الآداب الفارسية ومن الثقافتين الهندية واليونانية، ليقول لنا بوضوح - وإن لم يذكر ذلك صراحة - إنْ تعدُّدَ أشكال الحياة بتعدُّدِ صيغها، وبمدى اتساع النفع وشموله تكون عظمة الرأي.
(فالجمال) و(حسن الأداء) هو الغاية والهدف من أساليب الشعر خاصة، وفنون الأدب عامة؛ وكتاب ابن قتيبة "عيون الأخبار" وإن لم يكن في القرآن والسنة وشرائع الدين وعلم الحلال والحرام، دالٌّ على معالي الأمور، مرشدٌ لكريم الأخلاق، زاجرٌ عن الدناءة، ناهٍ عن القبيح، باعثٌ على صواب الرأي وحُسن التقدير ورفق السياسة وعمارة الأرض.. فقد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير الرامي، والحَسَن لا يلتبس بالقبيح، ولا يخفى على مَنْ سمعه من حيث كان. وقال ابن قتيبة، وهو يعتذر عن إيراد طرفة ضاحكة لمزبد المديني (ت: 154 هـ / 770 م) دون إعرابٍ لكلامه، ومزبد المديني من طبقة التابعين، كثير المجون، حلو النادرة: «إن إعراب الطُرفة يُفقد سحرها»؛ وهذا يعني أنه يتسامح باللهجة المحكية. ومثله قول عميد البيان عمرو بن بحر الجاحظ (ت: 255 هـ / 868 م): وقد يتملح الأعرابي في شعره شيئاً من كلام الفارسية.. وكلام الناس في طبقات، كما أن الناس أنفسهم في طبقات. فمن الكلام الجزلُ والسخيف، والمليح والحسن، والقبيح والسمج، والخفيف والثقيل. وكله عربي، وبكل قد تكلموا، وبكل قد تمادحوا وتعايبوا. ولأهل المدينة ألسنٌ ذلقة، وألفاظٌ حسنة، وعبارةٌ جيدة، واللحن في عوامهم فاش، وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب (البيان والتبيين 1 / 141).
هذا في وقت كانت نعرة (الشعوبية) فاشية، وتمسك كل طرف بل تعصبه لأطياف لونه حاضرٌ راسخٌ مقيت، وغَمْطُ كل آخر من سبق التعبير والأداء ظاهرٌ في كل نواحي الأدب.
ولذلك، فالمنصف يكون دائماً مع سحر البيان وروعته، وأنه لا داعي لتقسيم الأنماط الأدبية بين قديم وحديث، وفصيح وعامي، وشعر مقفى وشعر منثور، لأن الحكم في ذلك كله لمطلق الإجادة وحسن ترتيب الأداء، وما شكوانا اليوم إلاَّ من (استسهال) البعض لرائع البيان ورحب آفاقه بدعوى الحداثة والتجديد.
** ** **
ولتتحدد مرامي الكلام، فتتوضح الصورة أكثر، أقول:
1 بداية، أنا لست مع من نادى باستبدال الفصحى بالعامية، وتغيير شكل الحرف العربي بالحرف اللاتيني، بدعوى ترهل الفصحى وعدم استجابتها لمطلب الحداثة، (مع ملاحظة أن جميع من تبنى ذلك ودعا إليه، إنما كتب بالفصحى وعلى الجادة في الكلام) !
2 لكن يجب التفريق بين (قداسة) اللغة، وأنها صارت (مقدسة) لنزول القرآن الكريم بها، وتفردها بجمال وفتنة خصائص ساحرة، وبين (الاعتراف) باللغة المحكية كطريقة خاصة بالأداء، لا تُلغي الفصحى ولا تحل محلها، إنما يتأدى بها نمط خاص من جمال التعبير.
3 فالجاحظ، وابن قتيبة، وكثيرٌ غيرهم، وقت فورة احتدام نزعة (الشعوبية)، نراهم تساهلوا بتجاوز قواعد الكلام الفصيح، مع أنهم جهابذة البديع وأساتذة فن التعبير، وما تناسوا أبداً تربص الحاقدين وأصحاب الهوى باللغة الفصحى وما تحمله من دلالات في استمرارها كأداة تخاطب وتعبير.
4 وإن المسلمين غير العرب لم يتركوا خاص لغاتهم في نواحي حياتهم، وإن كتبوا في العربية ومارسوا شعائر الصلاة بمفرداتها الفصيحة. ففي حديثه عن عجيب ذكاء أستاذه أبي العلاء المعري (أحمد بن عبد الله، ت: 449 هـ / 1057 م)، حكى أبو زكريا الخطيب التبريزي (يحيى بن علي، ت: 502 هـ / 1109 م)، أنه كان قاعداً بين يدي أبي العلاء، في مسجده بمعرة النعمان (وتبعد 84 كم عن مدينة حلب)، فرأى رجلا من أهل بلدته، فقام وكلمه بلسان أذربيجان، فحفظ أبو العلاء ما قالا وإن لم يفهمه. أي أنهما تحدثا بلغتهما الأذربية الأم، ولم يجبرهم الخليفة أو واليه، على التخلي عن لغتهم والتحدث بلغة أهل البلاط الحاكم (مثلما حدث في بلد المليون شهيد، إبان الاستعمار البغيض)! وهذا يعني بوضوح أنه سهلٌ يسيرٌ الجمع بين لغتين كلتاهما أم، أو لغة وابنتها، أوبين كافة أطياف اللغات، شريطة ترك غباء التعصب والإفراط فيه. 5 و بقي زعمٌ آخر، يأخذ وجهاً آخر في شجون الحديث، وهو عسر تعليم العربية، وفرط تعقيد أصولها ! وهو زعمٌ سخيف، لا يؤبه به، ففي عصرنا اليوم، استطاعت نشرات الأخبار، على امتداد الوطن العربي، تقديم الخبر الجاد، بلغة لا تعقيد فيها، وتبعهم بذكاء، القائمون على صناعة برامج الأطفال المرئية، في دول اتحاد الخليج العربي، فوصلوا إلى فصحى سهلة، ابتعدت عن تعقيد النحاة، ابتدأت في السلسلة الشيقة (افتح يا سمسم)، وتتابعت من بعده برامج غاية في الإبداع، تغنَّى بها جميع أطفال الوطن العربي، ولا يزالون يتغنون بها، لشدة جمالها وأسرها وقربها من النفس والروح.
كما استطاع المبدع نجيب محفوظ (ت: 1427 هـ / 2006 م) أن يرفع مستوى اللهجة المحكية إلى حاق السحر والعذوبة والجمال، في أداء أخَّاذ في جميع رائع رواياته، فحقق قول أبي هلال العسكري (ت: الحسن بن عبد الله، ت: 395 هـ / 1005 م): وأما الجزل المختار من الكلام، فهو الذي تعرفه العامة إذا سمعته ولا تستعمله في محاوراتها (الصناعتين 47).
** ** **
ونعم، وألف نعم، فالأدب، والشكل الشعري خاصة، إنما هو بثرائه الموسيقي، وجَرْس حركة ألفاظه، وفضاءات إيحاءاته. وبقدر ما يكون الكاتب الأديب ماهراً في استخدام موسيقاه بقدر ما يصير قريباً إلى أوتار الروح وبواعث النفس وأشجانها.