أخي الأديب محمد الصالح الجزائري، شاعر بلد المليون شهيد:
في تراكم العتمة من حولنا، واختلاط طرق الصواب، وتشابك اليقين بالشك.. كان لا بد من وقفة متأنية للوصول إلى برّ سكينة الاطمئنان، ولا طريقٌ صوابٌ إلى ذلك، سوى جمْع الأخبار، والمقارنة بينها، وفرز الموضوع منها على منهج علماء الحديث.
فوقتما بدأتُ بتتبع الأخبار والأحاديث المشتهرة، في تاريخنا، كنت أشعر بأسى وخواءٍ، وشيءٍ كما المرارة، ودمعٍ يائسٍ يثعب من عيني دون انتهاء ! وكنتُ أردد بآلية، وقلبي يعتصر: كذبوا علينا ! عشنا - بغفلة ومطلق قناعة - أوهامَ الأساطير وحكاياتِ الأجداد وأسمارَ ليالي بغداد؛ فصارت الخرافة قوام نسج الذاكرة !
تساهَلَ الرواة في تسطير الأخبار، وجُلَّ أسفار الفترات الأولى من أيام التراث، فتلقفتها دراسات أهل الاستشراق، فانتقلتْ إلينا سُنة ومذهباً وشكلاً يغاير الصورة البسيطة الأولى، التي نستطيع الاقتداء بها، ونحذو - بمزيد جهد صادق - حذوها، فنصل إلى عتبات الكمال أو نقاربه !
وقلتُ بألم: إنَّ خلافات المذاهب والأهواء ضخَّمت الحدث أكثر وأكثر، وعاضدته؛ فعشنا مع وهْم الأسطورة، وما عرفنا نبْض الحدث؛ فاستمرأنا حياتنا الفكرية بوهْم كبير، وكذبة كبيرة، وشبه أساطير، وحكاياتِ مبالغاتٍ من نسج الخيال ! فكل خبر كاذب كان يؤسس منحى خاطئاً في مسارب التفكير؛ وكل (مغالاة) في (خبر غير صحيح) كانت تميت سنن استمرار نسغ التاريخ، وتبقيه (شكلا) (مثالاً)، أسطورة وَهْمٍ وخيال شعراء، صعبٌ الوصول إليه.
فـ (التاريخ) ليس حكايةً تروى، وقصصَ سمرِ ليل.. بل هو نسغٌ مستمر، و(صيغةٌ) تُحدّد (واقعاً) وتوجّه رؤى؛ فكان ـ كخطوة حذرة أولى ـ لابد من إعادة ترتيب أوراق الأخبار، على لاحب منهج ميزان (علماء الحديث الشريف)، بالعناية بأسانيد الأخبار ومخارجها، والمقارنة بينها بعد استقصائها من مظانها، بغية الوصول إلى الصورة الأقرب إلى الصواب، بهدف وضع (لبنة) أساس في تَصوّر الحدث وتشكله.
والحديث يطول، والشجن يدفعنا إلى مزيد عناية، ومزيد ترو، قبل سرعة الأحكام.
وكل الشكر لك، ويداً بيد نتابع المسير.