قراءة في ذكرى جوهر
محمد جوهر مبدع الخاطرة والقصة القصيرة جدا، لقلمه مجالات أخرى خط بمداده الأحرف فيها ولكن القصة القصيرة جدا ومعها الخاطرة هما الأدب الذي يستهويه ويأخذ لبه؛ كنت سأحاول التجول عبر نصوص هذا الأديب لكن فجأة وجدت خاطرته ذكرى تشدني إليها.
"ذكرى"؛ يحيل العنوان على استرجاع الذاكرة لشيء من الماضي له أثر في نفس من يتراءى له هذا الزمن السابق أمامه؛ " ذكرى" على شكل قصيدة تبدو مكونة من ثمانية أسطر بجمل قصيرة أو بأشباه جمل، حيث تبتدئ الخاطرة بجملة اسمية وتنتهي بها أيضا، كأن ما بين الجملة الأولى والأخيرة راسخ لا يمكن زعزعته لأن أول النص ونهايته قيّدا ثباته على حال واحدة.
ولعل الكاتب باستعماله للجمل الاسمية في خاطرته يعبر عن حالته بعد رحيل أمه تعبيرا دالا على الثبات والسكون واستقراره على الوضع الذي آل إليه، مخبرا إياها بمشاعره بعدما وجد نفسه وحيدا دونها، وحيدا في مكان كان قد جمعهما معا ، وقد نلاحظ توظيف الأفعال لكنها تحيل على الزمن الماضي الذي استقر على حال معينة لا ينفع فيه تغيير.
" أنا هنا يوم رحلت" : الجملة الأولى بالنص اسمية وتتضمن فعلا ماضيا، ليأتي بعدها فعل مضارع في السطر الموالي لكنه منفي بلم، وكأنه ينفي التحول والتغير ويثبت السكون العام " لم يعد معنى للرحيل" وكأنه بهذه الجملة يؤكد سابقتها " أنا هنا يوم رحلت" ، فقد صار عند محمد جوهر الرحيل سواء مع عدمه، أو لعله صار يفضل الرحيل ما دام كان فعلا من أمه، فلم يعد يهمه البقاء أو غيره مادامت مخاطبته قد رحلت، خاصة أنه يشعر بالتيه في ذكرياته التي تجعله يحن إلى ماضيه بعد غياب أمه فهو يريد أن يعبر عن شيء واحد هو ضياعه، لأن الأم هي التي تحمي وتحفظ أبناءها من أن يتيهوا بعيدا عنها، لكن جوهر لم يته في الحنين فقط وإنما في اللاحنين كذلك، فقد وظف طباقا يؤكد تشتته وتشتت أفكاره التي لم يعد يتمكن من جمعها (الحنين/ اللاحنين) وتأتي تلك "اللا" لتنفي ما كان له وجود بحياة والدته، فقبل اللاحنين كانت اللاعودة وبعد اللاحنين كان اللامنتهى، وبحسرة في السطر السادس يخاطب أمه" أنا هنا حيث لا أنت أماه" نحسها صرخة مدوية تخرج من الأعماق، فأديبنا لم يستطع أن يقول: " أنا هنا حيث أنت لست هنا" ولكن "لا النافية" كان لها تأثير أعمق خاصة أن لفظة " أماه" بعدها قد كان لها وقع في النفس متحسرا متألما لفقدانها، ثم يؤكد محمد جوهر أن روحه ما هي إلا روح والدته بل هما روحان حياتهما في بدن واحد.
لقد عبر جوهر في عدد كلمات قليل عن حب لأمه كبير، عن حب لا ينقطع بانقطاع الحياة، بل يستمر أو ربما يزداد فلا ينتهي بنهاية الحياة.
أديبنا هنا بين كيف أن الأم هي العماد الذي هو سند الأبناء مهما بلغ بهم العمر، فإن غابت الأم رحل السند ومال المستنِد...
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|