 |
اقتباس |
 |
|
|
 |
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رشيد الميموني |
 |
|
|
|
|
|
|
كان الصمت تاما و أنا أحكي بالتفصيل ما جرى منذ تكليف المعلم لنا بكتابة موضوع إنشائي ، بل عدت أكثر إلى الوراء ، إلى حيث كان جدي يحدثني عن المنزل و أحقيتي فيه . وهنا انتبهت إلى أبي و تعابير وجهه تحمل لأول مرة معاني الألم و الحسرة . وتبين لي إلى أي مدى كان شغوفا بالبيت ، وفهمت معنى تعلقه بأغنية " الدار اللي هناك" .
حين انتهيت من السرد ـ تقدم أبي وضمني إلى صدره محاور إخفاء تأثره و مغالبا دموعه . ثم انتقلنا إلى حجرة الأكل وأنا لا أزال ألتفت إلى المجلدات الضخمة . ولمح المضيف ذلك فقال وهو يقتعد وسادة :
- لا تهتم .. فهي ، على كل حال ، لك .
لي ؟-
- أجل.. وهذا من وصايا الشيخ ... لقد تأكدت الآن أنك الطفل المنشود .. حكايتك مطابقة تماما لما حدثني به .. هنيئا لك .
كان أبي واقفا يتأملني تارة ، وتارة أخرى ينظر إلى الكتب المكدسة ، وقد علت محياه فرحة لم يستطع إخفاءها .. فرحة فاقت تلك التي رأيتها على وجهه لحظة عودته من عند المقدم .. و التفت إلى الآخر قائلا :
- الله يبارك فيك يا أخي ويرزقك الذرية الصالحة .
- آمين .. عسى ألا ينسانا ابنك هذا أن يدعو لنا بالمثل .
المسكين .. كان اعتقاده راسخا بأني ولي من أولياء الله .. و أن أمنيته في أن يرزق بولد صارت قريبة المنال .. ولمحت أبي ينظر إلي ففهمت ما ينتظره مني ، وقلت بصوت متهدج :
- سأدعو لك في كل صلواتي أن يرزقك الله أولادا وبنات ..
على رسلك يا بني – قاطعني الرجل ضاحكا – فقط ولد أو ولدين .. و .. بنت . - رغم هذا الجو المرح ، ورغم كل ما حصلت عليه ، كان تفكيري الدائم في قرب الرحيل ينغص علي صفوي . لكن الأيام مرت ونحن لا نزال في ضيافة صديق أبي . و تكرر غياب أبي .. فكان ينهض باكرا في بعض الأحيان ويجد في انتظاره المقدم ممسكا ببغل .. ماذا يحدث ؟ ولم هذا التأخر في الرحيل..؟ بل وما هو هذا العمل الذي يستوجب غياب أبي جزءا كبيرا من النهار بعد أن انتهت مهمته في هذه المنطقة ؟ كل هذه التساؤلات سرعان ما تلاشت حين وجدت ما يصرفني عن التفكير في إمكانية الإجابة عنها .
أجل.. صرت أقضي النهار كله في التجوال عبر الأحراش و الأودية .. أتسلق الأشجار و أتلذذ بأكل الفواكه المختلفة من مشمش و كرز وإجاص وتين .. ثم أختار موقعا يشرف على الوادي والقرى المنتشرة عبره ، و أجلس لأتفحص أحد المجلدات الذي أحمله معي كلما خرجت للتنزه بعيدا عن المنزل .. عندئذ ، ووسط سكون شامل لا يتخلله سوى زقزقة العصافير و حفيف أجنحتها ، أو خوار بقرة آت من بعيد ، أبدأ في قراءة المجلد بنهم .. كم هي ممتعة الحكايات والوقائع التي لا تمل النفس من قراءتها مرارا.. أشخاص و أحداث و مناطق وصفت بتدقيق، حتى يخيل إلي و أنا أجيل النظر بعيدا أني أعيش تلك الأحداث و أقابل أولئك الأشخاص . وأنظر دون وعي مني إلى موطئ قدمي فأحسب الأرض لا تزال تحمل آثارهم . لم أكن أدري أن المنطقة تعج بهذا العدد الهائل من العلماء و الأبطال و المواقع البطولية .. و أخذت ذاكرتي تستوعب كما هائلا من أسماء الأماكن التي كنا نمر عليها في كل سفر و علاقتها بمعركة أو شخص .. فقد قرأت في أحد الكتب عن قرية الحمراء ومعركتها الشهيرة ، ثم عن المسجد الذي بناه أول الفاتحين .. وتحدث أحد الفصول عن قرية " الشرافات" وسبب تسميتها كذلك .
كنت أقرأ بنهم غير عابئ بمرور الوقت . لم يعد يراني أحد إلا متسلقا الجبل ، باحثا عن أقصى مكان لا يؤمه الغادون و الراحون من أهل المنطقة ، أو جالسا على مائدة الطعام . كنت أقرأ معدل مجلد في يومين . وكثيرا ما أجد نفسي ساهما وقد آذنت الشمس بالمغيب ، فأطوي الكتاب و أضمه بحنو إلى صدري ثم أنحدر نحو البيت . وكم من مرة توقفت أتلمس الطريق بسبب هبوط الظلام ، ويبدو لي شبح مقبل نحوي . إنه صاحب البيت جاء يبحث عني بعد أن أسرت إليه أمي بقلقها من تأخري في العودة .
- أين كنت ؟ .. لا تقل لي إنك ذهبت لزيارة القبر .. ادخل الله يهديك . لا يبدو على أمي أنها منفعلة رغم تأنيبها الخفي .. وجهها ، وعلى غير عادتها منذ مغادرتنا القرية ، منفرج الأسارير.. أما أبي فهولا زال لم يعد بعد من خرجاته اليومية الطويلة . هاهو يدخل .. يجلس في إعياء والابتسامة العريضة تملأ وجهه . وأقبل صاحب البيت سائلا :
- هيه.. أيها القبطان .. هل نهنئ ؟ لم يجب أبي ، بل اكتفى بهز كتفه ، بينما أشار إلى أمي بحركة أن كل شيء على ما يرام .. ماذا يعني ؟ وما هذا الألغاز التي تلف حديثهم منذ مدة ؟.. نظرت معاتبا إلى أبي فقال :
- اذهب وتوضأ وصل ثم تعال نتحدث قليلا على السطح ، فالجو رائع في الخارج .
لم أدر كيف تم الوضوء والصلاة لشدة لهفتي إلى سماع ما سيقوله أبي . إذ سرعان ما وجدت نفسي جالسا على الزربية أرنو في شغف تارة إلى أبوي وتارة إلى مضيقنا وزوجته . و أخيرا نطق الرجل قائلا :
- أظن أن الوقت قد حان لإخباره بكل شيء .. أليس كذلك أيها القبطان ؟
- أجل – رد أبي باسما – ولكنه سوف يعذرنا ، لأن لكل مقام مقال .
ثم التفت إلي معتدلا في جلسته ، وتنحنح قبل أن يقول :
- اسمع يا بني .. لقد كانت وجهتنا محددة ، لكن مشيئة الله أبت غير ذلك ... هنا ، تسارعت خلايا ذهني في تخيل ما حدث و ما سيحدث .. كان أبي يحدثني عن ترقيته إلى رتبة قبطان ، وتصادف ذلك مع وفاة قائد الحامية بمركز القيادة . شرد ذهني ولم أعد أستطيع كبح جماحه ،فانطلق يرتع عبر الأودية و الربى متغلغلا في الغابات قبل أن يحط الرحال في قريتي الوديعة على ضفة نهرها الصغير.. الغدير .. الشط .. و البيت المهجور.. لا ، لم يعد مهجورا.. لقد جعلته الكتب يفيض حيوية . إنه بيتي وبيت أبي كما كان بيت جدي من قبل .. ولطيفة ؟.. لو علمت كيف سها فكري عنها طول هذه المدة لاستاءت مني .. الآن .. يمكنني تعويض ما بدر مني تجاهها .. ثم ، ألم يكن الأجدر بي أن أفض هديتها و أعرف ما هو مكتوب على الورقة ؟
وأفقت من شرودي و أبي مسترسل في سرده . انتظرت حتى أكمل حديثه ثم استأذنته في الانصراف للحظات فأذن لي . وانطلقت نحو حقيبة ملابسي أفتش عن الورقة ، فلم أجد عناء في العثور عليها . كان طيف زميلتي يملأ المكان و العبير ينبعث من هديتها . فضضت الغلاف فوجدته يحوي ورقة ومنديلا ملفوفا بعناية . اقتربت من النافذة حيث انبعث ضياء القمر المطل من وراء الجبل . كانت الرسالة ملونة وقد ازدانت حواشيها برسوم الأزهار والنجوم ، و انسابت سطورها تحمل بين طياتها عبارات الصداقة و الوفاء . أحسست بوخز ضميري لكني تابعت القراءة ثم أخذت المنديل أقلبه بين يدي . لمست يدي شيئا صلبا . كانت بين طيات المنديل قلادة معدنية تمثل حملا .. برج لطيفة. تذكرت أنها كثيرا ما كانت تحمل القلادة متباهية بها بيننا .. كانت شغوفة بها .. وها هي تهديها إلي .. أليس هذا منتهى اللطف ؟
لملمت المنديل والرسالة ودسستهما بعناية بين طيات ملابسي في الحقيبة ثم التحقت بالمجلس حيث أعدت مائدة العشاء . جلست بجانب أبي و سألته :
- إذن سوف نعود إلى قريتنا المجرى ؟
- طبعا .. يبدو أن ذهنك شرد كثيرا .
- أجل ، و لا زلت غير مصدق أني في يقظة .. لكن.. منزلنا .. ألم يسلم للموظف الجديد ؟
- منزلنا ؟ - رد أبي ضاحكا - لا تهتم .. سوف نقيم في منزل آخر .
وعقب مضيفنا قائلا :
- منزل يليق بالقبطان الجديد . ماذا يعني ؟.. طافت مخيلتي بأرجاء القرية باحثة عن المسكن المقصود فلم أجد واحدا يليق بنا . زادت حيرتي وخاصة حين شعرت من
جديد بالنظرات مصوبة إلي .. ماذا يعني كل هذا ؟ و هل هناك لغز آخر علي بفكه ؟ ألا يكون أبي يقصد .. ؟ مستحيل .. نظرت إليه فوجدته يتفحصني بعيون تحمل ألف معنى وتصرخ مجلجلة في ابتهاج وحبور . و التفت إلى أمي فأدارت وجهها لتخفي تأثرها . هكذا هي أمي . قليلة الكلام سريعة التأثر . تغلبها دموعها لأدنى انفعال.. لم أسأل كيف ولماذا ومتى.. كانت خشيتي كبيرة في أن أستيقظ من حلم جميل وأجد نفسي كما كنت .. أستعد للرحيل ، مغادرا إلى الأبد قريتي الوديعة ..
في الأيام التي تلت كل هذه الأحداث .. قضيت أغلب الأوقات في تدوينها وتسجيل كل ما رواه لي أبي عن المنزل وكيف سلم له بناء على طلبه . وكان وصولنا إلى القرية صباح يوم جميل من أيام شتنبر الزاهية . لكني لن أنسى ما حييت عشية عودتنا . كان شعورنا عكس ما كنا نحس به يوم رحيلنا عن القرية . وكانت أمي أكثرنا حركة وانشغالا بحزم الحقائب ، بل وكانت تسابق أبي في وضعها على البغال . ولولا أخي الصغير و طلباته التي لا تنتهي ، ثم تنبيه أبي لها بعدم الإجهاد لحملت وحدها كل الحقائب والرزم . وجاء الليل ، فلم يستطع أحد منا النوم لشدة لهفتنا إلى العودة وشوقنا للقرية . أما أنا فقد اغتنمت فرصة انهماك الجميع في الحديث و خرجت متسللا نحو القنطرة . كانت مستلقية كما عهدتها في سكون ووقار ، وقد غشاها ضوء القمر الساطع . تمشيت قليلا عليها ثم أخذت حفنة من ترابها أتشممه في انتشاء . بعد ذلك أدرت ظهري نحو الجبل الجاثم على الوادي و هتفت في ما يشبه الهمس :
- رحمة الله عليك أيها الشيخ الجليل .. لن أنسى جميلك ما حييت .
وقبل أن أعود أدراجي إلى البيت ، التفت إلى القنطرة مودعا إياها في صمت وقد غلبتني دموعي ، ثم دخلت محاولا إخفاءها عن الحاضرين . لم أكن اشعر بالجوع ، ولذا طلبت الإذن من والدي للذهاب إلى فراشي، وتمددت إلى جانب أخي الصغير وقد غط في نوم عميق. كانت ملامح وجهه تشي بالطمأنينة . شعرت نحوه بالعطف لانشغالي عنه طيلة الرحلة ، بل منذ بدأت مغامرتي في القرية ، وقر عزمي على توفير وقت كاف مستقبلا لمصاحبته وملاعبته . كنت سعيدا فلم يجد النوم طريقه إلى عيوني . تذكرت نصيحة أبي لي بوجوب شكر الله على نعمة الطمأنينة فقمت أتوضأ و أصلي في السحر.. ما ألذ اليقظة في هذا الوقت من الليل . كل شيء ساكن وجميل .. الليل.. الطبيعة .. النجوم..
|
|
 |
|
 |
|
وهل استجاب الله دعاءك ورزق مضيفكم أبناء كثر ؟
وورقة لطيفة أ لم يكن بها غير ورود ونجوم ؟ كنت أنتظر المكتوب.. !!!
كنت سأسألك: لم أغفلت أخاك بهذا الفصل لكنك أجبتني في نهايته؟ وأتابع