العزلة في زمن الكورونا
كورونا البطل الخارق
كورونا: استرداد الحقوق الى أهلها
11-
لم أعهد في زمن من الأزمنة التي مضت، والتي قضيتها رفقة عائلتي وأصدقائي زمنا كهذا، خطابات متعددة من لدن السلطات المحلية والوطنية والعالمية، الزموا منازلكم، الزموا أمانكم وسط المنازل...، أصبحنا كأننا أعجاز نخل خاوية أمام وباء خطير، زمن جعل الناس تراجع أوراقها وتعيد ترتيبها، منازل مغلقة ومساجد مقفلة ومدارس مسدودة، لا طفل يلعب في الأزقة ولا شيخ يجلس على أرصفة المنازل الخارجية يشاهد المارة، لا شباب يتبادلون الهمسات والضحكات والقهقهات في دروب الحارات، لا لا لا ... اهترأت حال هذا الحرف من كثرة استعماله.
أبواب المساجد مفتوحة على مصراعيها من ذي قبل، لا مصلين لا ملبين لنداء الله، ينادي المنادي فيهم حي على الفلاح حي على الصلاة، لا مجيب، متاجر، أسواق، مقاهي، حدائق وملاهي خاوية فارغة كأنما جاءت لحظة النفخ في الصور.
الكعبة المنورة التي يضاهي نورها نور القمر، تستقبل ضيوف الرحمان من كل حدب وصوب، خاوية على عروشها تلف حولها طيور بيضاء كأنها ملائكة الرحمان.
زمن استرجعت فيه الحقوق إلى أهلها والأمور إلى نصابها، أصبح فيها الشاب المعاند يبحث عن ملجأ يلتجئ إليه، يبحث عن المصالحة مع أسرته وذويه ليختبئ في حضنها، هربا من السلطات التي أوقفت التسكع في شوارع المدن والأزقة والأحياء، عرف الآباء والأمهات المشاق والمتاعب التي يعانيها رجل التعليم، يتعامل مع كورونات متعددة داخل الفصل الواحد.
ارتفع في هذا الزمن ثمن السبحة والسجادة والمصحف، وهزلت في القلب مكانة الغناء والمغنين والرقص والراقصات وبرامج الترفيه والمرفهين، وأخيرا عادت المياه إلى مجاريها.
في زمن الكورونا هذا، ارتفع منسوب العالمين الأخضر والأزرق، هانت الصداقات الافتراضية، هان الهوى الزائف وكلمات المشاعر والأحاسيس الواهية والكاذبة، كلما هم الإنسان باختلاقها، إلا وتذكر ملفه الخالي من أوراق النجاة أمام خالقه، يوم يكون عز وجل قائدا وملائكته شهود.
الكل ينتابه الهلع والخوف، أحدهم استمسك بالعروة الوثقى واتقى وصدق بالحسنى، والآخر استأثره وهزه حال السوق والتجارة وحمل أثقال الهم على كتفيه، وثالث استفزه حال أطفاله الجياع الذين لم يجدوا لا ماء ولا أكل، يفكر آن الليل وأطراف النهار من أين يقتات لهم، وأم مسكينة، انتشلت أعباء البيت وصراخ الزوج وضجيج الأطفال، أحدهم يأمر وآخر يجري وثالث يلعب ورابع يلهو ويشاكس.
زمن قلبت فيه الموازين وانحسر عالم موازين وأهله ومحبيه، زمن جعل المساواة والعدل شعارا له، لا أصبحت الصين قوة عالمية ولا أصبحت أمريكا دولة رأسمالية ولا فرنسا دولة ليبرالية، تساوى فيه العربي والعجمي، المسلم والمسيحي، اليهودي والنصراني والمجوسي، وكل من اعتنق دينا غير دين الإسلام، زمن انتهت فيه حلول الأرض، وأصبح الرؤساء والملوك يتضرعون لرب السماوات والأرض.
زمن أعيدت فيه للعلم قيمته وأعيد للطب مجده وأعيدت للدين مكانته، نزل كصاعقة على البشرية ما عرفوا لها مثيل، وتيرة المصابين والموتى تتزايد كل دقيقة وكل ساعة، عداد الموتى يتسابق بين دول العالم من يحترز المنصب الأول.
يموت فيه الإنسان لا يفرح أهله برؤيته ولا بتكفينه ولا بدفنه، ربما حالته تشابه الشهيد، لكنه شهيد من نوع آخر نسأل الله حسن الخاتمة.
بعدما كنت أسمع بورقة الدخول، أصبحت تسك أذناي عبارة "ورقة الخروج"، حينها علمت معنى كلمة الحصار، واستنشقت أنفاسي وقلت لك الله يا غزة ويا قدس الأدبية.
هذا الزمن، جعل الناس يعلمون بأن الطفل الذي قال قبل موته "سأخبر الله بكل شيء"، أنه قد أخبره فعلا، فشرب الناس من كأس السجين البريء الذي دخل السجن في حين غفلة والناس نيام، لا يدري متى وأين ولماذا سجن.
زمن، جعل اللحمة العائلية تعود كما كانت قبل انتشار وسائل الإعلام والتواصل، التي عملت على شتات الشمل وانتشار قيم التشظي في صفوف الشباب.
سنة مفاجئة بأحداث وسيناريوهات مفاجئة، كعادتنا استقبلنا الشهر الفضيل، شهر الصيام والمغفرة وفتح أبواب الجنان والعتق من النيران، بنفس جديد وبقلب مرتاب مذلل، خاضع لله عز وجل، راجيا منه السلامة والعافية ورفع البلاء، رمضان مخالف عن كل الأعوام التي مضت، رمضان بدون بيوت الله، نعمة فقدت، لكنها عوضت بنعمة أخرى، وهي التي أصبح فيها كل بيت يحتوي ركنا وزاوية، يرتل فيها القرآن وتصلى فيها صلاة التراويح.
كورونا، البطل الخارق، استلهم العقول وشغل الأذهان، أطباء يقومون بالتجارب ليل نهار علهم يجدون حلا أو مخرجا، أساتذة مرهقون بتتبع شبكات الأنترنيت لسد ثغرات العام الدراسي، وزراء ورؤساء يفكرون في الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية للخروج من الأزمة بأقل الأضرار وأضعف الخسائر... يتبع.