هدب العين، طلعت سقيرق
على باب الله ندق أبوابه خاشعين، آملين، دامعين.. تعرونا السكينة والرضا، ويتكلم صامت القلب دون كلام، وتنفسح روعة فضاءات الروح دون حدود، فنشعر براحة الاطمئنان، ونمشي نحو مساكب المسرات برضا وحبور وعالي يقين.
لكننا إن أردنا صوغ تلك الأحاسيس بعبارات المعتاد من الكلام، نجد عجز اللغة، وخَوَر المفردات؛ فعالي الألق يحتاج إلى لغة ليست مثل اللغات، وإلى لحن رفيف ليس كالألحان؛ فنلجأ إلى الرمز والإشارة، فنستلهم ـ ربما (الأنثى) ـ الصورة، لنصف قدر المكنة، لواعج الآهة، وحرقة الشوق، وكل مفردات المحبة والحنين.
** ** ** **
وبحرفية عالية، وباقتدار مذهل، استطاع هدب العين، طلعت سقيرق، الراحل الباقي، في تجربته "القصيدة الصوفية"، بمقاطعها العشرين، التي صدرت سنة 1999، أن يبث مواجده بعالي بلاغة وعالي جمال؛ فتكون قصيدته واحدة من التجارب المدهشة في الأداء الشعري؛ وأول قصيدة عربية تنتهج السطر الواحد، بموضوع واحد، وتفعيلة واحدة (مفاعلتن)، من أولها إلى آخرها؛ لتسكب على المتلقي حالات وجد قلَّ نظيرها؛ وتكسر الشكل النمطي لقصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية وقصيدة النثر؛ لتكون (ملحمة نفس) ترغب في الوصول إلى العليّ الأعلى؛ وسَفَراً لعالم حالم يتقاطع مع مشكلات العصر من خلال مرهف الأحاسيس، والدمِ المتدفقِ من أوردة نبض عصارة القلب وشرايينه، بغامر فيوضات الحب والوجد والشوق للآخر / لله تعالى الذي يناجيه:
أحبكِ أبدأ..
البركان والطوفان.
أدخلُ شهقة الأشعار في جسدي
وأغرق في بحار الوجد مأخوذاً..
تعلقني يداكِ على سياج الروح
لا أدري سواكِ سواي في حقل الهوى شجرا
هواكِ، وأنتِ في قلبي، وفي دربي، وفي ضلعي، وفي همسي، وفي لمسي.
أدور وأنتِ في رأسي.
أراكِ وأنتِ في بصري
ألامس جسمكِ الريحان في جسمي
===========
فيُقرُّ أنه ممتلئ بالحب حتى التخمة لله تعالى، وأنه يفيض عشقاً إليه كالسيل الجارف:
أفيض من الوجد شعراً وغيماً وعشقاً
لأنكِ يا عمر عمري تحطين في قلب قلبي
وأخاف إذا ما ذكرتك للغيم أن يتطاير نحوك عشقا
فعبقرية شعره، ومرهف أحاسيسه، صاغت قصيدة توازت مع هدفه ومشاعره، بحذق منظومة اللغة، والكلمات المنتقاة من معجم ثقافته، بأسلوب ممتع أخاذ:
أحبكِ فوق ما في الحب من حب
وأسرد كل تاريخي وموالي وأحوالي
على درب ارتعاش اللوز في أفياء أغنيتي
وفي أنواء ما في القلب من بلح،
أعيد إليكِ أسرارَ انتباهِ المشطِ في شعر الحقول
في شعر الفصول السبع
من صيف إلى سيف
أحبكِ فوق ما في الحب من حب
ولا يكفي
أحبك فوق ما في اللحن من مد ومن عزف
ومهما طالت الأشجار أشعاراً فلا يكفي ولا يكفي
** ** ** **
ومع أن (تفكيك) النص، يُفقده دهشته، إلاَّ أنَّ الحاجة إلى الإشارة إلى واسطة عقد الأبيات يقتضي الاستشهاد بتفكيك جمال اللُّحمة، مع يقيننا أنَّ الوردة لا يكتمل جمالها وأناقتها إلاَّ ببقائها على حالها: ببتلتها، وسداتها، وسبلتها، ووعائها.
فالقصيدة وحدة متكاملة، محكمة الارتباط والتلاحم، بنسيج لغوي شفاف ينقلك إلى عوالم الروح وصفاء الحياة. فتشعر بالمتعة والارتقاء، فتصل لفضاء الجمال والاطمئنان الداخلي، وانفتاح واسع سلس على عالم الوجد والروح، أمام قتامة شقاء الإنسان وصراعه من أجل الاستمرار والبقاء:
أُطَيّرُ في سماء العمر أغنيتي،
وأنتِ الناي والكلمات أمنيتي.
وأنتِ أنا..
أحبكِ،
أشعل الدنيا وتشعلني، وفيك تجنّ أزماني.
ولا أدري سواكِ دمي
ولا أدري سواكِ فمي
ولا أدري سواكِ العمر والتاريخ والأنغام والأحلام،
يا وعداً يعانقني فترقص رقصة الفيضان ألحاني.
تركتُ دمي على درجٍ من الأشجار..
هل تدرين كم أهواكِ
يا شمسي ويا همسي ويا دائي ويا حلمي ويا حبقي ويا شباك آلامي؟
وهل تدرين كيف أضيع في خطوات أغنيتي،
وبحة صوتيَ المجنون تصرخ
يا معذبتي
ويا أحلى ترانيمي
ويا ناري،
ويا زهراً يكوِّنُ كل ما في العمر من عمري،
ويا صمتي،
ويا صدقي،
ويا زلزال هذا العمر،
يا عيني،
ويا بصري،
ويا حبي،
ويا كلّ لغات الريح والأرواح،
يا زمناً،
ويا بحراً،
ويا لغةً،
أجنّ،
أموت،
أنتفض.
النهايات البدايات،
البدايات النهايات،
العيون،
اللفتة،
اللمسات،
لا أدري،
أحار،
تحار أشرعتي،
فضمي نصف ما في النصف من نصفي،
خذي قلبي،
شراييني،
حدودي،
قوتي،
ضعفي.
أعيديني إلى ذاتي،
ضعيني في كرياتي،
وردّيني إلى كفيك،
يكفيني إذا حطت على كفيك شطآني.
أحبكِ واللغات أنا.
لساني نغمتي،
حبري ضفاف الروح والريحان،
فابتدئي إذا جاعت حدود اللحن للأحلام من دقات شرياني.
أحبك والغرام أنا.
== == == == ==
فبخطوة غير مسبوقة في التميز، والانفتاح على عالم شعري لا مثيل له، يتتابع شدو (القصيدة الصوفية)، التي تُعتبر قصيدة القصائد، وقبلة الشعر، وأم الأدب، والدرجة الأعلى في رائق البوح وشفافيته، فنتساءل بتوق: هل ما زال ممكناً أن يكون هناك ميلادٌ ما، آخر، في مكان ما، وزمن ما آت، قصيدة مثل هَدْي (القصيدة الصوفية)، أم أنَّ الحالات الوجدانية، بنفس صيغها، لا تتكرر، إنما تتشابه بطرق التوجه وبداية الأحوال؟! فكثيرون كتبوا عن حالات الوجد وطرق الوجد، لكن بقيت لكل حالة مذاقها وفرادتها وطريقة تناولها. قال شاعرنا في لقاء معه: ومهما ساء الزمان تبقى هناك مساحة للصفاء والنقاء والوجد الجميل. وأحياناً تبحث في هذا العالم عن وجه يستطيع أن يحمل معك الصدق والنقاء والحب ولا بد أن تجده.. ففي البوح لا مكان للتصنع أو الافتعال، لأنه ببساطة لن يكون بوحاَ.
أجوعُ إليكِ يا مطراً يظللني ويسقيني ويأخذني..
ولا يكفي.
أسافر فيك من وعدٍ إلى وعدٍ وأنشر كل أشرعتي ولا يكفي.
يطلُّ العشقُ في عينيَّ مجنوناً، وآخذ جمرة الأشواق أتلوها على صدري، ولا يكفي.
ألمُّ حدائق الدنيا وأفرشها على كفيك آهاتٍ وأسرجُ كل ما في القلب من وجدٍ..
ولا يكفي.
أضمُّ النور أفردهُ على الطرقات تحت خطاكِ أرصفةً..
ولا يكفي.
متى أعطيك ما يرضي حدود النبض في قلبي ويسبق كل ما في الوصف من وصف؟ وآخذ من دمي جسراً وأنسى فيك ذاكرتي ونسياني.
== == == == == ==
ولا شك أن رحابة الحياة، واتساعها، وفيوضاتها، أوسع من أن تُقيَّد بقوالب شعرية جاهزة مرصوفة، ولذلك كان شاعرنا حراً في أشكاله وأوزانه، وأكثر قصائده على وتيرة التفعيلة ونثراً موزوناً. وفي حوار معه قال: القصيدة مرت بمراحل: الشعر العمودي ثم التفعيلة ثم قصيدة النثر.
= فمن حيث الشكل ما زلنا ندور ضمن هذه المصطلحات أو التعريفات الثلاث.
أمَّا الحداثة، أو ما بعد الحداثة، فهي كلمات ضبابية استوردها الشارع الثقافي وراح يدور حولها.. فكل ما يعايش العصر ويداخله ويداخل موضوعاته هو مع الحداثة، وكل ما يخالف العصر يخالف الحداثة.
والشعر العربي، في عمومه، حائرٌ بين التقليد للقديم والوقوف على عتباته ـ أقصد الموضوع لا الشكل ـ، أو التماشي مع العصر بموضوعاته. فالمشكلة، أحياناً، تكون في الجمود الشكلي إن كان في العمودي أو التفعيلة أو قصيدة النثر.
وهناك عيب خطير يصيب الذين يكتبون قصيدة النثر في أنهم يستنسخون الشعر الأجنبي أو "يسرقونه" بكل ما فيه - ولا أعمم طبعاً -. وحتى شعراء التفعيلة في الكثير من الحالات تحجروا أمام شكل ومضمون منجزين وداروا في إطارهما، فما عادوا يمتون للحداثة بصلة. فأنا ضد الركون إلى الإطار المنجز بأي شكل كان. ويبقى الشعر سيد القول حين يكون الشاعر مالكاً لأدواته وواثقاً من ذاته الشاعرة تلك الثقة القائمة على أساس متين وليس على فراغ.. وباعتقادي أن من يكتب الشعر يكون قادراً على كتابة أي من أجناس الأدب. لك ببساطة أن تنظر إلى نثر محمود درويش ونزار قباني وتدهش في القدرة على التحليق والجمال في النص.
وقال: أنا لا أستطيع أن أتصنع، والحب عندي مثل الهواء.. لا أستطيع أن أعيش دون حب.. لكن عليك أن تأخذ كلمة حب بخصبها وامتدادها وتعدد أبعادها.. لست مع الحب الذي تضيق مسافاته كأنك تختنق في غرفة مغلقة.. أحب الأنثى.. الناس.. الوجود.. الأصدقاء.. حتى أنني أحب أصغر زهرة في أي حديقة.
** ** ** **
وإذا تساءلنا: هل استطاع شاعرنا تجاوز (القصيدة الصوفية)، أم بقي رهين تأثيرها وطغيانها؟
قيل: لم يستطع تجاوز القصيدة، وبقي يدندن على تخومها.
وقيل: إنه تماثل منها، أو جاراها، وواكبها ومشى في مضمارها. ولم يقل أحد إنه استطاع أن يتجاوزها في تجربة السطر الواحد الفريدة.
ولا شك أنّ قراءة قصيدة من هذا النمط متعب، لكنه ممتع، في غاية الامتاع.
â—ڈ الإنسان الشاعر (الحصان الأصيل بعيني ثاقب نسر)، فارسٌ جواده الحروف
وهدب العين، طلعت سقيرق، الراحل الباقي: أصوله من حيفا، ينتمون لأسرة عريقة من أقدم العائلات في فلسطين، فجده الأكبر لأبيه «سُقَيْرِقْ» من «سقر» في العربية وكل اللغات السامية: اسم كنعاني / فينيقي، يعني خازن النار أو الكاهن الأكبر. فامتداد هذه العائلة في فلسطين وبلاد الشام يعود لآلاف السنين قبل الميلاد، ولها آثار معابد كنعانية فلسطينية في كل بلاد الشام تدل عليهم. ووالدته من آل الخطيب الرفاعي الصياد الحسيني الهاشمي، أجدادها تولوا نقابة الأشراف في حيفا ولقبوا بالخطيب، وجدهم الشيخ سليمان من سلالة زين الدين بن الحسين بن علي والسيدة فاطمة رضي الله عنهم.
وُلد في طرابلس لبنان سنة 1953، وتوفي رحمه الله في دمشق سنة 2011 عن ثمان وخمسين سنة. وشطر طفولته كان في دمشق، فيها تلقى علومه حتى نهاية الثانوية، ثم درس في جامعة دمشق وحاز على الإجازة في الأدب العربي عام 1979.
وهو يُعَدُّ من أبرز رجالات الجيل الثاني من شعراء المقاومة، ومن أهم الأدباء الفلسطينيين الذين قدموا للوطن والمقاومة جل اهتمامهم وفيض كلمات إبداعهم، ولم يبخلوا يوماً عن غرس القيم الإنسانية والوجدانية الفلسطينية في كل ما كتبوه. ففلسطين الأرض والإنسان والقضية كانت محور كل كتاباته شعراً ونثراً.
وتوزعت كتاباته بين الشعر والقصة والرواية، والقصة القصيرة جداً، والنقد الأدبي، والمسرحية ذات الفصل الواحد (قُدّم بعضها على خشبات المسرح)، كما كتب الأغنية الفلسطينية الشعبية (المعبأة برائحة الجذور وعمقها: فحكت عن الهم الوطني والخيمة واللجوء، وغنتها فرق كثيرة، وقدمت في الإذاعة والتلفزيون في عدة دول عربية). كما كتب في الكثير من الصحف والمجلات العربية.
وكان الوطن ومفرداته مسكوناً دوماً بقصائده التي تحاول تقديم مناخات خاصة به تحمل بصمته وتوقيعه. فهو شاعرٌ أولاً، وكثيراً ما كان يردد على مسامع أصحابه ومحبيه: «الشعر أولاً ثم أولاً.. أعتبر الشعر حاجة طبيعية للإنسان.. الشعر ضرورة وليس ترفاً».
** ** ** ** **
عمل في الصحافة منذ العام 1976، حتى وفاته 2011.
وكان المسؤول الثقافي في مجلة صوت فلسطين منذ العام 1979.
ومستشار تحرير ومدير مكتب سورية ولبنان لجريدة شبابيك الأسبوعية التي تصدر في مالطا منذ العام 1997.
ومدير دار (المقدسية) للطباعة والنشر والتوزيع في سوريا.
ورئيس رابطة المسبار للإبداع العربي التي تأسست سنة 1999، وصاحب دار المسبار للطباعة والنشر والتوزيع، وصاحب ورئيس تحرير مجلة المسبار.
ومدير رابطة المبدعين العرب.
وعضو اتحاد الكتاب العرب والصحفيين الفلسطينيين.
وعضو اتحاد الصحفيين في سورية.
وعضو اتحاد الكتاب العرب.
وعضو رابطة الأدب الحديث بمصر.
وفي سنة 2001 منحته وزارة الثقافة في سوريا جائزة (تحية لأطفال الانتفاضة).
â—ڈ ومن أعماله:
لحن على أوتار الهوى، شعر، 1974، وكان في العشرين من العمر.
في أجمل عام، شعر، 1975.
أحلى فصول العشق، شعر، 1976.
سفر، قصيدة، 1977.
أشباح في ذاكرة غائمة، رواية، 1979.
لوحة أولى للحب، شعر، 1980.
أحاديث الولد مسعود، رواية 1984.
هذا الفلسطيني فاشهد، شعر، 1986.
الخيمة، قصص قصيرة جداً، 1987.
السكين، قصص قصيرة جداً، 1987.
أنت الفلسطيني أنت، شعر، 1987.
الإسلام ومكارم الأخلاق، دراسة، 1990.
الإسلام دين العمل، دراسة، 1991.
أغنيات فلسطينية، شعر محكي، 1993.
قمر على قيثارتي، شعر، 1993.
الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني اتحاد الكتاب العرب، دراسة، 1993.
عشرون قمراً للوطن، دراسة، دار النمير دمشق 1996.
الأشرعة، قصص قصيرة، اتحاد الكتاب العرب بدمشق 1996.
احتمالات، قصص، اتحاد الكتاب العرب 1998.
طائر الليلك المستحيل، شعر، دار الفرقد دمشق 1998.
دليل كتاب فلسطين دار الفرقد دمشق 1998.
القصيدة الصوفية، شعر، 1999.
زمن البوح الجميل، نصوص، مشترك مع ليلى مقدسي 1999.
الانتفاضة في شعر الوطن المحتل، دراسة، دار الجليل 1999.
ديوان "خذي دحرجات الغيوم" عام 2003 عن وزارة الثقافة في سوريا.
وآخر ديوان كتبه: «نقوش على جدران العمر» ط، دار المسبار للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق 2008.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|