25 / 08 / 2022, 45 : 09 PM
|
رقم المشاركة : [18]
|
مشرفة / ماستر أدب عربي. أستادة لغة عربية / مهتمة بالنص الأدبي
|
رد: مذكرات طفولية
+عيون القلب +:
كنت أحاول دائما أن أكون بالثانوية قبل بداية الحصة بعشر دقائق على الأقل، وأحيانا قبل الحصة بنصف ساعة، وأظل أطرق ذلك الباب الحديدي ، ثم أدقه بالمفاتيح التي معي حتى أجد أذنا تسمع ليفتح لي صاحبها، ذلك أن بُعد المؤسسة كان يجعلني أخرج من البيت في وقت مبكر جدا، حتى أصل وآخذ نفسا جميلا استعدادا لبداية العمل، لم يكن هذا النفَس الذي آخذه إلا قراءة كلمات للأحباب على موقع نور الأدب، أو وضع بصمة جديدة بحروفي، أو تصفح وريقات الهاتف من فايس وواتس أو البحث عن شيء ما بالعم كوكل، وأحيانا بعض الظروف في البيت قد تمنعني من الإطلالة على درس من الدروس التي سأقدمها ، لذلك إن بدا لي أن الدرس يستحق تركيزا وضعت كل شيء وركزت عليه قبل بداية الحصة، وإذا كنت سأمر سريعا عليه ، شغلت أغنية على هاتفي أو أغنيات متسلسلة بصوت ضعيف نوعا ما ، ليس بالضرورة أن تكون الأغنية هادئة فقد أشغل عيساوة أو الحضرة الشفشاونية أو مجموعة من الأمداح، كما يمكن أن أسمع لمحمد الحياني، عبد الصادق شقارة مارسيل ، فيروز أو Julio iglesias..... لكني بذاك المساء كنت ربما أقرأ أصابع لوليتا لواسيني ، فتذكرت سربروس الذي في بابل، وقلت علي أن أعود إليه لعلي أقطف حقلا من ألغام سربروس وحقول تموز وعشتار وحياة بابل الخصبة، وبما أنها لم تكن إلا الحصة الثانية فتحت هاتفي على الأغنية صاحبة الحظ، التي كنت أسمعها كثيرا في تلك الفترة..
الساعة تشير للثانية وخمس وثلاثين دقيقة، لم يحضر من التلاميذ إلا أقل من الربع، إضراب الحراس العامين والمدير كان مُسْهِما بشكل كبير في تحرر التلاميذ من قيود الحضور والغياب، ناهيك عن ظروف جل المتعلمين بذاك القسم التي أحطت بأغلبها..
حسنا ، مازلت سأنتظر خمس دقائق أخرى قبل بداية الدرس، وفي وقت الانتظار أخذت القلم اللبدي الخاص بتلك السبورة البيضاء العجيبة، وبدأت أخط التاريخ عليها بكل هدوء ، إذ أخشى أن أكتب بدل " الثلاثاء": "وانا رمشي ما ذاق النوم وهو عيونه تشبع نوم .... روح يا نوم من عين حبيبي روح يا نوم.. " وبينما أنتظر همس الأغنية بالمقطع الذي أحبه مترنمة بالكلمات والموسيقى ، وعزف بخواطري يغني مع عيون القلب:
"انت تقول وتمشي وانا اسهر منامشي .... ياللى مبتسهرشي ليلة ياحبيبي" كنت أكتب عنوان الدرس وإذا بي أسمع طرقا بالباب، لم ألتفت؛ اكتفيت بأن أشرت بيدي للواقف بالباب أسمح له بالدخول معتقدة أنهم بعض تلامذتي المتأخرين لكن أصوات التلاميذ الحاضرين باغتتني مرددة: " أستاذة؛ إنه السيد الناظر مع رجل آخر" حينها ابتسمت للسبورة، وصوت الأغنية زاد وهجا بمسمعي، وعدت أنظر ناحية الباب. " يا إلهي! من هذا الرجل الآخر؟!!!!! إني أعرفه، والتقيت به من قبل .. إنه السيد المفتش _ المراقب التربوي_ ، و كمن يريد عبور الشارع من رصيف إلى آخر التفت يمنة إلى المكتب حيث هاتفي يغني ويسرة إلى الباب حيث يقف السيد الناظر والسيد المفتش؛ هل أذهب لهاتفي؟ ماذا سيقولان هذان المبتسمان أمام وجهي؟! قلة أدب أن أتجه نحو المكتب أولا ، إذن؛ ابتسمت كذلك وتلاقت الابتسامات، إلا أن ابتسامتي أنا كانت مختلفة لو كنت رأيتها بالمرآة حينها لكنت ضحكت كثيرا من حالي، وما إن وقفت أمامهما وتبادلنا التحيات، حتى ظل خاطري يردد بعض الأدعية..
كانت كلمات السيد الناظر الطيبة في حقي تمتزج بصوت الأغنية التي ضجت بأذني، خاصة أنه أخبره بأسف عن عودتي بداية الموسم المقبل إلى الثانوية من حيث أتيت، قاطع المفتش مديحه ليخبره مؤكدا أنه يعرفني، ثم يصدمني بقوله : " لا لا ما عندها فين تمشي خاصها تبقى معنا ... إنها شاعرة وأديبة مميزة" الله أكبر ! أتعرف أني شاعرة وأنا لا أعرف... لم أكن قد أظهرت حرفا شعريا، فمن أين جاءني بهذه الصفة؟ حتى يوم كنت بمركز تكوين الأساتذة، وألقيت أمام نخبة من الأساتذة معارضة إبراهيم طوقان لأحمد شوقي "
شوقي يقول وما درى بمصيبتي .... قم للمعلم وفه التبجيلا"
لا أذكر أنه كان من الحاضرين؛ وعندما كنت أحضر بعض حصصه الأسبوعية ، كنت أسارع للوصول إلى كرسي لا يراني منه بشكل جيد حتى إذا بدأ حديثه عن النظريات التربوية والتعليمية التعلمية وما يقاربها من ملل بعيد عن التطبيق نمت ، أو في أحسن الأحوال رسمت بعض الخربشات ؛ ومازالا يرمياني بورد كلماتهما وأنا لا أملك إلا " هيهيهيهيهي" ، وفكري يقول لهما : " ماذا لو تقدمتما خطوة إلى الأمام وسمعتما عيون القلب؟! _ أهي ذي هي إنت تقول وتمشي وانا اسهر مانامشي؛ اللي كنت منتظراها ... آه ياني" ،ومع هذا كنت أقف حينها كجوليا بطرس وهي تصدح بصوتها: " على ما يبدو دمو خفيف..على ما يبدو شكلو ظريف ...وجوّ لطيف .. وحكيو طريف... ومنو سخيف ...على ما يبدو..
على ما يبدو طبعو كريم ...وفكرو سليم.. وصوتو رخيم..... " . في الوقت الذي كنا نتحدث بالباب، دخل التلاميذ المتأخرون، لأرحب بعدها بالمفتش، فيدخل القاعة، أحاول أن أسرع ناحية مكتبي لأخرس هاتفي، وإذا بي أجده قد أحس بي وسكت لا أدري متى سكت ...
بدأت حصتي، شرعت في عملي ، ونسيت دائي حين جاء دوائي ، أقصد نسيت أن المفتش معي ما دام هاتفي الوفي المطيع معي.. عشت وقتا طيبا ونشاطا ممتعا مع تلامذتي ، عكر صفوه نوعا ما حضور هذا الرجل الذي يريد كتلة من الوثائق وأنا ليس معي إلا دفتر النصوص الذي لم يمسه الحبر منذ أشهر ، ومع ذلك وضعته أمامه وعدت أتابع درسي متجاهلة نظراته التي لابد أنها كانت معاتبة على إهمال الوثائق ....
لم يتبق على نهاية الحصة إلا بضع دقائق عندما وقف المفتش أمام التلاميذ موجها إليهم سؤالا ثم آخر، لأجلس أنا مكانه، ويتابع أسئلته ما تبقى من الوقت، كنت أغالب دمعات الفرح وأنا أرى جل الأصابع ترتفع ، والكل يتهافت ويتسابق ليجيب عن السؤال أو الأسئلة وإن كنا قد رأينا جواب بعضها بأوائل الحصص الدراسية، حقا كنت أشعر بروحي تحلق كفراشة أو نحلة بالفضاء، فهذا أيمن يقول وقد قاطعه المفتش ليوجه سؤالا لشخص آخر:
" اسمح لي أستاذ أن أكمل كلامي فأنا لم أنه بعد كل ما كنت أريد أن أقول" وهذه سماح تؤكد أني علمتهم كذا وكذا وكذا، حتى زهير الكثير الصمت فاجأني يومها بمشاركته وأجوبته المتألقة ..
انتهت الحصة بأزهار كلمات أهداها المفتش لنا _ أنا وتلامذتي الذين كانوا حينها هم عيون القلب ..._
وأنا أهم بالخروج من القاعة وقفت سماح أمامي:
* أعتذر منك أستاذتي إذ لمست هاتفك، فأنا عندما خشيت أن يدخل الناظر والمفتش إلى القسم، قمت إلى مكتبك وأوقفت تشغيل الأغنية...
_ بل شكرا لك سماح ...
تلقيت منهم أسئلة يطمئنون من خلالها أني فرحة بهم وراضية عليهم... وقد كنت راضية جدا ،كانوا هم أجمل وأرق من عيون قلب نجاة الصغيرة..
[الحمد لله والفضل لله وأفضل عين كانت معنا عين الله الراعية الحافظة ...
*وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبكَ فَإِنكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّك حِينَ تَقُوم*
صدق الله الكريم الحفيظ العظيم
|
|
|
|