الموضوع: رياض الأنس
عرض مشاركة واحدة
قديم 26 / 08 / 2022, 51 : 10 PM   رقم المشاركة : [1143]
خولة السعيد
مشرفة / ماستر أدب عربي. أستادة لغة عربية / مهتمة بالنص الأدبي


 الصورة الرمزية خولة السعيد
 





خولة السعيد will become famous soon enough

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رد: رياض الأنس

مما جاء في كتاب الإمتاع والمؤانسة ، إذ كنت وعدت في يومياتي أني سأنقل منه شيئا، وها أنا أفعل؛ من الليلة السادسة أقتطف لكم ما يلي على لسان كاتب النص " أبو حيان التوحيدي" :
"ثم حضرته ليلة أخرى فأول ما فاتح به المجلس أن قال: أتفضّل العرب على العجم أم العجم على العرب؟

قلت: الأمم عند العلماء أربع: الروم، والعرب، وفارس، والهند، وثلاث من هؤلاء عجم، وصعب أن يقال: العرب وحدها أفضل من هؤلاء الثلاثة، مع جوامع ما لها، وتفاريق ما عندها.

قال: إنّما أريد بهذا الفرس.

فقلت: قبل أن أحكم بشيء من تلقاء نفسي، أروي كلاما لابن المقفّع، وهو أصيل في الفرس عريق في العجم، مفضّل بين أهل الفضل، وهو صاحب (اليتيمة) القائل: تركت أصحاب الرسائل بعد هذا الكتاب في ضحضاح من الكلام.

قال: هات على بركة الله وعونه.

قلت: قال شبيب بن شبّة: إنّا لوقوف في عرصة المربد- وهو موقف الأشراف ومجتمع الناس وقد حضر أعيان المصر- إذ طلع ابن المقفّع، فما فينا أحد إلّا هشّ له، وارتاح إلى مساءلته، وسررنا بطلعته، فقال: ما يقفكم على متون دوابّكم في هذا الموضع؟ فو الله لو بعث الخليفة إلى أهل الأرض يبتغي مثلكم ما أصاب أحدا سواكم، فهل لكم في دار ابن برثن في ظلّ ممدود، وواقية من الشمس، واستقبال من الشّمال، وترويح للدّوابّ والغلمان، ونتمهّد الأرض فإنّها خير بساط وأوطؤه، ويسمع بعضنا من بعض فهو أمدّ للمجلس، وأدرّ للحديث. فسارعنا إلى ذلك، ونزلنا عن دوابنا في دار ابن برثن نتنسّم الشّمال، إذ أقبل علينا ابن المقفّع، فقال: أيّ الأمم أعقل؟ فظننا أنه يريد الفرس، فقلنا: فارس أعقل الأمم، نقصد مقاربته، ونتوخّى مصانعته. فقال: كلّا، ليس ذلك لها ولا فيها، هم قوم علّموا فتعلّموا، ومثّل لهم فامتثلوا واقتدوا وبدئوا بأمر فصاروا إلى اتّباعه، ليس لهم استنباط ولا استخراج. فقلنا له: الرّوم. فقال: ليس ذلك عندها، بل لهم أبدان وثيقة وهم أصحاب بناء وهندسة، لا يعرفون سواهما، ولا يحسنون غيرهما. قلنا: فالصّين. قال: أصحاب أثاث وصنعة، لا فكر لها ولا رويّة.

قلنا: فالتّرك. قال: سباع للهراش. قلنا: فالهند. قال: أصحاب وهم ومخرقة وشعبذة وحيلة. قلنا: فالزّنج. قال: بهائم هاملة. فرددنا الأمر إليه. قال: العرب. فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض، فغاظه ذلك منّا، وامتقع لونه، ثم قال: كأنّكم تظنّون فيّ مقاربتكم، فو الله لوددت أنّ الأمر ليس لكم ولا فيكم ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب، ولكن لا أدعكم حتى أبيّن لكم لم قلت ذلك، لأخرج من ظنّة المداراة، وتوهّم المصانعة، إن العرب ليس لها أول تؤمّه ولا كتاب يدلّها، أهل بلد قفر، ووحشة من الإنس، احتاج كلّ واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله، وعلموا أنّ معاشهم من نبات الأرض فوسموا كلّ شيء بسمته، ونسبوه إلى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه، وأوقاته وأزمنته، وما يصلح منه في الشاة والبعير، ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعيا وصيفيا، وقيظيا وشتويا، ثم علموا أنّ شربهم من السماء، فوضعوا لذلك الأنواء، وعرفوا تغيّر الزمان فجعلوا له منازله من السنة، واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض، فجعلوا نجوم السماء أدلّة على أطراف الأرض وأقطارها، فسلكوا بها البلاد، وجعلوا بينهم شيئا ينتهون به عن المنكر، ويرغّبهم في الجميل، ويتجنّبون به الدناءة ويحضّهم على المكارم، حتى إنّ الرجل منهم وهو في فجّ من الأرض يصف المكارم فما يبقي من نعتها شيئا، ويسرف في ذمّ المساوئ فلا يقصّر، ليس لهم كلام إلّا وهم يتحاضّون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد، كلّ واحد منهم يصيب ذلك بعقله، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلّمون ولا يتأدّبون، بل نحائز «1» مؤدّبة، وعقول عارفة، فلذلك قلت لكم: إنهم أعقل الأمم، لصحّة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم. هذا آخر الحديث، قال: ما أحسن ما قال ابن المقفّع! وما أحسن ما قصصته وما أتيت به! هات الآن ما عندك من مسموع ومستنبط.

فقلت: إن كان ما قال هذا الرجل البارع في أدبه المقدّم بعقله كافيا فالزيادة عليه فضل مستغنى عنه، وإعقابه بما هو مثله لا فائدة فيه.

فقال: حدّ الوصف في التزيين والتقبيح مختلف الدلائل على ما يعتقد صوابه وخطؤه، متباين، وهذه مسألة- أعني تفضيل أمّة على أمّة- من أمّهات ما تدارأ الناس عليه وتدافعو فيه، ولم يرجعوا منذ تناقلوا الكلام في هذا الباب إلى صلح متين واتفاق ظاهر.

فقلت: بالواجب ما وقع هذا، فإن الفارسيّ ليس في فطرته ولا عادته ولا منشئه أن يعترف بفضل العربيّ، ولا في جبلّة العربي وديدنه أن يقرّ بفضل الفارسيّ. وكذلك الهنديّ والروميّ والتركيّ والديلميّ، وبعد، فاعتبار الفضل والشرف موقوف على شيئين: أحدهما ما خص به قوم دون قوم في أيام النشأة بالاختيار للجيّد والرديء، والرأي الصائب والفائل، والنظر في الأوّل والآخر. وإذا وقف الأمر على هذا فلكلّ أمّة فضائل ورذائل ولكلّ قوم محاسن ومساو، ولكلّ طائفة من الناس في صناعتها وحلّها وعقدها كمال وتقصير، وهذا يقضي بأنّ الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق، مفضوضة بين كلّهم.

فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم، وللرّوم العلم والحكمة، وللهند الفكر والرويّة والخفّة والسّحر والأناة، وللتّرك الشجاعة والإقدام، وللزّنج الصبر والكدّ والفرح، وللعرب النّجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذّمام والخطابة والبيان. ثم إنّ هذه الفضائل المذكورة، في هذه الأمم المشهورة، ليست لكلّ واحد من أفرادها، بل هي الشائعة بينها، ثم في جملتها من هو عار من جميعها، وموسوم بأضدادها، يعني أنه لا تخلو الفرس من جاهل بالسياسة، خال من الأدب، داخل في الرّعاع والهمج، وكذلك العرب لا تخلو من جبان جاهل طيّاش بخيل عييّ وكذلك الهند والرّوم وغيرهم، فعلى هذا إذا قوبل أهل الفضل والكمال من الرّوم بأهل الفضل والكمال من الفرس، تلاقوا على صراط مستقيم، ولم يكن بينهم تفاوت إلّا في مقادير الفضل وحدود الكمال، وتلك لا تخصّ بل تلمّ. وكذلك إذا قوبل أهل النقص والرذيلة من أمّة بأهل النقص والخساسة من أمّة أخرى، تلاقوا على نهج واحد، ولم يقع بينهم تفاوت إلّا في الأقدار والحدود، وتلك لا يلتفت إليها، ولا يعار عليها، فقد بان بهذا الكشف أنّ الأمم كلّها تقاسمت الفضائل والنقائص باضطرار الفطرة، واختيار الفكرة. ولم يكن بعد ذلك إلّا ما يتنازعه الناس بينهم بالنسبة الترابيّة، والعادة المنشئيّة والهوى الغالب من النّفس الغضبيّة، والنّزاع الهائج من القوّة الشهويّة.

وها هنا شيء آخر، وهو أصل كبير لا يجوز أن يخلو كلامنا من الدلالة عليه والإيماء إليه، وهو أنّ كلّ أمّة لها زمان على ضدها، وهذا بيّن مكشوف إذا أرسلت وهمك في دولة يونان والإسكندر، لمّا غلب وساس وملك ورأس وفتق ورتق ورسم ودبّر وأمر، وحثّ وزجر، ومحا وسطّر، وفعل وأخبر، وكذلك إذا عطفت إلى حديث كسرى أنو شروان وجدت هذه الأحوال بأعيانها، وإن كانت في غلف غير غلف الأوّل، ومعارض غير معارض المتقدّم، ولهذا قال أبو مسلم صاحب الدولة حين قيل له: أي الناس وجدتهم أشجع؟ فقال: كل قوم في إقبال دولتهم شجعان. وقد صدق، وعلى هذا كلّ أمّة في مبدأ سعادتها أفضل وأنجد وأشجع وأمجد وأسخى وأجود وأخطب وأنطق وأرأى وأصدق، وهذا الاعتبار ينساق من شيء عامّ لجميع الأمم، إلى شيء شامل لأمّة أمة إلى شيء حاو لطائفة، إلى شيء غالب على قبيلة قبيلة إلى شيء معتاد في بيت بيت، إلى شيء خاصّ بشخص شخص وإنسان إنسان، وهذا التحوّل من أمّة إلى أمّة، يشير إلى فيض جود الله تعالى على جميع بريّته وخليقته بحسب استجابتهم لقبوله، واستعدادهم على تطاول الدهر في نيل ذلك من فضله ومن رقي إلى هذه الرّبوة بعين لا قذىّ بها، أبصر الحقّ عيانا بلا مرية، وأخبر عنه بلا فرية، ومتى صدق نظرك في مبادئ الأحوال وأوائل الأمور وضح لك هذا كلّه كالنهار إذا متع ، واستنار كالقمر إذا طلع، ولم يبق حينئذ ريب في عرفان الحقّ وحصول الصواب، إلّا ما يلتاث بالهوى، ويسمج بالتعصّب، ويجلب اللّجاج، ويخرج إلى المحك ، فهناك يطيح المعنى ويضلّ المراد.
"
خولة السعيد غير متصل   رد مع اقتباس