إنما الفقد أنواع
إنما الفقد أنواع
ارتدت جلبابها، وضعت الشال على رأسها، انتعلت حذاءها، فتحت باب البيت ثم أوصدته وهي تهم بالخروج، وقفت تغلق بالمزلاج، نظرت إلى القفل، ترددت؛ هل تخرج؟ هل تبقى؟ الواجب يفرض عليها الذهاب، لكنه ليس واجبا.
كان كذلك قبل سنتين، أما الآن فقد تغير الوضع. حاولت ألا تطاوع ترددها وتذهب، فكرت أنها ستنال الأجر بذهابها،
فكرت بابنها الذي سيقدر لها موقفها ويحترمها أكثر، ثم انتقل تفكيرها إلى الناس؛ ماذا سيقولون؟ كيف سيفكرون؟ تبا للناس.. تبا لهؤلاء الذين لا تكف نظراتهم عن الإساءة، الأكيد أنهم سيقولون "إنها هكذا تسعى لأن تعود لتتزوج بطليقها، إنها هكذا تتودد إليه، لعلها تريد أن نفكر أنها طيبة، لعلها تظن أنها ستستحوذ عليه مجددا...". خواطرها انهالت عليها فجأة مرة واحدة، كل السلبيات صبت تترى عليها... عادت لتدخل البيت، وظلت تصرخ بأعلى صوتها، كأن كل صرخة تمحو فكرة جالت ضدها بخاطرها، كانت تقرأ عيون الناس قبل أن تراها، تفكر فيما يفكرون دون أن تلتقي بهم، صرخت.. دوى صراخها عاليا، وانفجرت دموعها شلالا.. كرامتها أعز عندها من رضاء ابنها، سيتفهم ابنها الأمر فيما بعد، ثم عدل تفكيرها عن الناس إلى كرامتها وابنها، ووجدت أن الناس قالوا، وقالوا، وقالوا.. وسببوا لها مشاكل كثيرة، ولكنهم مهما قالوا لن تسمح لكلماتهم وعيونهم بأن تضع فاصلا بينها وبين ابنها، وليقولوا ما شاؤوا، ولترى عيونهم ما ترى، ستقف بجانب ابنها وتكون معه وليشرب الناس البحر.
هدأت قليلا، وشربت ماء كثيرا، توضأت، صلت ركعتين، دعت الله، وبكت تضرعا، أحست بشيء من الطمأنينة، وجدت نفسها مقتنعة أخيرا بالذهاب لواجب العزاء، وأن ابنها بحاجة إليها، فخرجت من البيت كأنها بالكاد سمعت الخبر مهرولة، تريد اللحاق بالعزاء قبل أن تُؤخذ الفقيدة للمسجد للصلاة عليها. وتمكنت فعلا من الوصول في الوقت المناسب.. ازدحمت دموعها، كان صدرها ملتهبا بالذكريات، بالناس، بالفقد، بالألم، بالحسرة، بالندم وبالحزن.. فبكت كثيرا وأحست بالناس ينظرون اليها مجددا، يتأملون آلامها، ليقرأها كل منهم كما يحلو لعقله. وقفت كأنها ما تزال من أقرب الأقرباء، تلقت من الناس العزاء، بعضهم صدق حالها، وآخرون أنكروه بسخرية بدت عليهم، حاولت ألا تبالي بهم، جعلتها الأماكن والوجوه توقظ ذكريات كثيرة طالما سمحت لها بالرقود لتحيا حياتها في سلام.. سنتان مرتا كالحلم أو كالكابوس. كان بكاء الجميع لموت الفقيدة، وبكاؤها كان لفقد أشياء كثيرة، وإنما الفقد أنواع..
عرف طليقها أنها حاضرة تجلس مع أخواته وبعض قريباته، فراح إليها ليسلم عليها ويشكرها، لكنه ما إن رآها حتى ارتمى بحضنها باكيا، كما لم يره أحد من المعزين من قبل.. بلل كتفها بدموعه، شاركته البكاء؛ قال لها فجأة، والكلمات تتحشرج في حلقه من فرط إجهاشه بالبكاء:
"مشى قلبي يا قلبي، فرقني قلبي للمرة الثانية"
دخلت أسماعهما عبارات ترددت كالصدى "والله حتى مازال تيبغيها"،" عامين وتيقول لها قلبي". واستفاقا من حزنهما، وبدا أنهما تذكرا بداية المشاكل. تبا للناس ولألسنتهم! تبا للناس ولعيون الناس! أليس أول ما بدأ الخصام بينهما كان بسبب كلام الناس المزخرف بالابتسامات ومحبات زائفة؟ "إيوا هانت قبلت بك مع أنك موظف بسيط بشركة صغيرة، وهي وظيفتها يمكن أن تصرف على ثلاث أسر" وقتها أسرها في نفسه ولم يبدها لهم، لكنه سريعا ما بدا يغير من تصرفاته في البيت، متبعا بعض الناصحين " ماتخلهاش تحكم فيك وادير هي اللي بغات .. كون راجل"، صارت تتغير معاملته لها شيئا فشيئا، يأمرها بأشياء لم تعتدها منه، وأصبح الحزن يبدو على محياها خاصة بعدما ضربها مرة وهددها كثيرا، بعد أن كانت السعادة تملؤها. في قمة تعاستها صارت تتذكر كلاما سمعته منذ زمن " منين عرفتيه؟ انت احسن منو؟ فنة تبارك الله عليك، وبفلوسك تجيبي سيد سيدو". الآن صارت تتساءل "أكان عليها ألا تتزوجه؟" لقد تعبت من المشاكل التي لا تنتهي، قال لها مرة:
"أنت حاسة براسك، بلا قياس، تَتْكْبّْري عْلِيّا، عند بالك احسن مني، انت ما عمرك بغيتيني.." أدركت جيدا أن هذه ليست كلماته، فهي تعرف أنه يحكي لبعض أهله ما يحدث بينهما في البيت من خصام، أو حتى ما يدور بينهما من كلام أيام كان بينهما كلام، ولابد أن ما قاله هو هدية بعض الناصحين له. ملَّت، لم تعد ترد عليه، صارت تتخذ من الصمت والعناد وسيلة للبحث عن راحتها، صرخ "أنت لم تحبيني يوما"، وقفت أمامه بقوة وردت "نعم، أنا لا أحبك، ولا أعرف كيف تزوجتك، لم أستطع أبدا حبك.. إلى هنا وكفى!!". دخلت غرفتها كالهاربة من الفشل، أوصدت الباب بشدة، وأدارت المزلاج، فسمعت صوت باب البيت يرتج بحدة، حينها فقط ظهرت حقيقة القوة التي ادعتها أمامه، فبكت بصوت مرتفع.
لم يعد ليعتذر لها كما كان قبل زمن كلما حصل بينهما خلاف، بل إنه لم يعد.. الشخص الذي فتح الباب في وقت متأخر من الليل بدا شخصا آخر، حمل حقيبته وخرج، تاركا لها رسالة؛ "نلتقي بقضاء الأسرة، العيش معك صار مستحيلا".
وبعناد منها هذه المرة وافقته، ولم تسأله التراجع عن قراره الذي آلمهما جدا.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|