عرض مشاركة واحدة
قديم 10 / 01 / 2009, 10 : 02 AM   رقم المشاركة : [4]
احمد رجب شلتوت
كاتب نور أدبي

 الصورة الرمزية احمد رجب شلتوت
 




احمد رجب شلتوت is on a distinguished road

رواية معنى الوطن 4

( ص )

كانت ساحة سوق الباجور موحلة .
ركن " عنتر " السيارة إلى جوار مقهى .
جلست بينما ذهب هو ليشترى سندوتشات . لم أستطع ابتلاع لقمة واحدة ، فقط
شربت الشاى والاسبرين لأقاوم الصداع والبرد .
اقترب منا صاحب المقهى . أدرك إننا غرباء فجاء يسأل عن مقصدنا . سألناه
فقال:
- بالأمس كنت فى مصر ، الولد مرعى كان هو الموجود .
- ليتك تناده .
- هو ليس موجوداً الآن سيعود خلال ساعة .

جلسنا ننتظر عودة مرعى ، فتذكرت مرعى آخر كان زميلى فى الجامعة .

" كان يسكن الحجرة المجاورة لحجرتى فى المدينة الجامعية . دخلت حجرته فرأيت صورة جيفارا . سألنى إن كنت أسمع الشيخ إمام فأجبت بأنه ابن قريتى وطلبت أن يسمعنى جيفارا مات "
" نقر بأصابعه على المكتب عازفاً اللحن الجنائزى . بدا متأثراً وكأن جيفارا مات لتوه ".
ولما انتهت الأغنية عاد لحالته الطبيعية . سالنى :
هل قرأت هذا الكتاب ؟
كان يمسك بمائة عام من العزلة . أجبت بالنفى فنصحنى أن أقرأه . مددت يدى لآخذ الكتاب فرفض . طلب كتاباً مقابله حتى يضمن أن أرد له كتابه . غادرته لدقيقتين وعدت وفى يدى " الدون الهادئ " .

اعتدنا تبادل الكتب والشرائط . قرأنا معاً بابلو نيرودا وأمل دنقل وناظم حكمت .
سمعنا معاً فيروز ومارسيل خليفة وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وسيد درويش . عشقه لأمل دنقل جعله يُقلع عن كتابة الشعر . يقينه أن كل ما سيكتبه لن يساوى حرفا من شعر أمل .
وحينما شاركنا فتحى رضوان فى التظاهر احتجاجاً على اغتيال سليمان
خاطر جأر مرعى بقصيدة لا تصالح ،وأيها الواقفون على حافة المذبحة . هذه القصيدة كانت شعاره . يغنيها فى كل المواقف . حينما نقصد مطعم المدينة الجامعية ونجده مغلقاً كان ينشدها ضاحكاً .
يهتف :
المنازل أضرحة والزنازن أضرحة والمدن أضرحة .
ثم يرفع ملعقته قبل أن يكمل :
فارفعوا الأسلحة و اتبعونى .

وبعدما يفرغ من الطعام ينقر على الصينية الفارغة ويغنى لسيد درويش
" دنجى .. دنجى " ثم يغسل الملعقة ويعيدها إلى جيبه .
فى الطريق لحجرتينا يحدثنى عن حلمه بأن يكون مغنياً .

تخرج قبل منى بعام . زارنى أكثر من مرة فى العام الذى بقيته بعده فى الجامعة .
حينما أراه كنت أحن لسنوات ثلاثة قضيتها معه ومرت سريعاً .

كان يأتى لى ليبوح بعذاباته ويغنى .

ينتقل من " حبيتك بالصيف " إلى " بين ريتا و عيونى بندقية " .
يحكى عن " دنيا " التى لم تصن عهد الهوى ، وعن أخيه الذى عاد من العراق قتيلاً ، وعن شهور التجنيد التى لا تنتهى ويختم حديثه بلازمة
أبدية :
" مرت أزمنة الجد والفرح ، ولم يبق إلا التعاسة والشقاء . "
يرددها كثيراً قبل أن ينخرط فى الغناء أو الصمت المطبق "
أشعر بالحنين إليه ، أتذكر صوته العذب الشجى ، قهقهته وهو يحكى كثيراً عن
"مائة عام من العزلة " والفتاة التى طارت بواسطة ملاءات السرير ، يتمنى لو
يفعلها هو ودنيا . يطيران .

أتذكر أنى لم أكتب له رسالة واحدة طيلة السنوات التى مضت على تخرجى فى
الجامعة . هو أيضاً لم يرسل لى . كل الذين أحببتهم لم أزرهم ولم أراسلهم . هم
أيضاً لم يفعلوا بالرغم من تبادلنا للعناوين . فهل كنا حقاً أصدقاء ؟

سألت صاحب المقهى عن مرعى الآخر . كان يعرفه . أجاب :
- عمله ليس بعيداً عن هنا .
وصف لى مكان عمله فتركت عنتر يدخن الشيشة وذهبت إليه . تذكرنى فور
رؤيته لى . تعانقنا وبكينا . سألته عن " الكرش " الذى تضخم بشدة ، فقال :
- " معلق أنا على مشانق الصباح وجبهتى للمائدة محنية .
- مازلت تحفظ شعر أمل .
- المائدة من عندى .
ضحكنا . انتحى بى مكاناً قصياً فأدركت أنه بحاجة للبوح . استمعت إليه
فوجدت صوته فاقداً العذوبة التى كانت له . حكى عن أرملة أخيه رضوان . أصر
الأب أن يزوجه بها ليربى أولاد أخيه . وافق ليرضى الأب ويداوى شروخاً فى
القلب أحدثتها " دنيا " . لكن الشروخ اتسعت ، وتهاوى القلب فتسربت الروح .

ودع الأحلام القديمة . لم يبق منها إلا ذكريات باهتة . وحتى لا يستعيدها سألنى
عن سر الزيارة الغريبة . أجبته فرافقنى حتى المقهى . علمت من عنتر أن صبى
المقهى حضر . سألته عن أحداث الأمس ، فأخبرنى عن معركة شهدها السوق .

( ض )

فى المستشفى أفاد الطبيب بأن ثلاثة من مصابى المعركة عولجوا وخرجوا فى نفس
اليوم . لم يكن أحدهم يحمل اسم غريب أما الرابع فهو رجل فى الخمسين
جبسوا ساقه اليسرى المكسورة ، وأبقوه بالمستشفى . وبغلظة أخبر عن الخامس :
- اذهبوا لعم بدوى فى المشرحة ربما يكون القتيل هو من تبحثون عنه .
عند المشرحة بادرنا بدوى بالسؤال :
- رجل أم امرأة ؟
أجاب عنتر :
- شاب فى الثلاثين .
- أوصافه ؟
سألنى عنتر :
ماذا كان يلبس ؟
أجبت بانقباض :
- بنطلون جينز أزرق وسويتر جلد أسود ، وعلى الرأس والكتفين شال
أبيض .
أضاف عنتر :
- اسمه غريب أحمد منصور
قال بدوى :
- هذه الأوصاف تنطبق على جثة وردت بالأمس . لكن يبدو أن حافظة
نقوده سرقت فلم أعرف اسمه لكنه جاء بدون الشال الأبيض .
جزعت . غزتنى رغبة فى القىء .
أحسست وكأن روحى تتسرب مغادرة جسدى المنهك الذى تجمد مكانه . ولما أرانا
بدوى الجثة المنكفئة على وجهها قال عنتر :
- هو .. هو غريب .

صرخت ملتاعاً . قفزت معانقاً الجثة . انكفأت عليها . واصلت الصراخ . صرختي
كأنها حُملت بكل عذابات غريب و إحباطاته ، فخرجت وكأنها شوك ينزع من
أحشائى . ولما حاولت تقبيل الوجه شعرت بالشارب الكث . انتبهت . غريب لم
يكن ذا شارب . أدرت الوجه . لم يكن هو . وحينما ارتطمت بأرض المستشفى
سمعت صوتى يهتف :
- ليس هو .. ليس هو .

( ط )

مرعى وعنتر حملانى إلى التاكسى .
أصر مرعى على مرافقتنا حتى سوق أشمون .
أخبرنى عنتر عن اتصاله بأبى النمرس . قالوا له أن محمد اتصل مرتين من العياط
ومن الصف ولم يأت بخبر ، لم يبق له إلا أطفيح بينما بقيت لى أشمون .
طوال الطريق وعنتر يجتر ذكريات عن " أشمون جريس " ويصفها بأنها بلد
الخير .
- والله يا أستاذ مرعى أشمون جريس بلد كلها خير . وأهلها كرام .
وكل مرة تكون هذه الجملة افتتاحية لحكاية يسردها ، وكل حكاياته مرتبطة
بالمرحوم زوج خالته الذى كان يعمل بالجمعية الزراعية بأشمون .
كان عنتر طفلاً ، واعتادت أمه أن تصحبه كل صيف لزيارة شقيقتها .
- تصدق بايه يا أستاذ مرعى ؟
- بالله .
- والله ، الأرز المعمر الذى أكلته فى أشمون جريس رائحته لم تغادر
أنفى حتى الآن . يا سلام على رائحته . يا سلام على السمن البلدى " العايم على وش الطاجن " .
- خالتك كانت طباخة هائلة .
- لم تكن هى . كان الجيران ما أن يستشعروا وجودنا حتى يطرقوا باب
خالتى . واحدة تحمل حلة لبن ، وأخرى تأتى بالقشطة و الجبن
الحلوب وغيرها بالبيض وغيرها بالأرز المعمر . كانوا يعرفون أن
خالتى غريبة ، ويريدون عدم إشعارها بالغربة خاصة أثناء زيارتنا
لها .
***

فى مركز أشمون أشعل مرعى سيجارة لمساعد الشرطة . سحب الرجل نفساً ثم نفث
الدخان وقال :
- جاءنا بالأمس شابين قضيا ليلتهما بالحجز ، واليوم تم ترحيلهما
واحد إلى طنطا والآخر إلى بنها .
إذن لم يكن غريب أحدهما ، قصدنا المستشفى ولم نجد غريبا فعدنا نقطع الطريق
فى عكس الاتجاه .

( ظ )

عند مدخل أبو النمرس استوقفنا رجال الشرطة فتشونا واطلعوا على ما
يثبت هويتنا قبل أن يسمحوا لنا بالدخول .
عاودتنى الرغبة فى القئ لكننى حرصت على متابعة العداد كان الرقم ( 4800 ).
إذن كان عنتر يكذب حينما أعاد العداد إلى رقم البداية قبل ان نصل إلى بنها .
غلبنى القئ فغادرت التاكسى . أسندت رأسى إلى السور المحيط بترعة المنصورية
وأفرغت جوفى . ولما عدت وجدت العداد ثانية عند نقطة البداية جادلت عنتر
فأكد أننى لم أر جيداً لكونى متعب . أصر على أن العداد وصل إلى 60 جنيه .
فأعاده إلى البداية حتى لا يحترق .

كنت على يقين من كذبه لكنى استسلمت . عددت مائة وعشرين جنيهاً . مددت
يدى بالنقود فسألنى :
- كم ؟
- 120
- حسابى 150
- كيف ؟
- 120 العداد للبنزين والتاكسى أما تعبى فربعهم يعنى 30 جنيه زيادة.

بلغ استسلامى منتهاه . أضفت الثلاثين جنيهاً إلى ما فى يدى ، رفض عنتر أن
يلمسها . أقسم ألا تدخل جيبه قبل رجوع غريب .
توقيع احمد رجب شلتوت
 http/shaltout62.maktoobblog.com
shaltout_62@yahoo.com
احمد رجب شلتوت غير متصل   رد مع اقتباس