عرض مشاركة واحدة
قديم 10 / 01 / 2009, 12 : 02 AM   رقم المشاركة : [5]
احمد رجب شلتوت
كاتب نور أدبي

 الصورة الرمزية احمد رجب شلتوت
 




احمد رجب شلتوت is on a distinguished road

رواية معنى الوطن 5

( ع )

- " هل وجدته ؟ " .
عشرات الأفواه قذفتنى بالسؤال .
لم يره أحد يغادر التاكسى فكان من الطبيعى أن يعلموا بالإجابة دون حاجة
للسؤال ، لكنى أعذرهم . جميعهم تمنى لو يعود فكأنهم يسألوننى عن سر
الغياب . خاصة أن محمد عاد قبلى بساعتين فأصبحت " مناط أملهم " .
بدا البيت وأنه يشهد مأتماً ، الجيران والأقارب يملئون البيت . والذى ينصرف
يجئ غيره . الجميع يواسى ، ويرجو أن يطمئن ، ويحكى عن وقائع متشابهة .
كان الأب حزيناً ومرهقاً ، يدخن بشراهة رجوته أن يكف فنظر لى صامتاً ثم
سحب من سيجارته نفساً عميقاً .
من الداخل نادتنى أمى . رمتنى بنفس السؤال كانت تبكى والنسوة يواسينها ،
الجارة " بسيمة " كانت تبكى بحرقة وهى صامتة ، إلى جوارها تجلس " زينات"
التى كانت تتكلم كثيراً وتؤكد بثقة . وكأنها تعرف مكانه . على إنه سيعود فى
الغد . أكدت أن ابنها سرحان تعرض منذ شهرين لنفس الموقف . غاب يومين
وعاد فى الثالث . قالت لى الجدة أن أدع أمى وأصعد لأستريح . معى صعد محمد .
لاحظ حزنى و شرودى فحاول أن يسرى عنى :
- بسيمة كانت تبكى بحرقة .
- لاحظت ذلك .
ابتسم مضيفاً :
- يبدو أنها مازالت تحبه مع أنه قطع علاقته معها منذ سنة .
- كان الأمر مجرد نزوة .
- برأيك أيهما تنتظره بشوق أكثر بسيمة أم زينات ؟
وهل ترى الوقت مناسباً لهذه السخافة ؟

أدرك حدتى . خشى أن يرافقها اتهام بالشماتة أو على الأقل عدم الاهتمام بما
يحدث لأخيه . حاول نفى التهمة التى لم يوجهها له أحد .
- قلبى يحدثنى إنه لم يصب بمكروه .
- ولم غاب إذن ؟
- الشرطة . ابحث عن الشرطة .
- طوال اليوم وأنا أبحث .
- كل زملائه تعرضوا لمثل هذا الموقف . مؤكد إنه فى أحد المراكز أو
الأقسام التى مررنا بها . سيعود خلال يومين أو ثلاثة فلا تقلق .
كان موقناً من صحة كلامه ، فبدا وكأنه غير قلق . أعلم أن الشرطة تنشط للقبض
على الباعة الجائلين فى مثل هذه الأيام . يحمون منهم المستهلك والاقتصاد
القومى . لماذا لم يقرءوا هرناندو دى سوتو ؟ واستمعوا فقــــــــــط لمن وصفه أبى
بـ "ابن ...... " . أتمنى أن تصدق توقعات محمد . لكن ماذا لو لم تصدق ؟ .

ألزم الصمت فيغادرنى محمد . أتذكر تلميحاته عن بسيمة وزينات . دون أن أشعر
أو يقصد ألقى إلى بطوق نجاة ينتشلنى قليلاً من كربى .

بسيمة متزوجة من جارنا " فؤاد " الموظف بالإدارة الهندسية . هو المسئول عن
استخراج تراخيص المبانى . يكسب كثيراً من هذا العمل فالتراخيص لا تمنح إلا
لمن يدفع . لم يحتج لعمل آخر بعد الظهر أو فى المساء . يقضى بقية نهاره فى
لعب الكرة فى " النخل " ذلك الملعب الصغير خارج مدينتنا والمحاط بالنخيل من
كل جانب . يعلم مهارة " غريب " فى لعب الكرة فإن رآه يدعوه ليكون ضمن
فريقه . أصبحا صديقين رغم فارق السن . حتى السهرات يقضيانها معاً . وغالباً
فى بيت فؤاد . بسيمة تسهر معهما ، تعد الشاى على موقد السبرتو ، وهم
يقضون الأمسيات الصيفية على سطح البيت . ويستمعون إلى أم كلثوم عبر الكاسيت
ويتسلون بقزقزة اللب والفول السودانى وإطلاق النكات .

بسيمة تقوم كثيراً لتلقى نظرة على الأطفال النائمين أو لتبعد قطاً يحوم حول
حظيرة أفراخها .ومع كل قيام وقعود يتابعها غريب بتركيز شديد فثوبها المنزلى
يكشف عند كل قيام وقعود عن مساحات من فخذيها البضين . أما إذ بكى الصغير
مراد فهى تلقمه ثديها . ساعتها يتمنى غريب ألا يشبع الطفل .
فى الصيف الماضى أصيب فؤاد أثناء لعب الكرة ، فقد عرقله أحد منافسيه فارتطم
بالأرض .
شعر بآلام حارقة فى ساقه . قام غاضباً يتوعد من أوقعه . زادت الآلام ولم يستطع
الخطو . سقط ثانية فارتطمت رأسه بجذع نخلة وفقد الوعى .
فى المستشفى بكت بسيمة وأصرت على أن تبيت مع زوجها لكن الزوج رفض
طمأنته بأنها أرسلت العيال ليبيتوا مع أمها ولم يبق معها إلا الرضيع . ذكرها
الزوج بأنه سيقضى ليلة فى عنبر الرجال فأثناها عن عزمها .

اصطحبها غريب الذى كان آخر المغادرين من زوار فؤاد . رآه محمد يحمل عنها
الطفل ويدخل معها البيت . ورآه يخرج من عندها بعد ثلاث ساعات . ارتاب فى
الأمر وحاصر غريب طويلاً فاعترف ليتخلص من إلحاحه . لم يقل إلا جملة
واحدة :
" الشيطان ضحك علينا "

***
لم يره محمد وهو يتسلل داخلاً بيت زينات ، لكنه هو الذى حكى .
كان عائداً من أحد الأسواق بعد العصر ، والكرتونة كما هى ، لم تنقص شيئاً .
زينات أفسحت له مكاناً إلى جوارها فى السيارة الميكروباص . سألته .
- لماذا لم تسافر مع ابنى سرحان ؟
- لا أحب شغل المحافظات
- لكنه أفضل من الشغل هنا ، فسرحان يغيب شهراً أو شهر ونصف
ويعود مجبور الخاطر ، غير راحة من البلدية والشرطة والرجوع
بالكرتونة كما هى .
- أنا لا أحب الغربة ، وهنا مثل هناك .
عند آخر الخط غادروا الميكروباص وهو لم يزل يستشعر الدفء المنبعث من
فخذها.
سارا خطوات معاً فأخبرته بأن سرحان المسافر منذ أسبوعين أوحشها ، وأن زميلاً
له سيمر عليها ليحمل رسالة إليه ، وطلبت من غريب أن يكتب لها الرسالة .
فسار معها صوب بيتها وسمع حكايتها عن بوار سلعتها ، فالعرائس الآن يذهبن
للكوافير ولا يأتين لها ، وسرحان يظن أنها تكسب كثيراً ولا يرسل لها مالاً .
بالقرب من الباب وضع غريب الكرتونة ، جلس على الكنبة وغادرته لدقائق .
عادت ومعها قلم وكراسة . جلست إلى جوار غريب لتملى عليه الرسالة . تحدثت
عن أشواقها للابن المسافر وبكت مشيحة بوجهها عن غريب .
ربت على كتفها فاقتربت - بظهرها - منه ، ولم تكف عن البكاء . أراح يسراه
على كتفها الأيمن وهى لم تكف . هبطت يسراه قليلاً ثم تسللت عبر الإبط إلــــى
الثدى . قبض عليه بشدة فتأوهت وهى تبكى . أمسكت يمناه بالثدى الآخر فكفت
عن البكاء ، وعادت تنظر إليه . قبل شفتيها فأغمضت عينيها . ولما أطال المداعبة
حذرته من الإبطاء فقد يأتى زميل سرحان ليتسلم الرسالة وتضيع الفرصة .

ليلتها لم ينم محمد قبل أن يحكى لى . قال إن غريب سيضيع ولابد أن نفعل شيئاً
لإنقاذه .
واجهت غريب فلم ينكر . حاولت القيام بدور الأب الناصح فلم أفلح . قال لى :
- لا تلمنى . لو كنت مكانى هل كنت تستطيع الرفض .
- وبسيمة ؟
- كانت غلطة .
- غلطاتك كثيرة .
- ماذا أفعل وأنا فى الثلاثين ، بلا عمل ، وبلا أمل فى الزواج أو فى أى شئ ؟
- وهل الزنا هو الحل ؟
- ليس حلاً ، لكننى أريد أن أنسى قليلاً ما بى .
- كأنك تعتبره مخدراً .
- أعتبره كذلك المهم إنه ينسينى متاعبى ومشاكلى ولو للحظات قليلة .
جادلت طويلاً فلم تبد عليه نية فى التراجع .
اضطررت لإجباره على القسم . وضع المصحف على عينيه وأقسم ألا يعود لمثل
ذلك .

فى الأيام التالية كان يتجنب رؤيتى .
لا أدرى إن كان خجلاً بعدما عرفت سره أم ندماً بعدما اقتنع بخطئه ؟ أم ضيقاً بى
لأن إلحاحي دفعه لقسم لن يحنث به ؟

لم أشك لحظة فى التزامه بالقسم . لكن عاودنى الشعور بالعجز وأنا غير قادر
على مساعدته بأى شئ للخروج من أزمته ووقف هجمة الشحوب عليه .
نفس الشعور بالعجز انتابنى بعد عودته من السعودية بناء على نصيحتى أيضاً
فقررت ألا أنصحه بعد اليوم وألا أدعوه لفعل شئ أو أنهاه عن فعل شئ .
وأقنعت نفسى بألا أستمرئ دور العاقل الناصح فأنا أحوج للنصيحة وأعجز عن أن
أفعل شيئاً لنفسى أو لغيرى .
توقيع احمد رجب شلتوت
 http/shaltout62.maktoobblog.com
shaltout_62@yahoo.com
احمد رجب شلتوت غير متصل   رد مع اقتباس