أحضروا له توفيق مكبّلاً بالأصفاد، كانت الدموع تملأ عينيه، وكانوا قد نزعزا عن كتفه رتبته العسكرية، إمعاناً في الإهانة. حدّق الجنرال في وجه حفيده توفيق طويلاً، ثمّ نظر الى الجرح الغائر والدامي في ركبته. أدرك على الفور بأنّه أمام جدلية صعبة للغاية. حفيده هرب من ساحة القتال ورمى ركبته بالرصاص حتّى لا يعود قادراً على حمل السلاح مجدّداً.
أمر الجنرال الجميع بمغادرة المكان، ثمّ وضع يده على كتفه.
- لماذا فعلتها يا توفيق .. عائلتنا مشهورة بالجرأة والتضحية، لقد قدّمنا الكثير من أجل هذا الوطن.
- ألا يكفي بأنّ والدي وقع شهيداً هو الآخر .. يا جدّي ..
عندها صفعه الجنرال بشدّة على وجهه وصاح
- سيدي الجنرال .. نادِني سيدي الجنرال. هل هذا واضح؟
- نعم سيدي الجنرال.
- أجبني الآن لماذا أقدمت على الخيانة؟
- خيانة؟!
- الهروب من ساحة القتال خيانة يا عريف توفيق.
طأطأ توفيق رأسه ولم يَعُدْ يشاهد في شخص جدّه سوى ذلك الوحش المفترس الغاضب.
- أخشى الموت يا جدّي .. أخشى الموت يا سيدي الجنرال .. هناك في الحيّ عيون سود تنتظرني، حضن امرأة دافئ وشفاه لم أقطف ثمارها بعد، هناك سيدي الجنرال قصّة حبٍ لم تكتمل في دفتر يوميات حياتي القصيرة هذه. أريد أن أركض معها على شواطئ عذراء. شواطئٌ لم تدركها الأحلام ولا طموحات العسكر بعد .. ألا يكفي هذا عذراً سيدي الجنرال.
نظر إليه الجنرال مطوّلاً، وجال الدمع حاراً وقاتلاً كالزرنيخ. لم يتمكّن من التفوّه بكلمة واحدة، أشار بيده الى توفيق كي ينصرف. أغلق على نفسه الباب وسال الدمع الحار فوق تجاعيد وجهه.
كان يتمزّق ما بين الواجب وحبّه الكبير لحفيده الوحيد توفيق. حضر بعض مستشاريه وأشار عليه البعض بالصفح عنه وتدنية رتبته، وأشار البعض الآخر بضرورة اتخاذ أقصى العقوبات لأنّ المعركة لا تسمح بأيّ استثناءات، وواجب الوطن يفوق كافّة الاعتبارات. لم يَطُلْ التفكير طويلاً بالجنرال وقال بهدوء وبصوتٍ واضح
- غداً في تمام الساعة الخامسة صباحاً، سيتمّ تنفيذ حكم الاعدام بالعريف توفيق .. رمياً بالرصاص وحتّى الموت .. انتهى الاجتماع.
- سنقوم بتجهيز العريف توفيق سيدي الجنرال.
- لا .. اتركوا لي هذه المهمّة.
غادر الجميع غرفة العمليات، وبقي الجنرال وحيداً في أضيق مكانٍ في العالم "حفيدي وحبيب القلب يا توفيق، يا نصف الدنيا التي أملك، ذهب والدك شهيداً كريماً وذهبت جدّتك وتركتني في هذا الميدان أقارع الموت ولا أموت .. حبيبي يا توفيق، لا يوجد جبانٌ واحد في هذه العائلة .. لماذا فعلتها؟ لم يبقَ من هذه الحرب اللعينة سوى أيام، نحن على وشك توقيع معاهدة صلح طويلة الأمد. ولكن، من أين لك أن تدرك هذا. بعد أيام ينتهي كلّ هذا يا توفيق، لماذا فعلتها؟" وبقي الجنرال العجوز يحادث نفسه، ويعاتب ضميره طِوال النهار.
ذهب الى زنزانة توفيق عند المساء، جلس قبالته وقال:
- توفيق .. غداً سيتمّ تنفيذ حكم الاعدام بك رَمْياً بالرصاص.
لم يستوعب توفيق ما قاله الجنرال للوهلة الأولى، ولكنّه طَفِقَ بالبكاء وانحنى على صدر الجنرال النحيل، قال الجنرال بصوتٍ رقيق:
- ولكن ..
مضت لحظات من الصمت القاتل صرخ على إثرها توفيق قائلاً:
- ولكن ماذا يا جدّي؟
- لقد رتّبت أمري مع الرماة .. سيضربونك برصاص فارغ، وستنقلب على ظهرك الى الخلف، سأكون أنا من يلقي النظرة الأخيرة عليك، وسيتمّ نقلك الى البعيد حسب تعليماتي. هناك، أريدك أن تهرب وأن تبتعد عن الميدان، لا تظهر في البيت أو الحيّ حتى أعود أنا من الحرب.
- جدّي .. أنت رائع، كنت على ثقة من أنّك ستخلّصني من هذا المأزق.
- وبالمقابل أريدك أن تبقى شجاعاً وأن تظهر ندمك على ما فعلت .. اتفقنا؟
- كما تشاء يا جدّي.
بدا الفرح والسرور على وجه توفيق وتناول ليلتها جميع انواع الطعام الذي قدّمت له. بل وأخذ يعتذر للجميع عن الخطوة الحمقاء التي قام بها، وأنّه على استعداد لمواجهة الموت ودفع ثمن جريمته الشنعاء تلك. وفي المساء خلد الى السرير يحتضن طيفها، أخيراً وجد الطريق الى الخلاص من هذه الحرب اللعينة. وفي الصباح طلب أن يحلق ذقنه، تناول إفطاره، وانطلق رافع القامة نحو المكان الذي سيتمّ فيه تنفيذ حكم الاعدام. وقف توفيق ولاحت على وجهه شبح ابتسامة، التقت عيناه عينيّ جدّه الهرم، شعر بالفزع. كان الخوف يسيطر على كيان جدّه الجنرال. ربّما كان بسبب رهبة الموقف.
- العريف توفيق .. هل لك بكلمة أخيرة؟. قال الجنرال بصوتٍ جهوريّ خالٍ من أيّ عاطفة.
- أعتذر لزملائي ولشخصك سيدي الجنرال .. أعتذر لوطني الذي خنته في لحظة ضعفٍ عابرة. أرجوكم سامحوني.
كان المنظر معبّراً وتراجيدياً، ولم يقدر الكثير على وقف الدموع والبكاء بصوتٍ مخنوق. من النادر أن يقوم جدٌّ بتنفيذ حكم الاعدام بحفيده.
اصطفّت ثلّة الجنود مع بنادقكم الطويلة أمام العريف توفيق، وصوّبوا بنادقهم نحوه. أشاح الجنرال بوجهه عن حفيده وعندها فقط، شعر توفيق بالجزع. وقبل أن يتفوّه بكلمة واحدة كان الرصاص ينهمر فوق جسده ويخترق قلبه ودماغه. كانت الصدمة هائلة، سبقت حتّى سكرة الموت. قذف الرصاص به الى الخلف. شعر توفيق بالدمّ يتدفق كالنهر من كافّة أنحاء جسده. تقدّم الجنرال الى حفيده، وضع رأسه على ركبته وقبّل وجنتيه. كان يرغب بأن يسأل جدّه "لماذا يا جدّي؟" قبل أن تفارق روحه الجسد. وجاءت كلمات جدّه دون انتظار، وكأنّه يقرأ ما يجول في خاطر توفيق. ذلك الفتى الذي نما وترعرع في حجره. راقبه وهو يحبو ، ثمّ وهو يركض. راقبه وهو يغازل فتيات الحيّ، ويسرّح شعره الى اليمين والى اليسار والى الخلف ليكشف عن وجهه وجبينه الجميل. قال الجدّ لحظاتٍ قبل أن تفارق روح توفيق جسده:
- إنّه الوطن يا توفيق. إنّه الوطن يا صغيري.