رد: جولة في ربوع منتدانا الحبيب ..في ربوع الموسوعة الفلسطينية
ونحن نعود إلى حيفا يبدو لي شبه حتمي أن نتذكر عودة درويش إليها لإحياء أمسية شعرية بعد غياب طويل , حيفا الي رآها البعض نقطة إنطلاق محمود درويش.
إخترت لكم هذا المقال:
لا الرحلةُ إبتدأت ولا الدربُ إنتهى. بقلم ظافر مقدادي
في كلّ شيء كان أحمد يلتقي بنقيضِه/ عشرين عاماً كان يسأل/ عشرين عاماً كان يرحل.../ أنا أحمد العربيُ- قالَ/ أنا البلاد وقد أتت وتقمصتني/ وأنا الذهاب المستمر الى البلاد.../ وأحمد العربي يصعد كي يرى حيفا.../ وحيفا من هنا بدأت/ وأحمدُ سُلّمُ الكرمل/ وبَسملَة الندى والزعتر البلدي والمنزل).
هذا ما قاله الشاعر الكبير محمود درويش في قصيدة أحمد الزعتر (البعض يسميها أحمد العربي) عام 1977، أي بعد 5 سنوات على خروجه من فلسطين المحتلة، وبعد عام واحد على مذبحة مخيم تل الزعتر في لبنان. وها هو الآن يعود إلى حيفا زائراً بعد 35 عاما، حيث أحيا أمسية شعرية في حيفا بدعوة من مجلة (مشارف) والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة.
حيفا مدينة على البحر، ولكنها تختلف عن باقي المدن الساحلية، فباقي المدن تهبط الى البحر، أما حيفا فالبحر يصعد اليها والى كرملها. إنها كما آلهات الخصب الكنعانية يخطبُ البحرُ ودّها فيصعد إليها، تارةً ودوداً حالماً وتارةً مزمجراً مهدداً، ولكنه لا يطالها. فإن أردتَ الوصول الى حيفا فعليك أن تصعد، وإن قسى عليك الزمانُ فعليك أن تصعد وتصعد، وإن قسى عليك أكثر فعليك أن تصعد وتصعد وتصعد كي ترى حيفا. فليس بهذه السهولة تُأتى حيفا، إذ بإمكانك بسهولة أن تزورها، ولكن لـ(تصعد) إليها يجب عليك أن تمتلك مَهر الآلهة. ومحمود درويش ربما كان يعرف هذه الحقيقة، فصعد وصعد وصعد، ولم يدخل حيفا لـ(يبصم) في الكنيست، ولا لـ(يصافح) أولمرت، وإنما (صعد) الى مدينته ووطنه وشعبه، فقد إمتلك بصعوده المستمر مهر الآلهة. فالكنعانيون كانوا يعتقدون أن الكرمل هو مَسكن الآلهة، وصعد إليه وسكنه النبي إيليا بعد ذلك، وبعده ربما يكون السيد المسيح صعد إليه وألقى أولى موعظاته: (طوبى للمساكين.. طوبى للحزانى.. طوبى للودعاء.. طوبى للجياع.. طوبى للرحماء.. طوبى لأنقياء القلب.. طوبى للمضطهدين..). ومثلهم صعد محمود درويش الى الكرمل واعظاً المضطهدين، ولكنه لم يبشر بالقيامة: (ومثلما سار المسيح على البحيرة/ سِرتُ في رؤياي/ لكنني نزلت عن الصليب/ لأنني أخشى العُلو/ ولا أبشر بالقيامة).
ولهذا ربما أراد محمود درويش أن يبدأ أمسيته الشعرية في حيفا بـ(قصيدة موعظة) كان قد كتبها عام 1986: (على هذه الأرض ما يستحق الحياة: تردد إبريل، رائحة الخبز في الفجر، آراء إمرأة في الرجال، كتابات إسخيليوس، أول الحب، عشب على حجر، أمهات يقفن على خيط ناي، وخوف الغزاة من الذكريات. على هذه الأرض ما يستحق الحياة: نهاية أيلول، سيدةٌ تترك الأربعين بكامل مشمشها، ساعة الشمس في السجن، غيم يقلد سرباً من الكائنات، هتافات شعب لمن يصعدون الى حتفهم باسمين، وخوف الطغاة من الأغنيات. على هذه الأرض ما يستحق الحياة: على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات وأم النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارت تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة).
فمحمود درويش لم يصعد الى حيفا ليتراجع، بل ليؤكد، فها هو في حيفا يؤكد خوف الغزاة والطغاة، ويؤكد أن هذه البلاد كانت وستبقى تسمى فلسطين، ولم يغير خطابه ومفرداته وفلسفته وفقاً لمقتضيات الزيارة وتقلبات الخطاب السياسي الفلسطيني الرسمي (إن صحت تسميته بالرسمي). لقد إستحق الشاعر شرف الصعود، ليختم القصيدة بالتصريح بحقه في الحياة لأن هذه الأرض هي سيدته. ولكن هل فلسطين سيدة الأرض؟ نعم إنها كذلك. فلسطين مِن صُنع الله سبحانه وتعالى. صنعها الله ليختبر صدق الإنسان بإيمانه بالله. جاءها البشر من كل زوايا الأرض: العرب العاربة والعرب المستعربة، الأشوريون، الفراعنة، البابليون، الفرس، الإغريق، الرومان، المسلمون، المسيحيون، الأتراك، المستعمرون الغربيون، اليهود من الشرق ومن الغرب. كلٌ أتاها حاملاً آلهته معه، وأعمل سيفه فيها بإسم هذه الآلهة. ومَن إنتصرت آلهته عيّن نفسه وريثاً لإلهه عليها. وكأن فلسطين هي الحَكَم بين الله والبشر، فمن كفر به وبوحدانيته أعملَ سيفه فيها، فكذب إيمانه، ولو صدق إيمانه بوحدانية الله لرفع سيفه عنها، فالله واحد أحد ولم يَعد أحدا بها، ففلسطين لشعبها، أما الباقي فهباء، ولهذا ربما يقول محمود درويش: (لم أكن عابراً في كلامِ المُغنين، كنتُ كلامَ المغنين، صلحَ أثينا وفارس، شرقاً يعانقُ غرباً في الرحيلِ الى جوهرٍ واحد. عانقيني لأولدَ ثانيةً من سيوفٍ دمشقيةٍ في الدكاكين. لم يبقَ مني غير درعي القديمة، سرج حصاني المُذهب. لم يبقَ مني غير مخطوطة لإبن رشد، وطوق الحمامة، والترجمات).
كيف إستقبل أهل فلسطين محمود درويش بعد 35 عاماً؟ لا أدري، ليتني كنت هناك. ولكن إستهلاله الأمسية بقصيدة (على هذه الأرض) يذكرني بتلك الأمسية الشعرية في مهرجان جرش في الأردن في التسعينيات، حيث إستهلها أيضا بنفس القصيدة. كان الوقت صيفا، وكان عدد الحضور بالآلاف وقد ضاقت بهم مدرجات آثار جرش، فكان مقعدي في أعلى المدرج في أقصى الزاوية اليمنى، وكانت الشمس تميل الى الغروب برتقالية اللون، وكنا ننتظر بفارغ الصبر ظهور محمود درويش على المسرح، وغابت الشمس وأطبق الليل علينا أهدابه وازدانت السماء بزينة النجوم والكواكب، وبدا الكون فسيحا في ليلة جرشية لا توصف، فمن هنا مرّ الرومان أيضا، وفجأة ظهر الشاعر على المسرح، وبدا لي بعيدا لدرجة أحسست بها أنه يلتصق بي. وعندما كان يُنهي قصيدة كنت أصرخ من بعيد: (مأساة النرجس ملهاة الفضة)، وهو بالتأكيد لا يسمعني، بل ربما أحس بي لإلتصاقي به، فقرأ من قصيدة مأساة النرجس، ولم يبدأ من بدايتها، فهي طويلة جدا، وإنما ذهب فورا الى (مكان الوجع)، ووجّه سهمه الى قلبي وأنشد: (خذني الى حجرٍ لأجلس قرب جيتار البعيدِ/ خذني الى قمرٍ لأعرف ما تبقى من شرودي/ خذني الى وترٍ يشدّ البحر للبرِِ الشريدِ/ خذني الى سفرٍ قليلِ الموت في شريان عودِ/ خذني الى مطرٍ على قرميد منزلنا الوحيدِ/ خذني إليّ لأنتمي لجنازتي في يوم عيدي/ خذني الى عيدي شهيداً في بنفسجة الشهيدِ/ خذني هناك الى هناك من الوريدِ الى الوريدِ).
يا ترى هل ألقاها في أمسية حيفا أيضاً؟ أرجو ذلك، لأنها رسالتنا الى أهلنا هناك، إنها حنيننا، نحن الأبناء، لشيء لم نره ولكنه فينا، إنها (ذهابنا المستمر الى البلاد التي تقمصتنا). كثيرة هي الدموع التي سالت في تلك الأمسية. إنه محمود درويش وحده من يستطيع أن (يرميك) بنفسك لكي تعود الى ذاتك أو ترتد إليها إن نسيت، إنه القادر بشعره أن يمد يده الى خبايا نفسك وأقدس أسرارك التي لا تجرؤ على البوح بها حتى لنفسك، يمد يده إليها بشعره لينتزعها منك ويبسطها بين عينيك ويقول لك: (ها أنت ذا، فلا تنسى من أنت).
تقول الأخبار من حيفا أن، تقريبا، ما حدث في مهرجان جرش تكرر في حيفا. فقد (وقف المواطنون العرب الذين غصت بهم قاعة (الاوديتوريوم) في حيفا عدة دقائق يصفقون معبرين عن انفعالهم وتأثرهم بلقاء الشاعر الكبير، وقد حضروا من كافة قرى ومدن الجليل لحضور هذه الامسية التى سمحت له السلطات الاسرائيلية باحيائها بعد اشهر من الانتظار. وقد حضر الامسية نحو الفي عربي ملأوا كل مقاعد القاعة، وللتعويض لمن لم يتسن لهم المشاركة نصبت شاشات كبيرة فى ساحات بعض القرى والمدن العربية لنقل وقائع الامسية الشعرية). نعم، إنه محمود درويش، ربما وحده من الشعراء العرب اليوم الذي يستطيع تحويل أمسية شعرية الى حدث سياسي وإجتماعي وثقافي ووجداني وربما تراجيدي أيضا. فها هي الحكومة الإسرائيلية تتخبط بضعة أشهر لإتخاذ قرار بالسماح للشاعر بالزيارة، فالقرار له أبعاد سياسية، ويعني فيما يعني ضمنياً إعتراف إسرائيل بحق الشاعر بوطنه، وبالتالي بحق الملايين الفلسطينيين في العودة الى ديارهم. يخبرنا الكاتب والصحفي اللبناني إلياس خوري أنه في عام 1999 كان عدد الحضور لأمسية محمود درويش في قصر الاونيسكو في بيروت حوالي 8 آلاف مستمع، علّق محمود درويش وقتها قصيدة (جدارية) على أستار أرواح المستمعين، على حد تعبير إلياس خوري. لا شك أن الشاعر كان يصعد، من بعيد، أدراج الكرمل، درجة درجة، ففي كل مدينة أحيا فيها أمسية كان يصعد درجة الى الكرمل، وفي كل مرة يكتب فيها قصيدة كان يصعد درجة الى الكرمل، وكثيرة هي القصائد وكثيرة هي الأمسيات، وكثير هو الجمهور، فصعد الشاعر أخيرا الى حيفا.
إنه لأمر جيد أن تكون محموداً، ولكن هناك فرق بين محمودٍ ومحمود، ففي الوقت الذي كان فيه الشاعر محمود درويش يعلن (بيانه) الشعري من على سفوح الكرمل، كان الرئيس محمود عباس يحضر للإجتماع بأولمرت بعد أن بدأ بتفكيك المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهو ينتظر الملايين من الإدارة الأمريكية لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية. وتقول الأخبار من حيفا أن الشاعر ألقى في الأمسية قصيدة (ونحن نحب الحياة):
(ونحن نحب الحياة اذا ما استطعنا اليها سبيلا/ ونرقص بين شهيدين. نرفع مئذنة للبنفسج بينهما او نخيلا/ نحب الحياة اذا ما استطعنا اليها سبيلا/ ونسرق من دودة القز خيطا لنبني سماء لنا ونسيج هذا الرحيلا/ ونفتح باب الحديقة كي يخرج الياسمين الى الطرقات نهارا جميلا/ نحب الحياة اذا ما استطعنا اليها سبيلا/ ونزرع حيث اقمنا نباتا سريع النمو ونحصد حيث أقمنا قتيلا/ وننفخ في الناي لون البعيد البعيد ونرسم فوق تراب الممر صهيلا/ ونكتب اسماءنا حجرا حجرا، أيها البرق أوضح لنا الليل، أوضِح قليلا/ نحب الحياة اذا ما استطعنا اليها سبيلا). والواضح هنا أن الشاعر يؤكد على ثقافة حب الحياة، ولكن دون نفي ثقافة المقاومة، فالحياة في القصيدة هي ما يُفضي إليه الطريق المقاوم بكل ما فيه من فداء. فهل صحيح أن شكسبير بالنسبة لإنجلترا أهم من تشرشل وأن جان جاك روسو لفرنسا أهم من نابليون ومحمود درويش لفلسطين أهم من ياسر عرفات، كما قال الراحل نزار قباني، وبالتالي أهم من محمود عباس؟ أنا لا أشك بذلك. إنه من دواعي الفخر أن تكون محموداً ودرويشاً، ولكنه من المؤسف أن تكون محموداً وعباساً.
صعد محمود درويش عالياً، صعد بوطنه وشعبه وقضيته، والأهم من ذلك صعد بإنسانيته، حلّق عالياً في أعالي الكلام. لم يَعد ذلك الشاعر المفعم بالحماسة للثورة برموز أصبحت علامات في الشعر العربي الحديث، بل أصبحت الثورة في السياق العام للشعر الصاعد الى حرية الإنسان كإنسان. (لن يفهم السيد الأبيض الكلمات العتيقة/ هنا، في النفوس الطليقة بين السماءِ وبين الشجر.../ يا سيد الخيل علّم حصانك أن يعتذر/ لروحِ الطبيعة عمّا صنعتَ بأشجارنا)، يقول محمود درويش في (خطبة الهندي الاحمر أمام الرجل الابيض) مُناصرا قضية الهندي الاحمر. ثم غاص أكثر في التاريخ الانساني يتحسس مكمن الخلل الأول حين سال اول خيط من الدم: (إذا كان هذا الخريفُ الخريفَ النهائيّ، فلنعتذر عن المدّ والجزر في البحرِ والذكريات، وعمّا صنعنا بإخوتنا قبل عصر النحاس: جرحنا كثيرا من الكائنات بأسلحة صُنِعت من هياكل إخوتنا، كي نكون سلالتهم قرب ماء الينابيع. ولنعتذر لأهل الغزالة عمّا صنعنا بها قرب ماء الينابيع، حين تدفق خيطٌ من الارجوان على الماء. لم ننتبه أنه دمنا يُؤرخ سيرتنا في شقائق هذا المكان الجميل).
وحين كان الشاعر على بُعد بضعة أنفاس من الموت إنتصر على ملاك الموت بلغته وشعره بعد حرب شعرية ضروس بينهما في قصيدة (جدارية): (لا الرحلةُ إبتدأت، ولا الدربُ إنتهى/ لم يَبلُغ الحكماءُ غُربتَهم/ كما لم يبلُغ الغرباءُ حكمتَهم/ ولم نعرف من الأزهار غير شقائق النعمان/ فلنذهب الى أعلى الجداريات.../ الوقتُ صِفرٌ. لم أفكر بالولادة حين طار الموتُ بي نحو السديم، فلم أكن حيّاً ولا ميتاً، ولا عدمٌ هناك ولا وجودُ.../ رأيت المعرّي يَطرد نُقاده من قصيدته: لستُ أعمى لأبصرَ ما تُبصرون.../ هَزمَتكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها: هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين، مسلة المصريّ، مقبرة الفراعنة، النقوش على معبدٍ هزمَتكَ، وانتصرتْ، وأفلَتَ من كمائنكَ الخلودُ، فاصنعْ بنا واصنع بنفسكَ ما تُريدُ..).
نعم، هزَم الشاعر عدوّه، فلم يبقَ أمام هذا العدو سوى السماح للشاعر بالمرور، فصعد محمود درويش كي يرى حيفا بعد 35 عاماً من الغياب.
|