عرض مشاركة واحدة
قديم 10 / 02 / 2009, 46 : 10 AM   رقم المشاركة : [1]
خيري حمدان
أديب وقاص وروائي يكتب القصة القصيرة والمقالة، يهتم بالأدب العالمي والترجمة- عضو هيئة الرابطة العالمية لأدباء نور الأدب وعضو لجنة التحكيم

 الصورة الرمزية خيري حمدان
 





خيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond repute

رومانسيون في غزة

هل من الضروري أن تشرق الشمس كلّ صباح
-2-
أنا محمود الحانوتي، أعلن بكلّ جرأة بأنني أصبت بطلقات نارية مجهولة المصدر، كما أدرك بأني أرقد الآن في سرير الموت في أحدى المستشفيات في غزة. وأريد أن يعلم الجميع بأني أرفض المضي نحو العالم الآخر حتى أعرف هوية من أطلق النار علي.
هل هذا واضح؟
لا أسمع ردّاً على سؤالي، ولكني أرى جميع هذه الأنابيب المطاطية تخترق شرايين جسدي، أنتم مجانين! لا يمكنكم أن تتصوروا حجم فجيعة الجسد عندما يخترقه الرصاص. على أية حال، أتمنى ألا يمرّ أحدٌ بهذه التجربة المؤلمة، وهذا بطبيعة الحال لا يعني بأني على وشك إسلام الروح إلى بارئها، ليس قبل أن أعرف هوية القاتل. لقد أعلنت التمرد على الموت، حتى وإن كانت كلماتي هذه مجرد مذكرات لرجل ميت. ولنبدأها بردود فعل العائلة. حضرت أمي وجلست على حافة السرير طِوال عشرة ساعات متتالية، ولكنها شعرت بالإرهاق والتعب وقررت الذهاب إلى المنزل لنيل قسطٍ من الراحة. كانت طِوال الوقت تمسك بيدي، وكنت أشعر بحاجة ماسة لإراحة باطن يدي المتعرقة، كان الخدر قد وجد الطريق إلى ذراعي، أردت أن أصرخ في وجهها صائحاً، دعي يدي يا أمي، ولكن صوتي علق عند أصل الحنجرة، ولم يتمكن من الانطلاق إلى فضاءات بهو الغرفة من حولي. شعرت بالراحة عندما غادرت غرفة الإنعاش، نظرت إلى يدي، كانت طريحة الفراش إلى جانبي، وحيدة وحرة، ولكني لم أكن أقوى على تحريكها، واكتفيت بمراقبة سكونها. قال المريض هامساً:
- بماذا يحدق محمود يا حضرة الطيب؟ أجاب الطبيب قائلا:
- ولله في خلقه شؤون، دعه يحدّق في اللاشيء، ما دمنا غير قادرين على مساعدته أكثر من ذلك.

أعرف الأطباء والممرضين جيداً، وأعرف المتدربين من طلاب كلية الطب أو حديثي التخرج. تصوروا، بعضهم يحاول التلاعب ببعض أجزاء جسدي حتى يتيقن بأنني حقيقة جثة تتنفس! لا أقدر على الضحك أو حتى إبعاد أيديهم عن جسدي، أشعر برغبة في حكّ قدمي اليمنى .. آه، لقد بُتِرَت! .. لقد بترت، ما الذي تعرضت له تلك الليلة. هل من الممكن أن يكون الموت سريعاً إلى هذا الحدّ. هذه ليست مجرد طلقات نيران عادية، لقد تمزق جسدي نتيجة لارتطامه بأجسام متطايرة سريعة وقاتلة وساخنة، بل كانت حارّة درجة الغليان. فقدت الوعي على الفور، وارتفعت روحي رافضة الانصراف لتراقب المشهد العام. إذاً، ما زال في الروح بقية

تسلل أحد المتدربين إلى غرفتي ليلاً، جلس إلى جواري، شاهدت عينيه مليئة بالدموع، المصيبة أنني لا أشعر بالألم، والآن أشعر بالدهشة، لأن الفضول يقتلني في هذا المكان، الفضول فقط يا عالم الأحياء.
- محمود الحانوتي .. شاب في مقتبل العمر.
قال المتدرب بحسرة، لا تبكِ يا رجل، يكفيني قلم الكاتب الذي لم يتوانَ لحظة عن بتر قدمي في الصفحة الثانية من الرواية. هل تحتاج غزة إلى أدباء؟ هل يحتاج الوطن إلى شعراء. ماذا لو حرمت حماس الشعر لأنه يخالف الشريعة مثلاً؟ وماذا لو استخدم وزير في رام الله هذه الأوراق لمسح مؤخرته عند الحاجة؟ لا يجب الاستمرار بهذه الأفكار في لجة الموت المتناثر، على أية حال، قد تعود للثقافة مجدها يوما ما في العالم العربي، عندها، سيقرؤون بأن محمود الحانوتي رقد في مستشفى الشفاء طويلاً رافضاً الموت بسهولة. عندها سيعرفون بأن للروح مداراتها الخاصة.

- لماذا تهزني يا رجل؟
صاح المتدرب مناديا الطبيب، والذي حضر بعد لحظات،
- ماذا هناك، خير إن شاء الله؟
- لقد شاهدت عينيه ترمش للحظة!
- هذا طبيعي يا بني، الجسد ما يزال حيّاً، ويمارس بعض ردود الفعل. لماذا لا تتركه وشأنه؟ دعه يتوحّد في غيبوبته، عُدْ إليه في وقتٍ لاحق إذا شئت.
ومضى الفتى أخيراً بعيداً عن غرفتي ليتركني أتوحد في غيبوبتي كما أشار الطبيب وليته لم يفعل.

حضرت إلى غرفتي أختي العزيزة، وبدأت فصلاً من البكاء الذي يفطر القلب حقيقة. لماذا يا سلوى كلّ هذا البكاء؟ أشعر ببعض الألم يحاصر أعضاء جسدي، أريد أن أتحرك بعض الشيء، يا لها من معجزة، قالت أختي للطبيب المناوب:
- حرّكوا بقايا جسده يا دكتور، لا يُعْقَل أن يبقى في وضعٍ واضح طِوال هذه المدّة. وبعد لحظات كانت أيدي الممرضين تحرّك جسدي ذات اليمين واليسار، يا له من نعيم! شكراً لك يا سلوى، لقد قمت بما عجز الطبّ عن القيام به طِوال هذه الفترة. لقد قرأت روحي في لحظة عابرة، أنت حقيقة نصفي الآخر، والدماء التي تجري في عروقنا متشابه. ولكن هل بقي في شراييني دماء يا تُرى؟

يتبع



نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
خيري حمدان غير متصل   رد مع اقتباس