عرض مشاركة واحدة
قديم 17 / 02 / 2009, 08 : 10 PM   رقم المشاركة : [1]
خيري حمدان
أديب وقاص وروائي يكتب القصة القصيرة والمقالة، يهتم بالأدب العالمي والترجمة- عضو هيئة الرابطة العالمية لأدباء نور الأدب وعضو لجنة التحكيم

 الصورة الرمزية خيري حمدان
 





خيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond repute

رومانسيون في غزة -4

-4-

لن يتكرر ما حدث لي الليلة مهما كلفني الأمر من جهود خارقة. أنا المقعد، وفاقد الإرادة، فعلتها في سروالي. كان الغطاء الأبيض مبتلاً، وكانت رائحة البول تملأ المكان. حضر إلى غرفتي ذاك الشاب إيّاه، غريمي في الهوى يا حياتي التي غاب اسمها عن ذاكرتي منذ أصبت في نومي قبل .. دهرٍ من الزمن أو يزيد! متى أصبت يا قرّاء مأساتي؟ متى بُتِرَت قدمي وأضحيت عالة على المجتمع، رافضاً الموت حتى إشعارٍ آخر؟ هل هذه الأوراق تعدّ في أنظاركم مذكرات قتيل؟ تابعوا قراءتها حتى وإن كانت كذلك، وبالمقابل سأدعو لكم بطول الحياة وعناق الأحبة والقدرة على البكاء الحرّ والضحك والتبول في الأماكن المخصصة لذلك، يا لها من فضيحة!

- اللهم لا حول ولا قوة إلا بك.
هذا ما تفوّه به الشاب، لم يقل سوى هذه الكلمات، ورمقني بنظرة مليئة بالعطف، هل تتصورون يا عالم الأحياء. لقد شعرت بإنسانيته تهاجم عالمي المحطّم، لم يتأفّف، ولم يتقزّز، وكنت قادر على تفهم موقفه لو فعل. ردود فعله منطقية. لكن لم يُظْهِر أي من هذه المشاعر. كان يراقبني بطرف عينيه، وكنت ممتناً. لقد وفّر عليّ الإحساس بالإحباط والخجل، كيف يكون هذا وأنا في حالة من الغيبوبة، لا تجرّبوا ذلك أرجوكم، مارسوا حياتكم بكلّ عنفوانها، استخدموا الطيب بعد الاستحمام ولا تنسوا أن تغطسوا أجسادكم في مياه البحر المالحة. كانت خلاياي في تلك اللحظة تصرخ قائلة:
- لتحيا الحياة .. رغماً عن إرادة الموت.

وماذا بعدُ يا صديقي الممرض الوسيم، كان أسمر اللون عسلي العينين، احضر ملطفاً للجو ورشّ فضاءها حتى بان العبق وهاجم خلايا الدماغ ودغدغ الأحاسيس في لحظة تجلّي لا تتكرر. جلس إلى جانبي وأخرج من جيبه زجاجة عطر مصنعة محليا، ثمّ رشّ جسدي وترك قطرات بين فخذي ومضى على عجل. وبقيت أنا وذاتي نراقب الجلبة التي تجددت في المشفى. إصابات جديدة إثر غارة جويّة. لا، مجرّد حادث تصادم ما بين حافلة وشاحنة، يا لها من مناظر فاجعة! منتهى السخرية، حين نستجدي الموت مدنيا؟ ولكن يصعب تجنب هذه الأحداث. كان سائق الشاحنة مسرعاً، وعزاؤه الوحيد أنه توفي على أنغام كوكب الشرق أم كلثوم. ربما تتساءلون، كيف لي أن أعرف كلّ هذه التفاصيل؟ أقول لكم بأن المعادلات الكيميائية التي تتفاعل في جسد الإنسان حين يكون على الحافة الفاصلة ما بين العالمين غريبة ومعقدة، استمعت لهذا الغناء ورأيت جزءاً من الحادث أيضاً. أصبت بالذهول مرة واحدة، هل عرفتم الآن لماذا تبولت في سروالي الليلة الماضية؟


-5-

إرادتي مكبلة، وهذا يعني بأنني غير قادر على ممارسة الكتابة. ضعوا قلما بين أصابعي، دعوني أسطو على مشاعركم، دعوني أخطّ سيرتي، أنا إنسان بسيط غزّي، أحلم ببعض الفرح والأمان، لي ولأطفالي الذين دفنوا في جوفي. وآه يا وطني المحفور في أغنية! آه يا وطني المحفور في الذاكرة.

إرادتي مكبلة، أنا الذي يحمل رقما وطنيا عابراً أتحدّى الفناء، وسوف أقتلع من هاوية العدم هويتي. من يجرؤ على سحل جسدي فوق الأشواك بعد اليوم؟ لا أحد، لأنه لم يبقَ ما يُسْحَل يا قتلتي. تذكرت ليمونة زرعتها ورعيتها برجع الهوى، سقيتها طموحاً وشوقاً، أين مضى كلُّ هذا؟ تبدو الحياة كميناً، يبدو الحنين معاناة حين تصبح عاجزاً إلى النظر في عيني امرأة، ورائحة جسدُها تهاجم كلّ خلية في جسدي العَطِش. جسدي الجامح .. جسدي المسافر فوق غمامة، ارتطم بصخرة فهوى في وادٍ لم أدرك بعد نهايته. أجنحتي ما تزالُ قادرة على التحليق، لكن روحي مُفْرغة، والقلم يتكور كتلة من نار، كيف أسطر الألف والباء، وكيف أكتب لك ماء الذهب "أحبك"؟

لن أعود إلى المنزل إلا محمولاً على الأكفّ، لن أتحمل السمر وأنا مغيّب، ولن تفهمني سوى نسمة عابرة، في ليل خريفي، لحظات قبل أن ينشق قلب الشتاء، لحظات قبل أن يصمت القلب.
في مشفى الشفاء سأسطر آخر نزواتي، وسأتناول عبر الأنابيب البلاستيكية بعض الغذاء والغلوكوز وبعض الأمل. سأبتسم، وسأحاول أن أرسل دمعة شرقية .. أنا الغزيّ، حاولوا اغتيالي ألف مرة، حاولوا اقتلاع أظافري، وسحق روحي، حاولوا قذفي إلى مياه البحر المالحة، بعد أن تركوا كلاب البحر جائعة.

كنت أرتدي أجمل ما أملك من ثياب، وضعت ربطة عنق بنفسجية، على الرغم من كلّ الأعراف السائدة في غزة، ثمّ كحلت بذلتي بوردة وضعتها في الجيب العلوي، ضمخت روحي بعطر فواح، ومضيت مع حفنة من الأصدقاء إلى بيت أبيها، كنت تواقاً لإنجاز هذه المهمة على عجل. كنت أود أن أسبق غريمي في الهوى، نفس الممرض الذي أشرف على تغيير ملابسي الداخلية بعد أن تبولت فيها ليلاً، كنت أسابقه لأطلب يدها دون خجل أو خوفٍ من احتمال رفض طلبي المتواضع. كنت أبحث عن مقدار ملعقة من السعادة فوق هذه الأرض.

- هل نقرأ سورة البقرة للتصديق يا عمي؟
- هل أحضر لها لبن العصفور، وأصعد قمة إفرست أو بعض التلال القريبة منها؟ نظر إلي مطولاً، وقال:
- ما اسم ابنتي التي ترغب الزواج منها؟
اللعنة، لقد أوقع بي هذا الرجل والذي من المنتظر أن يكون عمي. أنا باختصار لا أعرف اسم الفتاة التي أرغب الزواج منها. أنا لا أعرف اسم زوجة المستقبل.
وما الضير في ذلك، ألا يكفي عشقي ولهي بها؟ أنا قادر على تقديم كلّ ما تشتهي بيدي هاتين، وحين طرحت يدي أمامي، تبيّن لي بأني كنت قد فقدتهما ونبت مكانهما مكانس، ربما لتنظيف الأوساخ في شوارع غزة. متى سأدرك بأني أخوض صراعاً مع كابوسٍ لا يرحم. وعندما عدت إلى وعيي دون أن أفتح أو أغمض عيني، لأن هذا الشأن لم يعد خاضعا لمشيئتي، كانت الإبرة الحادّة تخترق مؤخرتي، وكان شبح ابتسامة يرتسم فوق غريمي في الهوى، الممرض الذي لم أعرف اسمه من قبل ومن بعد.

يتبع

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
خيري حمدان غير متصل   رد مع اقتباس