حوار مع تقدمي
قابلته في إحدى أروقة المطارات، أعتقد أن وجهتي كانت إلى برشلونة، حياني بالعربية وجلس إلى جانبي قائلاً:
- يبدو بأنّك رجل مثقف! أنا أحترم التقدميين .. إلى أين وجهتك؟
نظرت إليه مطوّلاً، لم تكن لدي أية رغبة بالحديث، لكني أجبته قائلاً:
- ليس إلى فلسطين على أية حال.
- يا للمصادفة! أنا في طريقي إلى إسرائيل. لقد أثبتوا بأنهم تقدميون وديمقراطيون .. لو تدري كم يحترمون الأجانب والسياح يا عزيزي!
- لا تنسى بأنّي فلسطيني .. يمكنني أن أتفهم مشاعرك، أنت ذاهب إلى شواطئ ناتانيا وتل أبيب، وستتمتع بعاهرات الليل هناك، ولكن لا تنسَ بأنّه لا يمكنني أن أطأ تراب هذه الأرض كمواطن فلسطيني.
- ولكن يمكنك الذهاب إلى هناك كمواطن لبلد أجنبي آخر، هذا إنجاز كبير، أليس كذلك؟
بقيت محافظا على برودة أعصابي، وقلت بصوت خافت:
- أسافر كثيرا لأنني أرغب بالهروب من ذاتي، أقابل في المطارات سوريين ينتظرون الطائرة للتوجه إلى دمشق، واللبنانيين يطيرون إلى بيروت والمصريين إلى القاهرة، والأمريكيين إلى واشنطن أو إلى أي مكان آخر من الدنيا، فهم مغامرون ويشعرون بأنهم أسياد الدنيا. إلا أنا عابر مطار - ترانزيت لبقعة ما، جميع بقاع الدنيا متشابهة بعيداً عن وطني.
لو كنت طائرة لحرقت عجلاتي فوق مطارات فلسطين وكسرت أجنحتي حتى لا أطير ثانية إلى أي مكان آخر من هذه الدنيا. لا يمكن لك أن تدرك مشاعري يا أخي المثقف، هذا مستحيل. مضى على تيهي ما يزيد عن خمسة وثلاثين عاماً. هذا وقت طويل للغاية. إنه مشروع حياتي، قصة وجودي على هذه الخليقة يا صديقي. كيف يمكن أن تكون كريماً إلى هذا الحدّ وعلى حساب شعب آخر؟. أعطني مقدرات شعب وسأجود عليك بنصف خيراته. لم يفهمني صديقي التقدمي، وانطلق فرحاً إلى مطار بن غوريون، ربما لطمه أحد المحققين العرب في غرف الاعتقال، ولكن هل يعني هذا اختزال حقوق شعب ما زال يعاني من قسوة الاحتلال ما يزيد عن ستين عاماً؟
كنت على وشك التاخر عن الموعد النهائي للالتحاق بطائرتي الصاعدة إلى ركن آخر يحتضن غربتي وحرقتي وإقامتي المؤقتة.
دعوني أستبدل جميع واحات الدنيا بجحيم الوطن، فلم يبق من العمر ما يكفي لجرعة حرية واحدة.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|