شبح الجنون .. 6
صور من الذاكرة
الصورة الأولى
كيف أصبحت عصفورتي اليوم ؟ أرى بين يديك ألبوما ً من الصور ؟ ماذا يدور في خلدك وعمن تبحثين يا عصفورتي المتعبة الشقية ؟
ذكريات يا شبحي لا تقلق مجرد ذكريات أهل مدينة العقلاء .. ليلة الأمس عصفت في مخيلتي صورهم كما يعصف الموج الغاضب بصخرة تقف بلا هدف وسط البحر .. لا الموج يفتتها ولا هي يصبح لوجودها أي معنى .. ومع كل هذا تذكرته جيدا ً .
حدثيني يا عصفورتي عنه .. أشعر برغبة عارمة أن أسمعك وصدقيني ليس لأني أحب أن يداعب صوتك المتهدج كخرير المياه أذنيّ الغارقاتين في عشقك ..لا ولكني فعلا ً أرغب بزرع البسمة على شفتك .
كانت إحدى صباحات العيد .. صحوت نشيطة جدا ً ومبكرة على غير العادة .. هرعت إلى حجرات المنزل أرتبها وأزينها استعدادا ً لإستقبال العيد .. كنت أفرح بإطلالة العيد يا شبحي كأي طفلة تنتظر العيد بفارغ الصبر .
وماذا بعد يا عصفورتي ؟
دلفت إلى حجرته أرتبها كباقي الحجرات .. وجدته خلفي مرتبكا ً متلعثما ً كما يرتبك الرجل بحضور إمرأة .. ضحكت في سري .. لقد رآني إمرأة وأنا الطفلة الوحيدة في المنزل .. إعتذر مني وطلب أن لا أجهد نفسي في ترتيب حجرته وأن أستعد لملاقاة العيد .. فرحت في أعماقي لأني استرحت من ترتيب حجرته .. خرجت إلى الشرفة كي أستقبل العيد وألقي عليه تحية الصباح .
وماذا بعد أيتها العصفورة المشاكسة ؟
كان صوت القنابل يختلط بصوت مدافع العيد .. لم أميزهما من بعضهما ..هرع خلفي إلى الشرفة مرتبكا ً مرة أخرى وقال لي : أدخلي من الشرفة قد تصيبك إحدى القذائف الطائشة .
أجبته والدهشة مرتسمة على ملامح وجهي : هل أصاب وأنا في منزلي .
هز ّ رأسه متأسفا ً وقال لي : هم لا يميزون ...
ولا أعلم كيف غامرت بالقدوم إلى هنا في هذه الحالة الصعبة ؟
قلت : كنت على أعصابي طوال الطريق .. كنت أرتجف من البرد القارص ومن الخوف .. خشيت أن تظهر لنا إحدى الفرق المسلحة فتقطع رؤوسنا .. ألا يفعلونها .. سمعت عن ذلك الكثير ؟
قال : بلى يفعلونها .. هنا إنفلات أمني كبير .. يجب ألا تخاطري بروحك مرة أخرى .. حياتك غالية علينا .
قلت : ألن تنتهي هذه الحرب اللعينة ؟
أجاب بهزّ رأسه بالنفي .
شعرت بسعادة عارمة أن يحادثني رجل على أساس أنني شابة .. إمرأة .. أنثى .. الجميع يعاملني كطفلة .. منذ هذه اللحظة سأرتدي في قدميّ الكعب العالي ولن أعود للظفيرة .. سأترك هذه الشعرات مسترسلة في الهواء .. لن أضمهم بشريطة حمراء .. صفراء .. خضراء .. سأصبح إمراة فاتنة الجمال .
وماذا بعد أن داعبت فكرة المرأة خيالك أيتها العصفورة الطفلة ؟
أخذت أحوم حوله كالفراشة تحوم حول الضوء ..أرقب كل تصرفاته .. كل سكناته .. كان صامتا ً
طوال الوقت .. لا يتكلم أبدا ً .. لا يتناول الطعام .. الشراب ..لا يضحك ..لا يبتسم ..لا أعلم كيف يعيش ؟
اقتربت منه وسألته لماذا أنت حزين ؟
هل أنت مشتاق لوالدتك ؟
أجابني والحسرة تملأ قلبه والدموع متحجرة في مقلتيه التي بدت لي في حينها أوسع من عين البحر في ذروة هيجانه : أمي في بلاد قدماي لن تطأها بعد اليوم .
كيف ؟
وجدت نفسي هنا في هذه البلاد بين ليلة وضحاها ..هذه البلاد الوحيدة التي تحوي من لفظتهم البلاد كل البلاد ..ألسنا جميعنا هنا في هذا المنزل من الملفوظين ؟
وتابع بمرارة تقطع لها أوصال القلب : لا أعلم كيف يمكن للإنسان أن يعيش بلا أم .. بلا حضن الأم ..بلا حضن الوطن ..بلا أسرة .. أهل ..أخوة .. أحباب .. كيف ؟
هذه الحرب المجنونة التي لا تقف أبدا ً ..نار جهنم وصُبت فوق رؤوسنا .. كيف السبيل للخلاص منها .. كيف السبيل للنجاة ؟
لم أدر بماذا أجيبه وتسلل الحزن إلى قلبي فأصبحت شاردة مثله ..
في لحظات الرحيل قلت له بل وعدته أن أبحث له عن أسرته وأخبرهم بوجوده هنا في بلاد الملفوظين ربما استطاعوا هم القدوم لزيارته .. وغادرت .
أدمعت عيناي يا عصفورتي ..كيف تحملين كل هذا في قلبك الصغير ..ألا تخافين عليه ؟
لا لم أخف على قلبي بل بدأت في البحث عن أسرته ولكن عبثا ً يا شبحي .
ألم تجديهم ؟
بلا وجدتهم ويا ليتني لم أجدهم ..هم في واد وهو في واد ٍ آخر .. استسلموا للحياة الرتيبة والتناسل والتكاثر وطلبوا فيه العوض من الله .
هل أخبرته بذلك ؟
في الحقيقة ليس بالضبط .. فقد منعت من السفر إليه وتقطعت بنا السبل ولكني بعد فترة أرسلت إليه مرسالا ً يحمل له أخبارا ً كاذبة عن أهل ينتظرونه وهم في غاية الشوق إليه والقلق عليه .
وماذا بعد يا عصفورتي ؟
انتهت الحرب يا شبحي وخرج من بلاد الملفوظين إلى بلاد الله الواسعة .. لا أعلم له عنوانا ً .. وبقيت حرقة في القلب وغصة ومرار لا ينتهي ..
وهل انتهت الأمور عند هذا الحد ؟
لا يا شبحي ..بعد أعوام طويلة فقدت فيها كل أخباره بل كل أمل بوجوده على قيد الحياة .. جاءني منه مرسال يخبرني أنه مشتاق لي .. أنه يحبني .. وأنه لا بد أن نلتقي في يوم ما ....
هكذا إذا .. هذا خبر جميل وماذا فعلت ؟
لم أفعل شيئا ُ ولم نلتق ِ.
حبيبتي أيتها العصفورة المتعبة ..كل شيء في هذه الحياة نصيب ..اخلدي للراحة الآن وفيما بعد نتابع باقي الصور .
يتبع ربما