شبح الجنون ..10
ماذا جرى يا عصفورتي ؟ هل أنت أرسلت في طلب أهل مدينة العقلاء ؟ لماذا يتجمهرون على بابك ؟
لا يا شبحي أنا لم أرسل في طلب أحد ..لا أعلم كيف وصلت لهم أخباري وأنا معتكفة في صومعتي لا أخاطب أحدا ً سواك وألبوم الذكريات .
وماذا يريدون ؟
أخمن أن نار الشوق دبت بأوصالهم .. قد غابوا طويلا ً أخر مرة .. ولكن لا بد من سؤالهم بشكل صريح وواضح .. لم أعد أرغب بالتكهن والتخمين .
نعم لا بد من الاستيضاح الآن يا عصفورتي فنحن على وشك الرحيل .
شبحي .. أرجوك تمهل قليلا ً .. أنت تضغط عليّ وتؤثر في قراراتي .. لا أريد اندفاعا ً بعد اليوم .. يكفيني ما حل بي ّ من جراء اندفاعي وراء أفكار ليس لها أساس من الصحة .
ولكني أحبك .. ألف عام وأنا حبك .. هل ستخذليني ؟
ألف عام وأنت تحبني .. وألف عام وأنا لا أعلم .. ألف عام وأنا أضيع أمام عينيك وأنت صامت .. تحبني وتلتزم الصمت .. لم أستطع أن استوعب هذا الصمت بعد .
عصفورتي هل تشكين بحبي لك ؟
أنا لا أشك في حبك أيها الشبح الطيب ولكن هذا أيضا ً لا يعني أنني سأبادلك الحب ..
ولما يا عصفورتي لا تبادلينني الحب ؟ ألا زلت تحبين أهل مدينة العقلاء ؟
لا تخلط الأوراق يا شبحي .. أنا لن أبادلك الحب لأن الحب لا يأتي باتفاقيات وعقود وصفقات .. الحب لا يأتي كصدقة أو هبة أو مجاملة .. الحب يهبط علينا من السماء كما تهبط حبات المطر على أرواحنا الجافة المتيبسة ..ترويها فتصبح ندية .. غضة .. طرية بعد أن كانت جافة .. متيبسة .. متحجرة .
الحب كالبرق .. كيف يضيء البرق السماء مهما كانت حالكة السواد ؟ الحب يبرق في قلوبنا فيضيئها مهما كان حجم الظلام الذي يحجبها عن الكون .
عصفورتي .. ماذا أنت فاعلة الآن ؟
سأقابل أهل مدينة العقلاء .
أهل مدينة العقلاء : سمعنا أيتها العصفورة أنك راحلة مع شبح الجنون .. ستتركين مدينتك .. مدينة العقلاء وترحلين مع شبح .. إلى عالمه .. عالم الجنون ؟
وهل من مشكلة في رحيلي .. سواء رحلت مع شبح أم مع طيف ملائكي .. ما هي المشكلة ؟
أهل مدينة العقلاء : أتتركين المدينة التي ولدت فيها وترعرت فيها وكبرت فيها وشهدت صباك ؟
أبعد أن أصبحت امرأة ناضجة .. جميلة .. رقيقة تتركين مدينتك وأهل مدينتك وهم الذين يغرقون في حبك ويستأنسون بحضورك ووجودك ؟
أبعد أن أصبحت امرأة جميلة وناضجة ورقيقة ؟ وماذا كنت إذاً وأنا طفلة تلهو بدمية ؟ طفلة بجدائل المدرسة ومريلة الدرس ؟ ألم أكن امرأة مكتملة الأنوثة في نظركم ؟ وإن كنت مجرد طفلة في نظركم لماذا عبثتم بقلبي ومشاعري ؟ لماذا كنتم تلهون بي ّ وبمشاعري .. أنا الطفلة ؟
أهل مدينة العقلاء : يا عصفورتي أنت طفلة وهذا الكون بجله يشهد بأنك كنت طفلة .. حتى هذا الشبح الذي يتربص بجلستنا هذه يشهد بأنك كنت طفلة فلماذا تستنكرين ذلك ؟
أنا لست طفلة .. لم أكن طفلة .. كنت امرأة مكتملة النضج والأنوثة .. اسألوا هذه العصافير المحلقة هنا وهناك التي طالما حطت على كتفيّ ونامت على حضن كفي ّ أسألوها هل أنا كنت طفلة ؟ اسألوها عن الحزن الذي كانت تجده مرتسما ً حول عيني ّ من قسوتكم والدموع التي كنت أغرقها بها عندما أشتاق إليكم وتنتابني نوبات الحنين ولا أجدكم .. اسألوها هل كانت دموع طفلة وأحاسيس طفلة ؟
أهل مدينة العقلاء : يا عصفورتي هل سنحدث الطيور ؟ لسنا بسيدنا سليمان ولا نمتلك معجزة الحديث مع الطيور .
فاسألوا هذه الورود المتسلقة على شرفات نوافذي .. هل قطفتها يوما ً وزينت بها خصلات شعري حتى أجذبكم إلي وأنا التي كانت خصلات شعري تسافر إليكم فجر كل يوم ثم تعود مساء ً مكسورة الجناح ؟
اسألوا هذه الورود .. هل قطفتها يوما ً ومزقت أوراقها ونقعتها بالماء واغتسلت بها كي تجذبكم رائحة الورود إلى جسدي وأنا التي كنت أظن أن رائحة الطيبة في قلبي هي من يجذبكم إلى قلبي الطيب الحنون ؟
اسألوا هذا الورود التي طالما سهرت معها .. حضنتها وضممتها إلى قلبي كما تضم الأم وليدها .. كم قبلتها كي تشعر بالدفء والحنان .. وأنتم الذين تقطفون الورود لتتزين بها نساؤكم.. يغرسنها في خصلات شعرهن المستلقية على أكتافكم في لحظات المساء .. وفي ساعات الصباح تلقون بهذه الورود الجميلة إلى الطرقات كي تعصف بها رياح شريرة وتؤدي بها إلى الفناء .
أنتم لا تحبون إلا أنفسكم والنساء اللواتي يتلّوَن حسب أمزجتكم .. تحبون المرأة أن تكون صيفا ً حتى لو كانت شتاءً ..
أنا لا أتلّون ولا أتقلّب .. فإذا ً أنا طفلة ؟
ولكن دعوني أخبركم أمرا ً ما.. لو بعد ألف عام أنا سأبقى طفلة ولن أصبح امرأة على أمزجتكم وأهوائكم .. لن أزين خصلات شعري بالورود .. لن أغتسل بماء الورد .. لن أسجن طير الكنار في قفص
كي يردد لكم الأشعار .. لن أكون صيفا ً أو شتاءً إلا عندما أريد أنا أن أكون .. ومدينة العقلاء هذه لكم أنتم .. المتلونون .. أصحاب الأمزجة المتقلبة والأفئدة المتقلبة ..
عصفورتي .. إذا سترحلين معي الآن ؟
شبحي .. أرجوك أتركني الآن .. في الغد ربما أقرر أما الآن فأريد أن أبقى وحدي .
لو سمحتم غادرونا بلطف .. العصفورة تريد أن تبقى وحدها .. عودوا من حيث أتيتم .. ولا تنسوا أن تأخذوا ورودكم الذابلة معكم .. عصفورتي لا تسمح بقصف أعمار الورد كي تطيل عمر الود .