شبح الجنون ..12
عصفورتي .. أرجو ألا يكدر صفوك كلامهم الجارح .. ما كان عليك أن تستمعي إليهم .. لقد بدت عليك معالم الحزن بعد هذا الحديث الجاف والخالي من كل معاني الإنسانية.
آآآآآآآآآآآآآآه يا شبحي إني أغرق في كآبة ليس لها حد .. لم أكن أتخيل أنني في يوم من الأيام سأستمع إلى مثل هذا الكلام .. لم يكن كلاما ً يا شبحي بل خناجر مسمومة صوبت إلى قلبي .. هذا القلب الذي أحبهم وأخلص لهم وانتظرهم .. كانت نهايته على يد خنجر غرس في الصميم .
عصفورتي ..كان لا بد من معرفتهم على حقيقتهم .. هم كذلك .. لكنك أنت من كنت ترينهم بشكل أجمل .
نادمة يا شبحي .. أكاد أموت من الشعور بالندم .. كلما تذكرت ليالي الانتظار الباردة .. الطويلة .. كيف كنت أدفئها بوعودٍ ً طويلة لأمل كاذب .. أرطبها بأحلام أعلم جيدا ً أنها ولدت ميتة .. كنت أتحايل على ظلام الليل كي لا يحل عليّ .. كي لا يأتيني .. كي لا يسلمني للضجر مبكرا ً .. كنت أخشى أن تداهمني سنة النوم وأنا في حالة الضجر هذه .. كنت أكذب على نومي حتى أستقبل نهارا ً آخر .. نهارا ً مختلفا ً .. نهارا ً يشبه تلك النهارات التي كنت أصحو عليها برفقتهم .. ولكن عبثا ً .. عبثا ً ما كنت أحاوله يا شبحي .. كان الليل يحل باكرا ً جدا ً .. ربما قبل أوانه كانه لم يرحل من ليلتي بعد .. وربما لم تشهد عيناي المثقلة بالضجر خيوط الفجر وهي تتسلل معلنة نهارها الجديد على ساحات جفنيّ ..
ساعة النوم عندي هي ساعة الموت ..أودع فيها هذا العالم .. كنت أمرُّ ليلا ً على نوافذهم المضاءة ..ألقي عليهم نظرة الوداع المشبعة بالحسرة .. أرفرف بجناحي ّ رفرفة حزينة .. مكسورة .. رفرفة أخيرة .. رفرفة الوداع ..وأعود مثقلة بالوجع .. بالقهر .. بخيبة الأمل لأستقبل موتي ببرود شديد .. وحين أصحو من موتي صباحا ً لا أعلم إن عدت للحياة أم أن جثتي تتحرك في مكانها ؟
أنت تثقلين على نفسك أيتها العصفورة الطيبة .. لو كانوا يستحقون كل هذا الحزن لقلت لك احزني عليهم .. حدثيني عنهم .. فضفضي لي .. بوحي أكثر .. دعينا نتذكرهم سوية ففي ذكراهم شفاء من كل سقم .. لكنهم لا يستحقون .. لا يستحقون .
أغبياء .. أسمعت ما قالوا هم عن أنفسهم أغبياء .. لماذا كتب عليّ ألا ألتقيِ إلا الأغبياء ؟ لماذا لا يقع اختيار قلبي إلا على الأغبياء ؟ أخبرني يا شبحي هل يوجد في مدينة العقلاء .. بين أهل مدينة العقلاء من هو ليس بغبي ؟ أرجوك أرشدني إليه .. أتمنى أن ألتقي أحدا ً لم ينتحل عذرا ً لفظاظته وخيانته وغدره غير الغباء ؟ لا يتفقون في شيء سوى في الكذب وأنا في سوء الحظ ..
عصفورتي ..لا أريد أن أرى الدموع تتلألأ في عينيك لأجل هؤلاء .
الدموع لا تتلألأ في عيني لأجلهم يا شبحي .. بل لأجلي .. لأجل هذه العصفورة المعذبة كم كان حظها عاثرا ً في وطنها .. في عالمها .. في مدينتها .. بين أهلها .. لدى محبيها .. أن كنت غريبة هنا فأين سأكون لست بالغريبة ؟
هم قالوا بالحرف الواحد ستبقين غريبة .. غريبة ..غريبة .. هل تشترى الأوطان يا شبحي ؟ هل يشترى الأهل يا شبحي ؟ كيف أطير بأجنحتي بعد اليوم إن لم أعرف لي وطنا ً أعود إليه ؟ كيف أفرد أجنحتي للطيران وأحلق في فضاءات مجهولة من دون حلم .. دون أن أحلم بحضنهم يضمني في المساء .. يحتويني .. يحتوي تعبي .. تجوالي .. سفري ..عودتي ؟
عصفورتي ..هم متجمهرون في الخارج وفي نيتهم منعك من الرحيل معي .. ماذا أنت فاعلة ؟ أرجو أن لا تتأخري في قرارك ..الوضع أصبح يصعب أكثر فأكثر .
نعم يا شبحي الوضع بات صعبا ً أتعلم لماذا ؟ لأنهم ببساطة شديدة يعتبرونني من ممتلكاتهم .. من مقتنياتهم ..في عالمهم هذا الذي أغرقته المادة الأمور عندهم لا تقاس إلا بالمادة ..أنت سمعت بنفسك يا شبحي ردودهم ووجهات نظرهم ..المشاعر والأحاسيس من وجهة نظرهم بالية ..قديمة .. متعفنة ..ليس لها قيمة في عالم المادة الذي يتيهون فيه ويغرقون فيه حد الثمالة ..كيف ستكلم آلات بشرية ..لها هياكل آدمية فقط ولكنها في داخلها متحجرة لا تعمل إلا بضغطة زر ؟ كيف ستفهمهم خيبة أملي ورجائي فيهم ؟ كيف ستخبرهم اني أغرق في كآبة وحزن هم من حفر لي قبره .. كيف ستفهمهم أنني لا أستطيع العيش غريبة في وطني وفي حضن أهلي ؟ كيف يا شبحي ؟ كيف ؟؟
عصفورتي ..أتركي هذا الأمر لي ..أنت لن تقابليهم بعد اليوم ..أنا من سيتصدى لهم