شبح الجنون ..13
لم أرَ عصفورتي على هذه الحالة من الحزن قبل الآن .. كأنك عصرت حزن الكون كله وأمضيت الليل في احتسائه حتى الثمالة .
لم أشعر بتناقض كبير في حياتي يا شبحي كالذي يعتريني الآن .. أذكر أنني حين أخبرتك عن الحروف التي ارتسمت في فنجان قهوتي صدفة ذات صباح .. عن الوصفة السحرية ..عن الثورة التي هبت في أرجاء قلبي ..عن العاصفة الهوجاء التي اجتاحت فكري .. مخيلتي .. أحلامي .. عن رغبتي الأكيدة في الطيران مجددا ًً.. عن التحليق في فضاءات لا حد لها خلف ذيل قصة عتيقة وأدتها حية قبل قرن من الزمان ..عن نيتي في أن أهبّ إليها قبل فوات الآوان كي أميط عن ما بعثرته فوقها من أتربة .. كي أعيد لها دورة الحياة .. كي أسكنها وتسكنني وأعيش ما بقي من عمري في كنفها ولو داخل أقبية قبرها .
لكنني اليوم وبعد أن اصبت بطلقات من خيبة الأمل وبعد أن احتل الحزن قلبي أشعر أنني عزفت عن فكرة الطيران من جديد .. لم أعد أرغب حتى بفرد أجنحتي ولو لبعض الوقت .. أرغب يا شبحي في الإنزواء بعيدا ً ..أرغب بالمكوث هنا قرب هذا الموقد وثلة الحطب .. أشعر ببرد شديد يمزق أوصالي .. حتى هذه النوافذ المطلة على مدينة العقلاء وأهلها أود إغلاقها بإحكام .. أخشى أن تتسرب إلي منها رياح باردة تبثها أجسادهم الخاوية .. أخشى البرد يا شبحي .. أخشى الصقيع .. أخشى التجمد الذي بدأ يهدد حياتي .
كلمات مبتورة من أناس مزيفين تفعل بعصفورتي كل هذا ؟
ليست كلمات مبتورة يا شبحي .. ليست مجرد كلمات مبتورة .. بل هي الخديعة ..هي طلقات الخديعة يا شبحي التي صوبت لقلبي .. بركة من الوهم كنت أعوم فيها حتى كدت أغرق ..ابتلت أجنحتي وقصفت من البرد وتقول لي كلمات مبتورة .
كنت أؤسس في داخلي مدينة من الأوهام في فكري .. أحلم بأناس يشبهونني ..ينطقون لغتي .. يجيدون أبجديتي .. يفهمون عشقي .. أسكنهم كما يسكنونني .. فإذا بي أسكن الفراغ .. أسكن العدم ..
أسكن اللاشيء .
لا أحد يشبهنني يا شبحي ..لا أحد ..لا أحد يشبهني سوى من رسمتهم أبطالا ً في أوهامي .. في أحلامي .. في خيالاتي الجريحة .. في أفكاري المنسوجة من حبر على ورق .. وعندما حاولت استنطاقهم .. فقدوا النطق ..أصابهم الخرس يا شبحي وأنا التي كنت أسمع رنين أصواتهم يوقظني من مناماتي فأقف كالمسحورة أمام عذب كلماتهم .. نسيت أنني أنا من خط أحرفها بلهيب أناملي .
رسمت خديعة كبيرة لنفسي .. أوقعت فيها ذاتي .. أغرقتها وعندما أوشكت على الهلاك لم تجد حولها طوق نجاة .. كل ما حولي يخنقني يا شبحي .
وتلك الحروف يا عصفورتي .. ما هو مصيرها الآن ؟
تلك الحروف يا شبحي دعها تهنأ في قبرها .. لن أميط عنها التراب .. سأدعها تموت .. سأخنقها قبل أن تخنقني ..قبل أن يأتي يوم فتقف في بابي وتطلق على قلبي الرصاص .
قد كنت امرأة حبلى بالوهم يا شبحي ..تسعة أشهر أحمل بين أحشائي وهما ً وحين تمخضت أنجبت جنينا ً من الوهم .. هل سأربي الوهم طفلا ً لي ليكون عكازي الذي أتكئ عليه في أيام كهذه ؟
هل يعيش أطفال الوهم ؟ هل يكبرون ؟ هل يصبحون رجالا ً ؟ أم يبقون مجرد أقزام في زمان أفراده هم عمالقة الخديعة ؟
وصندوق الذكريات يا عصفورتي ؟ هذا الذي تحملينه منذ ألف عام بين أضلاعك ماذا ستفعلين ؟
سألقي به لهذا الموقد .. حطبا ً للشتاء القادم .
يتبع ربما