ذاكرة الفن وشهوة المكان
[align=justify]
كل أديب أو فنان أو مبدع لا بدّ أن تجد عنده ، وإن في زاوية من أعماقه ، ميلا ما لأن يكون عالميا ، منتشرا ومشهورا ومعروفا في بلاد الله الواسعة .. وباعتقادي الشخصي هذا شيء مبرر وإن كان مجرد حلم يراود الكتاب والمبدعين كونهم قبل أيّ شيء آخر ، يقدمون ، كلٌ من وجهة نظره ، أفضل ما عندهم من فن ، ويبذلون حياتهم في الطريق الطويل الشاق المتعب المضني ليضيفوا شيئا إلى الإنسانية بمعناها الواسع ..وهنا لا داعي لأن نقبل أو نرفض، قول هذا أو ذاك ، ما دام نابعا من رأي شخصي محض لا دخل فيه لآراء الآخرين وميولهم وأمزجتهم .. فالظن الفردي ، خاصة في الفن ، ظن يقوم على حساب قياس ضيق يتعلق بالشخص صاحب العمل ..وإلا لما تقدم لنيل الجوائز الكبيرة أو الصغيرة ، أشخاص من مشارب ومذاهب وألوان أدبية متنوعة ، يلحظ المدقق أو المراقب الاختلاف الشديد بل الغريب بين قيمتها وافتراقها عن بعضها البعض افتراقا قد يكون مذهلا لبعد القيمة بين عمل وعمل .. وفي ظن من قدموا أعمالهم شيء مشترك لا جدال فيه أنها جيدة ، إذ من غير الممكن أن يقدموا عملا غير جيد لنيل هذه الجائزة أو تلك .. لكن ما دخل كل ذلك بالعالمية ، وسعي كل فنان أو توقه إلى أن يكون عالميا ؟؟..
هناك صورة أولية وبسيطة ينساها من يتطلع إلى العالمية ، ويبني تصوره على أنها غير مهمة ، وهي ضرورة انطلاقه من شهوة المكان الذي يعيش فيه قبل أي شيء آخر ، وهي شهوة يجب أن تكون حادة بل مغرقة في جزئيات المحلية ، مع التناسي الكلي لما هو أبعد من ذلك ..فالإنسان هو الإنسان ، في أي مكان من العالم ..وفهم الأديب أو الفنان لبيئته ومكانه وذهابه فيه عشقا وذوبانا يعني فهمه لطبيعة الإنسان في كل مكان ، وامتلاكه القدرة على التعبير عن الإنسانية جمعاء مما يؤهله لأن يكون في قمة محليته فنانا عالميا ، ولأن يكون في قمة شهوته وغرقه في المكان الذي يعيش فيه إنسانا يضم العالم كله في صدره وكلماته وتعبيره ..ويخطئ من يظن ، وكثرة من أدبائنا يأخذهم هذا الظن أو يؤثر بهم ، أنّ العالمية تعني الابتعاد عن كل ما هو محلي والذهاب إلى تقليد الأجنبي بكل شيء ، متناسين أنّ الظروف تختلف ، والطينة التي تشكل العمل لا علاقة لها بطينة نأخذها من تربتنا .. فيصير الفنان المقلد أو المتمثل لما هو غربي غريب ، ليس أجنبيا أو محليا أو عالميا .. إن الصفة التي تناسبه هنا يمكن أن تسمى انسلاخا عن جلده ولون بشرته ولغته وتجربته دون الوصول بأي شكل من الأشكال لأن يكون مثل الأدباء الذين يقلدهم، لأن هؤلاء الأدباء الذين يقلدهم يكتبون عن وعي وتجربة وغرق في المكان والمحلية والماضي والحاضر، أي أنهم لا ينفصلون ولا يتناقضون مع طبيعتهم وتكوينهم ولون بشرتهم ..فهم يعبرون عن شيء مفهوم بالنسبة لهم ، ومحبوب أيضا ، بينما يكون من يقلد منفصلا عن كل هذا ، أي أن تقليده ينبع من تتبع أثر الآخرين والبحث في شكل بصماتهم، وهذا لا معنى له في مقولة شهوة المكان ، لأن المكان الذي نحب يكون مفقودا وهو بين أيدينا ، والمكان البعيد الذي لا نمت إليه بصلة يكون موجودا وهو غير منظور أو محسوس ..
كانت عظمة نجيب محفوظ منطلقة من شهوة المكان عنده ، فكبر وعلا شأنه ووصل إلى العالمية دون أن يسعى إليها .. كان يخدم أشياءه الحميمة ويستدفئ بما هو موجود بين يديه فقطع الأشواط الطويلة دون أن يلهث وراء أحد .. كان وزنه وقيمته في مكانه ، ومن هذا المكان استطاع أن يكون عالميا باقتدار..
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|