عرض مشاركة واحدة
قديم 11 / 05 / 2009, 14 : 04 AM   رقم المشاركة : [1]
هشام البرجاوي
ضيف
 


لمسات السيد ألبير بيرجوان.

[align=justify]صفحة ذكرى و إن أرسل أريجها المعتق جذوره إلى الماضي البعيد، فإنها باقة كلمات إنسية تستحق أن أهديها إلى الأديبة السعيدة سلوى حماد...صاحبة اللمسات الإنسانية الرقيقة عبر صفحات نور الأدب.
و يروق لي أن أكتب على ورقة بيضاء عابرة..."يبدو لي أن لمسة الشاعر ريلكه تتماهى مع لمسات السيد ألبير بيرجوان."


إذا شاء القدر للحظات أن يعيدني إلى أوقات الماضي السعيد، فلا شك أنه سيعيدني بملء اختياره إلى الطفولة، تلك المرحلة العابرة التي قضيتها مسجورا بنسيم الستينات و السبعينات. لم أكن أعرف سوى مفردات اجتماعية قليلة، كان أعظمها على الإطلاق :"الوالدين" و "المعلم" و "الأصدقاء". خلال أيام الشتاء القارس، كانت الأم حريصة على إيقاظي عند الساعة السابعة صباحا، أتقاعس في إزالة جسدي من الفراش الدافئ، تمضي دقيقة، دقيقتان، خمس دقائق، يأتي والدي بخطى متباطئة ليزيل بتؤدة الغطاء. أغسل وجهي بالماء البارد، نزولا عند رغبة الأم التي كانت تنصحني دائما باستعمال الماء البارد لإنعاش وجهي لأنه يسمح للبشرة بالانتصار في معركة مكافحة التجاعيد. بعد الاستعدادات التي تمر متثاقلة، نتحلق حول مائدة الفطور و يغادر كل واحد منا إلى وجهته المعتادة. أصل باب المدرسة قبل دقائق من دق ناقوس الاصطفاف في الساحة لأداء تحية العلم. يتكفل المدير برفع العلم القومي و يردد التلاميذ و المعلمون النشيد الوطني المغربي باعتزاز. الحناجر تتفاعل مع مفاصل النشيد و يسدل الستار على المشهد الوطني الجميل بدخول كل فوج من التلاميذ إلى صفه. ما كان يثير التساؤل هو المعلمون الفرنسيون الذين كانوا يدرسوننا في مواد اللغات الأجنبية و المواد العلمية. لقد كانوا أكثر حيوية و لمعانا لدى تحية العلم المغربي. فرنسيون أكثر حماسا من المغاربة خلال تحية العلم المغربي؟ لم تكن المسألة مرتبطة بالمكر الاستعماري أو ما كان يسميه مدرسو التربية الإسلامية "المثاقفة"، لقد أظهر أساتذتنا الفرنسيون حماسا واضحا و رغبة صريحة في تنفيذ واجبهم المهني دون أي اعتبارات من أي نوع يتناقض مع الضمير التربوي الجمعي. و بينما ينفق معلمو التربية الإسلامية كل الحصة في تذكير أطفال أبرياء بأهوال جهنم و يوم الحشر، كان المعلمون الفرنسيون روادا في مضمار الأنشطة و المسابقات الثقافية. لا يزال عالقا في ذاكرتي، ذلك اليوم الاستثنائي، الذي دخل فيه السيد بيرجوان علينا متأبطا ترجمة شخصية لمقتطفات مأخوذة من كتاب "كليلة و دمنة"، اقترب من السبورة و كتب بخط فرنسي واضح :"الصداقة". كتبها بكلتا اللغتين، العربية و الفرنسية، ثم استخرج من محفظته السميكة كتابا آخر يحمل عنوان :"Les fables " أو :"حكايات" للشاعر و الأديب الفرنسي لافونتين. خصص السيد بيرجوان الحصة لشرح نوعية الانسجام بين كتاب المقفع و "صديقه الشاعر الفرنسي لافونتين" على حد تعبير مدرس اللغة الفرنسية. لا أدري كيف خطرت هذه الفكرة الأنيقة على ذهنه، لكنها بدت لجميع أصدقائي جميلة و لطيفة، و ازداد احترامنا لأستاذنا عندما أدركنا أنه قضى الشهور الأولى من الموسم الدراسي في تعلم اللغة العربية من أجلنا، كانت غايته الوحيدة ضمان تواصل سليم و متين مع تلامذته، و هذا ما حصل، فبعد فكرة التقريب الإنساني بين كتابين ينتميان إلى نطاقين حضاريين متمايزين، وقفنا جميعا و صفقنا للأستاذ الرائع. يومئذ، قال جملته التي لن أنساها أبدا :" أضيفوا اللذة على الإرادة، و ستحققون كل غاياتكم النبيلة يا أبنائي الأحبة"، نبس هذه الجملة المليئة بالحب الكوني بلغة عربية فصيحة، و منذ ذلك اليوم تهامسنا بضرورة التفاعل مع الأمل التعليمي للسيد بيرجوان الذي خلب خواطرنا بسلوكات غاية في البساطة، لكنها كانت مفعمة بدروس عظيمة تتراءى عظمتها في ترسخ ذكريات السيد بيرجوان في أذهان كل الأصدقاء الذين اقتسموا روعة الحضور إلى فصله الخلاب قبل أربعين سنة أو أكثر. مفاجآت السيد السعيد لا تنضب، فقد دلف من باب القسم ذات مرة و قبل أن يخصنا بتحيته الصباحية الوديعة، كتب بخطه الجميل المعهود :"العنصرية". شرح لنا المفردة قليلا ثم وزع علينا ورقة تحمل قصيدة للشاعر الفرنسي الراحل:"فرانسيس بلانش"، و قرب اسم الشهرة العائلية "بلانش" للشاعر، كتب بخط يده أن كلمة بلانش تعني بالعربية :"البيضاء". بعد قراءة القصيدة، و تشريح مفرداتها تطبيقا لنظرية المفتش التربوي الفرنسي العظيم هنري ترونشار و التي تقيم علاقة ترادف شاملة بين المعنيين الأخلاقي و الأدبي للنص القرائي الموجه للأطفال، سألنا السيد بيرجوان عن فائدة التوضيح الذي كتبه بجانب اسم الشاعر، طلب منا قراءة السيرة الذاتية للشاعر. و تبين لنا أن فرانسيس بلانش كان من المناهضين للعنصرية التي سادت المجتمع الفرنسي إزاء العمال القادمين من المستعمرات الفرنسية السابقة، و كي يؤكد على إنسانية كل البشر، تزوج من سيدة افريقية تدعى "أنجليكا" و قد أنجز الزوجان تصريح القران لدى رجل دين كان مشهورا بعنصريته، و قد اضطر أن ينطق :"السيدة أنجليكا بلانش"، أي "أنجليكا البيضاء" و في تلك اللحظة انحنى فرانسيس و همس في أذن القس :"إذا لم تكن بشرتها بيضاء فإن بياض قلبها أشد نصاعة من بياض بشرتك أيها الأب". لا أملك سوى أن أتمنى الهناء و السمو لروح السيد ألبير بيرجوان الذي توفي في الخامس عشر من نيسان سنة 1975. و قد ظلت المدرسة تحمل اسمه إلى أن استهلكها القدم و قامت السلطات الإدارية ببناء سلسلة دكاكين تجارية في مكانها.
[/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
  رد مع اقتباس