لنقصّ الحكاية مجدداً
إلى ادوارد سعيد في أبديته
كيف له أن يهرب من ملامح وجهه، وعينيه الحادتين، هو رجل شرقي، أنيق، ويبدو التفكير العميق واضح على تضاريس وجهه، قالها بعفوية، أفنيو سفن. انطلقت العربة مسرعة وسط شوارع نيويورك العريضة، مضت لحظات طويلة من الصمت.
- أنت من هناك؟
فكر ادوارد بعض الوقت، وأدرك ماذا يقصد السائق بعبارته تلك
- وأنت من هناك!
- نعم، ولكنّي لم أخدم في الجيش.
- هل تحاول الاعتذار؟
- ربما، ولكنّي شعرت بضرورة إعلامك بهذه الحقيقة.
انتهى الحديث عند هذا الاعتراف، رجل وُلِدَ يوما ما في القدس، وهاجر إلى أمريكا مجبراً، على مغادرة الوطن تحت وطأة الاحتلال. وآخر حضر من آخر الدنيا ليصبح جزءاً من أرض التوراة الموعودة. وأصبح كلاهما خارج نطاق هذا الكيان مرة واحدة، بعد أن حاولت الآلة العسكرية حرق كلّ ما يمتّ لفلسطين التاريخية بصلّة.
لفظت عربة الأجرة إدوارد سعيد، صاح السائق مودّعاً:
- ربما نلتقي .. يوما ما ..
كانت تلك لحظة هاربة من ذاكرة الزمن والتاريخ، أين يمكن أن يلتقي مفكّر بحجم الراحل ادوارد سعيد وآخر قادم من هناك أيضا، ليحاول الاعتذار عن شيء لم يرتكبه.
علينا أن نقصّ حكايتنا للعالم مجدداً، لجميع الذين يعتقدون بأن هناك سلطة حقيقية ومشاكل قائمة بين كيانين متماثلين في القوى ومقوّمات الحياة.
أبناء الحجارة كانوا قادرين على هزّ شباك الأمم المتحدة، ومخاطبة الضمير العالمي، والآن أصبحنا مشروع دولة إرهابية في عيون العالم الغربي، وربما العربي أيضاً، من يدري؟
لنقصّ الحكاية ثانية، حكاية فلسطين منذ الحرف الأول، لم يعد العالم يثق بنا، لنقصّها إكراماً لمحمود درويش وإدوارد سعيد ومعين بسيسو وغسان كنفاني، من أجل أعين الأرامل والأيتام، وأطنان اللحوم التي شويت في جحيم غزة، من أجل محمد الدرّة، ومن أجل القدس التي أضعنا الطريق إليها. فقدنا حتى الكوفية، أصبحت الآن رمزا للجمال فقط في العواصم الأوروبية، بعد أن كانت رمزاً للتمرد. غزت الكوفية الفلسطينية أسواق الموضة في أوروبا، بعد أن فُرِّغَتْ من محتواها.
لنقص حكاية الفتى الذي غادر يوما ما على جناح طائر، كان يظن بأنه سيحلّق يوما أو اثنين فوق المتوسط ثم يعود ليحطّ في مسقط رأسه، شاهد الشنّار يطير بحثاً عن حبات القمح، شاهد الزيتون وقد جفّت أغصانه، شاهد انعكاس الوطن في عينيّ جندي، نظر إلى الساعة، فوجد بأنّ الوقت مرّ مسرعاً، انقضى على رحيله ما يقارب ربع قرن ويزيد، أدرك بأن لحظة الموت قد حانت، حاول أن يعترض، حاول أن يصرخ بملء فمه، تساءل بملء صوته: لقد تأخرت، لكني ما زلت أرى انعكاس الوطن في عينيّ حفيدتي. تساءل مجدداً: هل ينتحر الأمل مجدداً؟ بعد أن أغْمِضَ عينيّ وأوارى الثرى في إحدى مقابر نيويورك. أخبريني يا أمي: هل يموت الأمل؟
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|