[align=justify]
مقدمة المؤلف
(1)
كان من المفترض أن يظهر هذا الكتاب إلى النور منذ عام 1990، ولكن لأسباب كثيرة لم يظهر في ذلك الحين. وبعد مرور نحو سبع سنين على تأليفه، تضاءل حجم الاهتمام بالانتفاضة الفلسطينية خلالها، ظننت أن إمكانية نشر كتاب عن أدب الانتفاضة قد تلاشت تماماً، لكن الأخوة الأدباء والنقاد الذين أتيح لهم الإطلاع على مخطوطه شجعوني كثيراً على بذل الجهد، ما أمكن لنشره، إذ رأوا فيه ما يستحق أن يقرأ، وإني لأرجو أن يكونواً مصيبين في رؤيتهم هذه...
(2)
على الرغم من التراجع النسبي الذي طرأ، مؤخراً، على حجم الاهتمام بالانتفاضة الفلسطينية، كحدث، بعدما ظلت، ولفترة طويلة عقب انطلاقتها، في مركز الاهتمام على مختلف الصعد والمستويات: عربياً وإسرائيلياً ودولياً، فإن هذا البحث الذي سيحاول إلقاء حزمة ضوء على بعض مظاهر تأثير الانتفاضة، في الساحة الأدبية، داخل الوطن الفلسطيني المحتل، تحديداً، يكتسب أهميته، وربما ضرورته، من عدة نواح:
1- بين الكثير من الدراسات والأبحاث التي ألفت حول الانتفاضة، وتناولت تأثيراتها في مختلف جوانب الحياة بالنسبة لكلا الفلسطينين والإسرائيليين على السواء، لم يتعرض سوى قليلين من مؤلفي تلك الدراسات إلى تأثير الانتفاضة في النتاج الأدبي العربي بشكل عام، والفلسطيني بشكل خاص، هذا ناهيك عن غياب، قد يكون كاملاً، لدراسة تأثيرها في النتاج الاسرائيلي المتزامن، تأليفاً وصدوراً، مع أحداثها.
2- ومن منطلق القناعة بأن تأثير هذه الثورة العظيمة في مجال الأدب وعلى الصعيدين الفلسطيني والإسرائيلي ليس أقل قوة ولا أقل أهمية من تأثيراتها في المجالات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أوالعسكرية... إلخ، تولدت فكرة هذا البحث الذي يطمح إلى سدّ فراغ، ولو صغير جداً، في بنية المادة البحثية التي صدرت عن الانتفاضة، حتى الآن...
3- وثمة ما يدفع إلى الاعتقاد بأن هذا البحث، وفي هذا الوقت بالذات، يكتسب المزيد من الأهمية لإمكانية النظر إليه كمذكر بضرورة الاستمرار في إبداء الاهتمام بالانتفاضة التي ما زالت، رغم كل المعيقات والعقبات ومحاولات التهميش والتعتيم، حدثاً بارزاً له حضوره المستمر الذي يؤكد مع كل يوم يزاد فيه بعمره، أنه الصرخة العربية الأصيلة التي تأبى أن تتلاشى، والتي تستحيل على كل محاولات إسكاتها، بوصفها العنوان الأكثر بروزاً وتذكيراً بالحق والكرامة العربيين..
فصحيح أن هناك العديد من الأحداث الهامة على الساحتين العربية والدولية، قد جذبت قدراً كبيراً من أضواء الاهتمام بالانتفاضة، وكادت تحيلها إلى مجرد حدث روتيني لا يستأهل المبالاة بمجرياته ونتائجه ومستقبله، إلا أن استمرارية هذا الحدث، على الرغم من تضاؤل الاهتمام به، تدفع إلى ضرورة إعادة النظر بمدى أهميته، وإلى ضرورة عدم إهماله في زحمة الاهتمام بمستجدات الأحداث المزامنة له...
(3)
يقود الاستقراء الموضوعي لمجريات الانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت أواخر العام 1989، وما نجم عن تصاعدها وتطوراتها من نتائج، في مختلف المجالات، وعلى مختلف الصعد والمستويات: عربياً وإسرائيليا ودولياً، إلى افتراض الصحة في توصيفها بأنها تعد، في المسار التاريخي للصراع العربي/ الصهيوني، حدثاً ذا خصوصية مميزة... ولعل من أهم جوانب هذه الخصوصية، وأكثرها بروزاً، هو استمرارية هذه الثورة، بزخم متصاعد، على الرغم من كثرة التحديات التي واجهتها، وضخامتها وعنفها، وعلى الرغم من الثمن الباهظ جداً الذي كلفته مواجهة هذه التحديات، وما تزال..
وقد كان لا بد لمجمل المتغيرات التي أحدثتها استمرارية الانتفاضة، أن تترك تأثيراً واضحاً في معظم صفحة النتاج الأدبي المتزامن، إيداعاً وصدرواً، مع حدث الانتفاضة.. ذلك أن الأدب من نوع الفعاليات الإنسانية الأسرع تأثراً بالمعطى الحدثي، والأكثر استجابة وقابلية للتفاعل مع المتغير الذي ينجم عنه... وربما، لهذه الخصيصة المميزة لطبيعة الأدب عُدّ،ومنذ أقدم العصور، مرآة الأمة التي تنتجه، والذاكرة الجمالية لأحداث تاريخها ولإرهاصات هذه الأحداث مقترنة بتطلعات أبناء الأمة وطموحاتهم، في آن واحد...
بتعبير آخر، عُدّ أدب الأمم، ومايزال، تاريخها المكتوب بأسلوب فني، ومن وجهة نظر جمالية ترصد متغيرات الراهن، وتسجلها، وتتنبأ باحتمالات المستقبل، على نحو فيه من الصدق والمتعة والغنى أكثر مما هو موجود في كتب التأريخ المتخصصة...
من هذه الزاوية المحددة في الرؤية، لجدلية العلاقة التفاعلية بين المعطى الحدثي والإبداع الأدبي، يمكن القول: إن الانتفاضة بسيرورتها الحديثة، وبجملة المتغيرات الي تضمنتها نتائجها الحاصلة حتى الآن، كانت محرضاً قوياً على الإبداع، في المجال الأدبي، وعاملاً فعالاً ومؤثراً، في تحديد نوعية مضامين هذا الإبداع، وفي الأسلوب الفني لإخراجه، أيضاً...
ويقود استقراء الخارطة الجغرافية للنتاج الأدبي العربي المزامن لحدث الانتفاضة، إلى الاستنتاج بأن أكثر المواقع تأثراً بهذا الحدث ونتائجه هو مسرحه المكاني، أي داخل فلسطين المحتلة... وهذا بدهي، لعدة عوامل، من أبرزها: أن الأدباء الفلسطينيين هناك لا يعانون مجريات الانتفاضة عبر نشرات الأخبار وتعليقات الصحافة، بل يعيشونها واقعاً حياً وممارسة يومية، ينغمسون فيها، ويشارك بعضهم في صنع حركيتها، عبر ممارسة النضال والتحدي، وعبر الإصرار على استمرارية هذا التحدي، على الرغم من احتمالات التعرض للاعتقال والسجن والإقامة الجبرية وتكسير العظام، وحتى احتمال التعرض لمواجهة الموت.
وهذا يعني أن ما كتبوه عنها لم يكن ترفاً إبداعياً أو مجرد تعبير عن التزامهم بقضايا وطنهم وشعبهم فحسب؛ بل كان، إضافة لمحاولتهم تأكيد هذا الالتزام، تعبيراً عن معاناة مباشرة، وعن تجربة حياتية صعبة يخوضونها صباح مساء، وهم يجسدون التزامهم ممارسة، على أرض الواقع قبل أن يجسدوه منطلقاً ورؤية، في نسيج إبداعاتهم الأدبية ومضمونها...
(4)
وضمن هذه البقعة الجغرافية الملتهبة بالحدث المتفجر، ووسط دوامة الفعل ورد الفعل اليومية، ليس كالشعر فنّ قادر على رسم صورة الانفعال الآني، وعلى التوتر بأنات الوجع وامتدادات الصراخ وترجيعاتها، وليس كمثله قدرة على نقل رؤيا القادم المأمول في ذروة الإحساس بالنزيف وآلام الجراح.. وإلى حدّ ما، يمتلك البناء الفني للقصة القصيرة بعض قدرة البناء الفني للقصيدة الشعرية، على التفاعل مع الحدث الآني، والنبض بتوتراته العنيفة.. وهذا يعني أن كلا هذين النوعين الأدبيين قادر- مع ملاحظة أن الشعر أكثر قدرة- على إيصال الشحنة الانفعالية الآنية بالحدث، من ذات المبدع إلى القارئ، وهي ما تزال محتفظة بعد، بقدر كبير من حرارتها... وهذه القدرة، تعد بين أبرز ما يفسر إمكانية مواكبة القصة القصيرة لسيرورة الأحداث وتطوراتها، بخلاف الرواية التي لا تتاح لها مثل هذه الإمكانية إلا نادراً.
وبالطبع لا تعني النظرة السابقة لفن القصة القصيرة على افتراض صوابيتها -طغيان انفعالية الشعر ونبرته الحماسية العالية، والمباشرة غالباً، على ماصدر من قصص قصيرة، داخل الوطن المحتل، في زمن الانتفاضة. ذلك أن القصة القصيرة -في معظم نماذجها- بقدر ما تقترب من الشعر في قدرته على التفاعل السريع مع الحدث الآني، بقدر ما تقترب، وفي ذات الوقت، من فن الرواية، في امتلاك بعض قدرته على تعميق الحدث ومحاولة تحليل عدد من دوافعه وأهدافه ونتائجه بشيء من البرود الموضوعي.. وهذا ما يجعل القصة القصيرة- إذا صح التصور- فناً وسطاً بين انفعالية الشعر، بحرارة تعبيره العاطفي المتوتر وبين عمق الرواية، بأسلوب معالجتها الموضوعي الهادئ.
(5)
وبعد، قد يكون من الضروري الإشارة ولو بلمحة سريعة إلى الدافع الذي حدا بالباحث للقيام بهذه الدراسة؛ وإلى مصدر مادتها، والنهج الذي اتبعه في بحث هذه المادة؛ وأخيراً إلى أقسام الدراسة.
بالنسبة للدافع، يمكن القول: إن اختيار قصص الانتفاضة -إذا جاز الاصطلاح- موضوعاً للدراسة كان بالدرجة الأولى- وليد الرغبة في المساهمة بإلقاء بعض الضوء على ما أحدثته استمرارية فعاليات الانتفاضة من تأثيرات، في حقل صغير من مساحة الإنتاج الأدبي، داخل فلسطين المحتلة، هو حقل القصة القصيرة... وذلك انطلاقاً من الاعتقاد بأن تأثير هذه الثورة في مجالي الأدب والثقافة، على الصعيدين الفلسطيني والإسرائيلي، لم يكن أقل قوة وأهمية من تأثيراتها في المجالات الحياتية الأخرى...
ونظراً لعدم تمكن الباحث من الحصول على جميع ما نشر من قصص قصيرة في فلسطين المحتلة، زمن الانتفاضة، بسبب عدم توفر الغالبية العظمى من مصادرها بين يديه، في فترة إعداده لهذه الدراسة، أي بسبب عدم توفر معظم الصحف والمجلات التي نشرت فيها تلك القصص، فقد اضطر بالتالي إلى بناء دراسته على ما توفر له منها، منشوراً في مصدر واحد فقط، هو صحيفة الاتحاد اليومية التي تصدر في حيفا العربية المحتلة.. ذلك أن هذه الصحيفة هي الوحيدة التي وجدها الباحث، بين يديه، تهتم بنشر نماذج من الشعر والقصة القصيرة الفلسطينية، بين جملة ما يرد إلى مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية بدمشق من صحف عربية، تصدر في فلسطين المحتلة...
ولإدراك الباحث مدى ما يعتور مصادر دراسته من نقص فقد حرص، في البحث والتقييم على تجنب إطلاق الأحكام التعميمية، كما تجنب تأكيد الكثير من هذه الأحكام أو إعطاءها صفة الشمولية..... هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى ألزم نفسه بعدم الخروج عن مضمون ما توفر له من القصص، على الرغم مما تثيره طبيعة البحث وموضوعه من إغراءات التوسع والاستطراد إلى ما لم تأت تلك القصص على ذكره من موضوعات وقضايا تتعلق بالانتفاضة...
أما المنهج الذي تمت به دراسة القصص ومعالجتها، فيمكن توصيفه بأنه منهج يراوح بين عرض الخطوط الرئيسة لمضون القصة وسيرورة الأحداث فيها، وبين محاولة تحليل هذا المضون، وتحليل أبعاد الشخصيات، تحليلاً يستند بالدرجة الأولى على مقارنة المعطى القصصي بمصدره الأصل، أي بالمعطى الحدثي الحقيقي، علىأرض الواقع...
وبالنسبة لأبرز مشتملات هذه الدراسة فيمكن القول: إنها تنقسم في هيكلها العام إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة.
يمكن توصيف الفصل الأول بأنه محاولة لقراءة ما طرحه مؤلفو القصص القصيرة، الداخلة في هذه الدراسة، كأسباب أدى تراكمها على مدى عشرين سنة من الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، إلى انطلاقة الانتفاضة...
أما الفصل الثاني: فهو محاولة أيضاً لاستجلاء أبرز ما تصوره مؤلفو تلك القصص من مبادئ وأهداف لهذه الثورة يمكن لمجموعها أن يشكل ما يجوز تسميته بـ (رسالة الانتفاضة).
وأما الفصل الثالث والأخير فلا يعدو كونه إضاءة متواضعة لأبرز ملامح بطل الانتفاضة، طفلاً وشاباً وامرأة وشعباً، كما تبدو على صفحة منجزاته والمتغيرات التي أدت إليها نتائج استمرارية ثورته منذ انطلاقتها.
ثم تأتي الخاتمة لتلقي ضوءاً سريعاً على فنية القصص المدروسة، ومدى ما أصابه مؤلفوها من نجاح، في تعاملهم مع موضوع الانتفاضة، وفي قدرة ما كتبوه على التأثير في قارئهم.
(6)
وأخيراً، لا يسع الباحث سوى التقدم بالشكر الجزيل إلى مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية بدمشق، ممثلة بإدراتها التي أتاحت له إمكانية الاطلاع على أعداد صحيفة (الاتحاد)، المصدر الوحيد للقصص التي بحثها، راجياً لهذه المؤسسة دوام التطور والتقدم والعطاء...
(7)
وفي الختام، أرجو أن أكون قد قدمت بعملي هذا كتاباً للمكتبة العربية، وأبقيت ذكرى متواضعة لثورة عظيمة، وأرسلت تحية حب وتقدير وامتنان لكل يد ألقت حجراً على جندي احتلال من أجل أن يبزغ فجر عزّ عربي جديد على أرض عربية حرّة؛ والله من وراء القصد، إليه أهبُ عملي هذا، ومنه أرجو القبول والثناء..
دمشق في 1990
محمد توفيق الصواف
[/align]