عرض مشاركة واحدة
قديم 14 / 07 / 2009, 11 : 10 AM   رقم المشاركة : [6]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

رابعاً : الاعتقال والسجن‏

[align=justify]
رابعاً : الاعتقال والسجن‏

يبدو للباحث في قصص الانتفاضة، أن العديدين من مؤلفيها -كما يستشف من استقراء مضامين ما تيسر العثور عليه من قصصهم- يعتقدون بأن عيش الفلسطينيين، في الوطن المحتل، وسط جو من الاحساس الكابوسي الدائم، باحتمال تعرض أي منهم، وفي أي وقت، للاعتقال والسجن، بسبب، وأحياناً بدون سبب البتة، كان بين أهم الأسباب التي عززت قناعتهم، بوجوب تصعيد وتائر مقاومتهم لاستمرارية الاحتلال الإسرائيلي، وعدم إيقافها حتى بلوغ هدف التحرير... ذلك أن التحرير هو الحل الوحيد الذي يضع حدّاً لما يعانونه، في ظل هذا الاحتلال، من ممارسات سلطاته القمعية؛ وهو الحل الوحيد أيضاً لفك طوق الحصار المضروب حول حرياتهم، في شتى مجالات الحياة، وعلى مختلف الصعد والمستويات...‏
وبداية، يمكن القول: إن معظم مؤلفي قصص الانتفاضة، في الوطن المحتل، قد عرجّوا على موضوعي الاعتقال والسجن، إما باشارة سريعة عابرة، وإما باتخاذهما محورين رئيسين لمضمون القصة... وذلك، على نحو ما فعل نبيه القاسم، في قصته وتكون لنا راية)، وسعيد نفاع، في قصته صباح بعد انحسار الغطاء) وأخيراً، ابراهيم جوهر، في قصته لأني أحمل حجراً).. وفيما يلي إطلالة سريعة على كيفية تناول كل مؤلف، من هؤلاء الثلاثة، لموضوعي الاعتقال والسجن، في قصته...‏
في قصته وتكون لنا راية)(1) التي سبقت مناقشة جزء مهم منها، في الفقرة السابقة، من هذا الفصل، يطرح نبيه القاسم موضوعي الاعتقال والسجن على نحو متداخل مع موضوع الترانسفير، محاولاً توزيع اهتمامه وتركيزه على المواضيع الثلاثة بالتساوي، قدر الإمكان؛ ومحاولاً أيضاً، توفير حدًّ أدنى من الترابط العضوي /السببي بينهم، على نحو يؤمن الإنسجام لحركيتهم الحدثية، بوصفهم المحاور الثلاثة الرئيسة لمضمون قصته... وقد ساعده اعتماد أسلوب الاسترجاع الفلاش باك)، في السيطرة على تلك الحركية، وفي جعل القارئ لا يحس إلى حد ما، بالانقطاع، أثناء إنتقال الحركية الحدثية من هذا المحور إلى ذاك..‏
يبدأ القاسم قصته، بمحاولة زجّ قارئه، في خضم أحداث الانتفاضة، واشراكه، مباشرة، في معاناة الإنسان الفلسطيني، أثناء المواجهة اليومية لممارسات جنود الاحتلال... فنحن، ومنذ السطور الأولى، نشاهد بطل القصة، وهو يقذف بالحجارة والزجاجات الحارقة، أولئك الجنود المدججين بالإسلحة... ولكن، ما تكاد تميل كفة المعركة لصالح المحتلين، حتى يترك ذلك البطل ساحة المواجهة، مستجيباً لالحاح حبيبته التي ترجوه أن يذهب ويتركها حتى لا يمسكوا به، ويلفقوا له مختلف التهم... ويضيع كأنه لم يكن..."...(2) وبالطبع، لا يوحي سياق الحدث القصصي بأن انسحاب بطل القصة، امتثالاً لرجاء حبيبته، كان هرباً وتعبيراً عن جبن، بل ثمة ما يؤكد العكس، في هذا السياق... أي ثمة ما يؤكد أن انسحابه كان مجرد انسحاب تكتيكي، هدفه الأول هو الحيلولة دون وقوع مناضل نشط وفاعل، في عطالة الاعتقال والسجن... "إذهب بسرعة قبل أن يصلوا... وجودك هناك يهمني أيضاً.. أن تكون هناك يعني أننا في كل مكان... إننا سنلتقي ثانية، ولن يستطيع أحد أن يفرق بيننا...(3)
وهكذا ينسحب البطل، ممتثلاً لأمر حبيبته التي تعد رمزاً واضح الدلالة على الأرض الفلسطينية، كما يستشف من قراءة المقطع الانف.. لكنه لا ينجو من الاعتقال.. ذلك أن الاحتلال في كل مكان على مساحة الوطن الفلسطيني.. وهذا بالضبط، ما أراده مؤلف القصة من سياقة أحداثها بهذا الاتجاه... لقد أراد أن يؤكد لقارئه وبشكل غير مباشر، أن الهرب من مركز دائرة الحصار إلى أي نقطة أخرى تقع في محيطها، لا يضمن نجاة محققة من الوقوع في الاعتقال والأسر... وبالتالي- وهذا هو جوهر القصة وهدفها الرئيس- فإن الشرط الوحيد لبلوغ النجاة هو اختراق هذه الدائرة، وتحطيمها...‏
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أراد المؤلف أن يؤكد لقارئه، أيضاً، عبر مشهد الاعتقال الذي رسمه، في القصة، متداخلاً مع مواصلة التحدي، أن نجاح قوة الاحتلال الهمجية في اعتقال المناضلين، لا يعني نجاح الاحتلال في اقتلاع بذرة التحدي من نفوسهم، أو القضاء على شعاع أملهم بالغد الذي يدفعون أرواحهم ودماءهم ثمناً لقدومه... بل العكس هو ما حصل ويحصل... فتصاعد وتائر القمع والوحشية يؤدي إلى زيادة الإصرار على التحدي، والإصرار على إكمال الدرب الصعب حتى نهايته...‏
ومن الممكن أن نلاحظ في بنية النسيج الفني لمشهد الاعتقال، مايؤكد صحة الاستنتاجين السابقين... فالبطل الذي انسحب بجسمه، فقط، من ساحة المواجهة، يظل فيها بروحه وعقله ومشاعره، يتابع مجريات أحداثها على شاشة التلفزيون، في منزله، منفعلاً متوتراً إلى أقصى حدود الانفعال والتوتر... ولشدة انفعاله بما يرى ويسمع، "لم ينتبه للقرع الذي أخذ يشتد على بابه"(4) حتى تحول القرع إلى دفعة قويةاقتلعت الباب كله،واقتلع صوتُها البطل من استغراقه الشديد بما يعرضه التلفزيون، ليرى نفسه، وعلى نحو مباغت، يقف في مواجهة" ما يزيد على ستة رجال يشهرون سلاحهم ويطلبون منه أن يرفع يديه ويجلس.".(5)
وبدلاً من أن تشله المفاجأة، فينهار، إذا بانفعاله السابق يبرد كله، دفعة واحدة، متحولاً إلى رباطة جأش وتحدٍّ صلب... على نحو ما يحدث لقطعة الحديد المتوهجة حين ترمى في ماء بارد... وقد زاد من شحنه بالصلابة، ومن قد رته على التحدي، استمرار متابعته للشباب الذين كان التلفزيون ما يزال يواصل بث مشاهد من مواجهاتهم مع جنود الاحتلال.. فقد حافظت رؤيته لبطولاتهم وسماعه لهتافاتهم، على الأمل حياً نابضاً، في قلبه، وواعداً بقرب إشراقة الخلاص والنصر، حتى وهو في ذروة الإحساس بالحصار والتهديد وافتقاد القدرة على المقاومة... ولهذا، حين طلبوا منه أن يرفع يديه ويجلس، لم يضطرب، ولم يرتبك... وإنما، وبهدوء الواثق من نفسه، " لم يتكلم... رفع يديه وجلس على المقعد..."(6)
ولكن، وبنفس اللحظة التي توهم فيها مهاجموه أنه قد استسلم لارادتهم كان قد اكتمل ذلك التفاعل الفذّ، بين الأصوات الهادرة المنبعثة من التلفزيون، تنقل ما فعله الشباب في القدس"(7) ، وبين صوت التحدي العنيد المنبعث من أعماق بطل القصة، يتحدى المحيطين به... وبهذا، تداخلت ساحتا المواجهة، في القدس، وداخل بيت البطل، لتصيرا في وعيه ساحة واحدة متماسكة، تمتد على مساحة الوطن المحتل كله... وما إن اكتملت تلك الصيرورة، حتى أحس بحنجرته تتوحد بحناجر أبناء شعبه الثائرين، في هتاف واحد، عنيد، قوي، مجلجل، هزّ مهاجميه وأدخلهم في الذهول بغتة، وهم يسمعونه يردد مع الشباب الذين ما زال التلفزيون بنقل أخبارهم: "بلادي بلادي... الله أكبر... ليسقط الاحتلال الفاشية لن تمر.."..(8)
وما كاد الذاهلون يفيقون من ذهولهم، حتى سارعوا يسكتون ذاك الهتاف المتحدي، المنبعث منه ومن التلفزيون، في آن واحد معاً... "وبينما كان أفراد الشرطة يدفعون به إلى الخارج، التفت ليرى كتبه التي بعثروها في كل مكان، وليرى على شاشة التلفزيون، قبل أن يخرسه الشرطي الأخير، الشباب الذين يرمون الحجارة ويشعلون النار في الإطارات ويقذفون الزجاجات المشتعلة ويهتفون للوطن... ويرفعون الراية"(9) .‏
وما إن يُسدل الستار على مشهد الاعتقال، حتى يكون التداخل، بين الواقع والحلم، قد بلغ أقصاه، في وعي البطل، وهنا، تتلاشى الفواصل المكانية بينه وبين الثوار، في ساحة المواجهة، وتزول تماماً، ليعودا جميعاً كلاً ملتحماً، في وجه الاحتلال... والقرينه التي يسوقها المؤلف للإيحاء بحدوث هذا التلاشي، هي رؤية البطل لحبيبته، فيما كانوا يسوقونه معتقلاً، وهي "تسير إلى جانبه وتهتف بأعلى صوتها: بلادي بلادي.."(10)
وبهذه القدرة على نقل هواجس البطل، من مستواها التخييلي، إلى مستوى الحضور الحقيقي الذي يجتاز، في وعيه، هلامية الهاجس إلى ما يماثل المعطى الواقعي في صلابة حضوره المادي..، بهذه القدرة الفنية، ينهي المؤلف قصته، مفجراً، في نهايتها، لحظة التغيير المضيئة والحاسمة، في نفس الإنسان الفلسطيني ووجدانه، مجسداً بشخص البطل "وشعر للمرة الثانية هذا اليوم، أنه له راية وله نشيد وله ما يقاتل وما يعتقل من أجله."(11)
ففي هذه الجملة، وعبر تداعي منظومة كلماتها، يكثف المؤلف جوهر التغيير الذي أحدثته انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها، على مستوى وعي الإنسان الفلسطيني... ويضيء، في نفس الوقت، كيف صار فعل هذا الإنسان وظيفياً، وكذلك معاناته للإعتقال والسجن... فقد صار "له ما يقاتل وما يعتقل من أجله."(12) وذلك على خلفية قناعته التي يشف عنها مضمون القصة ككل، والتي يؤكد مفادها أن ما يعانيه الآن من آلام شتى، ما هي إلا آلام المخاض الصعب لميلاد فجر الخلاص.. الفجر المأمول أن تشرق شمسه على الأرض الفلسطينية وإنسانها معاً...‏
القصة القصيرة الثانية التي تمحور جزء كبير من مضمونها، حول موضوعي الاعتقال والسجن، هي قصة صباح.. بعد انحسار الغطاء)(13) ... وقد عرض مؤلفها سعيد نفاع هذين الموضوعين، على نحو متداخل مع موضوع الترانسيفر، كما فعل نبيه القاسم، في قصته السابقة الذكر وتكون لنا راية).. لكن تركيز نفاع على الموضوعين الأولين كان أكبر من تركيزه على موضوع الترانسفير..‏
يبدأ نفاع قصته برسم الديكور المناسب لمشهد الاعتقال... وما يكاد يضع خطوطه العريضة، حتى يفاجئنا بحدوثه المباغت: "الليل مدلهم، الريح تعوي، تجأر، تصفر، المخيم نائم بعد يوم شاق، وفي الخارج قطط وكلاب وجنود، جعير سيارات، وخبط على الباب لم يقو على تحمله فانشق..."(14) وفيما نحن نتابع، لاهثين، هذا الإيقاع السريع لسيرورة الحدث، متلهفين لمعرفة المزيد، إذا بالمؤلف ينقلنا فوراً إلى مشهد جديد متصل بسابقه.. لقد دخل الجنود البيت، وضبطوا من جاؤوا لاعتقاله... ولم يمنعهم وجود زوجته الحامل من ممارسة وحشيتهم ضده، أمام ناظريها..."...وقبل أن يتململ هاشم كانت الهراوات وأعقاب البنادق تتناوشه. لا تعرف صباح كيف انتصب بين تلك الأشباح. لم يتأوه ولم يتكلم، فالصمت أحياناً أكبر تحد... واقتيد بلباس النوم. لم يلتفت إلى صباح التي كانت جالسة مكانها تقاوم ألم ظهرها وخاصرتيها..(15)
واضح، في صياغة هذا المشهد، قصد المؤلف إلى إبراز وحشية الاحتلال وهو يقوم باعتقال الفلسطينيين... فهو يداهم بيوتهم بغتة، كما لو كانوا مجرمين... ثم بعد ذلك لا يتورع عن الشروع في ممارسة وحشيته ضدهم وهم مايزالون بعد بين ذويهم ... وبهذا لاتطالهم وحشيته وحدهم، بل تطال معهم كل من يكون حاضراً من أفراد أسرهم، بغض النظر عما إذا كان بين أولئك الأفراد أطفال أو نساء أو شيوخ، أبناء أو آباء، وعما إذا كان بينهم مريض أو حامل أو مقعد...‏
ومن مشهد الاعتقال، ينقلنا المؤلف فجأة، وبأسلوب الاسترجاع، إلى بداية العلاقة، بين بطلي قصته، ليضعنا في دائرة جديدة من الاستغراب، حين نعرف أن السجن كان بداية هذه العلاقة، كما كان بداية التحدي.. وبين هاتين البدايتين وتطوراتهما، أي بين سجن وتحدٍّ، ترك نفاع لشخصيات قصته أن تتحرك ضمن دائرة الحصار الاحتلالي.‏
فصباح العمري، بطلة القصة تخطب لهاشم وهو في السجن... "كل شيء غريب في حياة صباح، هل كان يجب أن تحب هاشماً، وهل كان يجب أن يجرها حبها إلى السجن وراءه، والأغرب، خطبتها لهاشم وهو خلف القضبان.".(16)
ومن غرابة هذه الخطبة، يحاول نفاع النفاذ إلى وعي قارئه، ليهمس له، بشكل غير مباشر، أن أحد أهم أسباب انطلاقه الانتفاضة، هو الرغبة في تحطيم سجن الاحتلال وسجانه معاً... لقد احتاجت صباح إلى عشر سنوات حتى استطاعت أن تعي كمون هذه الرغبة في أعماقها كفلسطينية... هذه الرغبة التي دفعتها للزواج من سجين... "فتاة تخطب لسجين، ما الذي حدا بها؟! أهو حب مراهق؟ أم هو الإيمان القوي بحتمية زوال السجن، وزوال السجان أمام إرادة الحياة؟!"(17)
نعم، لقد كان هذا الإيمان هو السبب الذي أدى، في النهاية، إلى التحام الإنسان الفلسطيني بثورته، والتحامهما معاً بالأرض المحتلة... وهنا ينهض السجن، بكل قسوته ولا إنسانيته، عاملاً مهماً من عوامل صنع حتمية الانتفاضة... السجن بمعناه الواسع الذي يرادف، واقعياً، حالة الحصار التي عاشها الشعب الفلسطيني، وما يزال، داخل حدود وطنه المحتل... السجن الذي يستوي فيه وضع من يقف وراء القضبان مع وضع من يقف قبالته، أمامها... فكلاهما سجين، مع اختلاف الوضع... وما دام الأمر كذلك، فأين الغرابة في أن يخطب أحدهما للآخر...؟ إن الغرابة، كما يوحي سياق القصة، هو في عدم اقترابهما، أو عدم محاولتهما الاندماج والذوبان ببعضهما محطمين القضبان التي تعيق هذه المحاولة...‏
ولهذا، حين صدر أمر الابعاد الظالم بحق هاشم، بعد اعتقاله الأخير، خاطرت صباح بالذهاب إليه، في سجنه الصغير..، متجشمة عناء احتمال الألم المتزايد، كونها حاملاً، لترجوه" أن يرفع استئنافاً للجنة العسكرية"(18) لأنها "أرادت أن يبقى هاشم وهذا هو، ولم يتعد حديثهما هذا الموضوع وانتهى اللقاء"(19) لقد أرادته أن يبقى، ليخرج من سجنه الصغير، ويحطمان معاً سجن الاحتلال الكبير.. يخترقان معاً حالة الحصار المقيتة المزمنة... وذلك على خلفية وعيها الجديد -القديم، بأنها وهي في السجن الكبير، ليست أقل معاناة وتعرضاً للاعتداء والإهانة، منه وهو في السجن الصغير... وهذا ما يؤكده الذي لاقته، هي في طريقها إلى البيت، عائدة من زيارتها لهاشم...‏
"غادرت غير آبهة بالمطر المتساقط، شاقة طريقها عائدة؛ بين بقايا الإطارات المحروقة والحجارة المتناثرة. وعند مدخل المخيم وجوه كالحة لم ترها لولا أن استوقفها أصحابها المقصود جنود الاحتلال) ليمطورها بوابل أسئلة محشوة بأقذع الكلمات، كيف خرجت ولماذا خرجت وأين كانت وأين تسكن؟! أجابت على كل هذه الأسئلة باقتضاب... كل ماتذكره اليوم أن زنار الألم اشتد، وما كادت تطوق خاصرتيها بكفيها حتى تراءت لها رجل ترتفع لتصيب أسفل بطنها..."(20) ترى، أيمكن أن تتعرض حامل، داخل السجن، لوحشية أكثر مما تعرضت له صباح خارج السجن؟ أليست كفة معاناتها تعادل، إلى حد كبير، كفة معاناة زوجها؟ وهل من تفسير لهذا الوضع سوى أن الاحتلال الإسرائيلي، قد حول فلسطين المحتلة، كلها، إلى سجن كبير لأهلها؟‏
وإذا كان نبيه القاسم وسعيد نفاع قد تناولا موضوعي الاعتقال والسجن، من زاوية النظر إليهما بوصفهما من الأسباب التي قوت عوامل الرفض الفلسطيني لاستمرارية الاحتلال الإسرائيلي وممارساته كافة، وهيأت، بالتالي، لإنطلاقة الانتفاضة، كتعبير عملي عن بلوغ هذا الرفض ذروته، فقد تناول القاص ابراهيم جوهر هذين الموضوعين، في قصته القصيرة لأني أحمل حجراً)،(21) من زاوية رؤية مختلفة، تتيح للناظر منها أن يرصد بعض إيقاعات التأثير النفسي الذي يمكن أن تحدثه ممارستا الاعتقال والسجن، في البنية النفسية للطفل الفلسطيني...‏
بتعبير آخر، وعلى خلفية افتراض الصحة في السماح لدارس أي عمل أدبي أن يستنتج من قراءته وتحليله له، أكثر مما أراد مؤلف هذا العمل إيصاله لقارئه، ربما ليس خطأ ما يمكن أن يتهيأ لقارئ قصة لأني أحمل حجراً)، من أن مؤلفها لم يقصد معالجة موضوعي السجن والاعتقال، كسببين من أسباب انطلاقة الانتفاضة، بقدر ما كان قصده النفاذ، من خلال طرحه لهما، إلى محاولة ما يشبه السبر لنتائج تأثيرهما في نفسية الطفل الفلسطيني... وذلك عبر قراءة المنعكس النفسي للمعطى الحدثي الذي يمس حياة هذا الطفل مباشرة؛ وعبر ما يمكن أن تفضي إليه هذه القراءة من استشفاف لتمظهرات ردود الفعل الناجمة عن ذلك المنعكس، في التطبيق، سواء على صعيد نوعية التفكير الحاصل، أو على صعيد صورة التصرف المحتمل الذي تستجيب نتائجه، في حال صيرورته فعلاً ممكناً، لتطلعات الرغبة المتكونة من المحصلة النهائية لذاك التفكير... ولعل ما تحكيه القصة، في سياقها، من أحداث ومواقف، يجيز للباحث، إلى حد ما، افتراض الصواب في ما ذهب إليه، أثناء توصيفه الآنف لقصدية مؤلفها من طرح موضوعي الاعتقال والسجن، في قصته على نحو ما فعل...‏
فأول تأثير يحدثه اعتقال والد الطفلة الصغيرة روان) في نفسيتها، هو إحساسها المفاجئ والحاد بافتقاد أبيها إلى جانبها، لسبب غامض يصعب على مداركها أن تعيه تماماً.. وحين تسأل أمها أن توضح لها السبب، وتجلو غموضه، لا تجد تلك الأم الحزينة الوسيلة التعبيرية التي تساعدها على تلبية رغبة ابنتها ولذا، نراها ترد على سؤال الصغيرة لها " لماذا أخذ الجيش بابا؟(22) بالجواب التهربي التالي: سيعود عما قريب يا حبيبتي، لا تقلقي، نامي."(23)
لكن روان، وبفضول الطفل الملحاح، لا تنام، بل تواصل طرح تساؤلاتها المستفهمة، باحثة عن مسكن لما يقلق تفكيرها ويحيره، مكوّنة عبرحوارية السؤال والجواب، بينها وبين أمها، من جهة، ثم بينها وبين نفسها من جهة أخرى، أفقاً لوعي جديد قابل للتطور باتجاه الصيرورة أكثر استعداداً للفهم والإدراك... وسرعان ما تتضح أولى معالم هذا التطور، في صورة الإدراك البسيطة التي شكلها خيالها الطفل للسجن، ولعلاقته السببية باختفاء أبيها... " لم تكن تعرف ما هو السجن قبل اعتقال أبيها، واليوم تعرف أن السجن مكان يمنع الآباء من رؤية أبنائهم فصارت تكره السجن بقدرما تحب أبيها..."(24)
وهكذا، يتحول السجن في وعيها إلى تجسيد مادي للظلم، ورمز للحرمان من حنان الأب... وعلى ضوء هذا الوعي الجديد المتشكل على خلفية عاطفية، تتكون مشاعر الصغيرة تجاه السجن، ويبدأ موقفها منه بالتبلور كراهية له.. ثم بعد ذلك، وعبر استمرار حوارية الاستفهام، يتطور هذا الوعي إلى إحساس بالثورة، والى رغبة في المشاركة بفعل التحدي لبناة السجن وحراسه والعاملين على بقائه، والذين يتجسد مجموعهم، في وجدانها وخيالها، بصورة جنود الاحتلال الذين اعتقلوا أبيها، وأودعوه السجن، وحرموها من التمتع بفيض حنانه..‏
ولأن لغة التحدي التي تعايشها، في واقعها الراهن، صباح مساء، والتي كانت، أصلاً، سبب اعتقال أبيها وسجنه، هي قذف الحجارة على المحتلين، ترى الصغيرة نفسها، في حلم يقظة، وهي تمسك حجراً .. وسرعان ما يستجيب الواقع ) المتخيل، على مسرح أحلامها، وكذلك شخوصه، لتطلعات رغبتها المتولدة من موقفها الكاره لجنود الاحتلال، فإذا بها تراهم، على صفحة مخيلتها، وهم يفرون خوفاً من حجرها.. لنتأمل صورة هذا التطور في وعيها ومواقفها، عبر الحوار التالي بينها وبين أبيها، عقب خروجه من السجن:‏
"أين كنت يا بابا؟‏
أجابها:‏
-في السجن يا بابا.‏
-لأنك ضربت على الجيش بالحجر؟!‏
-سايرها وهو يبتسم وقال:‏
-نعم، لأني ضربت على الجيش بالحجر.‏
سرحت روان مع خيالها الصغير قليلاً، وكأنها تستذكر شيئاً كادت تنساه، وقالت:‏
-بابا، امبارح هرب العسكر مني.‏
سألها باهتمام:‏
-لماذا يا بابا؟‏
أجابت:‏
-لأني كنت أحمل حجراً."(25)
على هذا النحو، راح يتكون وعي الطفل الفلسطيني، وينمو في زمن الانتفاضة، محدداً مسار تطوره المستقبلي "السجن مفجرّاً للكراهية، ثم الكراهية محرضة على الثورة، ضد السجن وبانيه" ثم الرغبة في نقل هذه الثورة من مستوى تخيّل فعلها، إلى مستوى ممارسة هذا الفعل، على أرض الواقع، كما توحي خاتمة القصة... وبهذا يكون المحتل الإسرائيلي قد استدعى، بممارساته القمعية، ضده الفلسطيني، الراهن والمستقبلي، في آن معاً... هذا الضد الذي تعد كينونته الجديدة ووعيه الذي نضج، بامكانية استمرار الانتفاضة، ثورة حتى النصر والتحرير...‏
(1) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره...‏
(2) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره..‏
(3) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره..‏
(4) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره..‏
(5) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره..‏
(6) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره..‏
(7) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره..‏
(8) قصة وتكون لنا قصة)، مصدر سبق ذكره..‏
(9) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره..‏
(10) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره..‏
(11) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره..‏
(12) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره..‏
(13) قصة صباح.. بعد انحسار الغطاء)، لسعيد نفاع.. نشرت في صحيفة الاتحاد)، بعددها 278/44) الصادر بتاريخ /15/نيسان1988) الصفحة (4)
(14) من قصة صباح بعد انحسار الغطاء) لسعيد نفاع...، الصفحة (4)
(15) من قصة صباح.. بعد انحسار الغطاء) لسعيد نفاع.. الصفحة (4) .‏
(16) قصة صباح.. بعد انحسار الغطاء) مصدر سبق ذكره.‏
(17) قصة صباح انحسار الغطاء)، مصدر سبق ذكره..‏
(18) قصة صباح.. بعد انحسار الغطاء)، مصدر سبق ذكره..‏
(19) قصة صباح.. بعد انحسار الغطاء)، مصدر سبق ذكره..‏
(20) قصة صباح.. بعد انحسار الغطاء) مصدر سبق ذكره..‏
(21) قصة لأني أحمل حجراً)، لابراهيم جوهر... نشرت في صحيفة الاتحاد) بعددها 259/45) الصادر بتاريخ /17/آذار 1989، الصفحة (5) .‏
(22) قصة لأني أحمل حجراً)، لابراهيم جوهر..المصدر السابق.‏
(23) قصة لأني أحمل حجراً)، لابراهيم جوهر...المصدر السابق .‏
(24) قصة لأني أحمل حجراً)، مصدر سبق ذكره..‏
(25) قصة لأني أحمل حجراً)، مصدر سبق ذكره..‏

[/align]

محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس