عرض مشاركة واحدة
قديم 14 / 07 / 2009, 14 : 10 AM   رقم المشاركة : [7]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

خامساً : كي لا يصير قتل الفلسطيني... روتيناً، ومجانياً..‏

[align=justify]
خامساً : كي لا يصير قتل الفلسطيني... روتيناً، ومجانياً..‏

من خلال ادراك عميق لجملة العوامل التي هيّأ تضافرها لنضوج وعي الإنسان الفلسطيني، ولإقداره، وبالتالي، على التحول في موقفه، تجاه مستقبله ومستقبل قضيته ووطنه، ذلك التحول النوعي الكبير الذي انتقل، وهو يمارس طقوسه بوعي وشجاعة، من سكونية القنوط والاحباط واليأس إلى حركية التمرد الثوري المفعم بالأمل والتحدي، في آن معاً؛ من خلال هذا الإدراك، وعلى خلفيته، حاول بعض مؤلفي قصص الانتفاضة، طرح واحد مما عدّوه، محقين، بين أهم الأسباب التي صنعت حتمية انطلاقة الانتفاضة، إن لم نقل أهم تلك الأسباب، على الاطلاق... والمقصود بهذه الأهمية، في هذا السياق، هو تعرض الفلسطيني، في أي لحظة، وغالباً، دونما أي مسوغ جرمي واضح أو معقول، إلى احتمال اهدار دمه، دون أن يلقى المجرم الفاعل أي عقاب رادع على ما اقترفته يداه...‏
فمما لا ريب فيه، أن هذه الممارسة الاحتلالية، ذات الدوافع العدوانية الحاقدة، والمنشأ العنصري المتطرف في لا إنسانيته، تعدّ من أقسى ما كابده الإنسان الفلسطيني، وما يزال، في تاريخ معاناته الصعبة، لكابوس الاحتلال الإسرائيلي العنصري الجاثم على صدر هذا الإنسان وأرضه، منذ أكثر من عشرين سنة... وبالتالي، من البدهي، أن تعدّ هذه الممارسة الإرهابية الباهظة من أقوى الأسباب المؤكدة لضرورة التخلص من ذلك الجو الكابوسي، بأي وسيلة وبأي ثمن... الأمر الذي يجعل منها المحرض الأهم لكوامن الثورة في نفس الفلسطيني على استمرارية ذلك الاحتلال وممارساته الإرهابية جميعاً..‏
ومن الرجوع إلى ما أمكن الحصول عليه من قصص الانتفاضة، يتبين أن عديدين من مؤلفيها قد أثار اهتمامهم موضوع تعرض الفلسطيني للقتل العنصري، على أيدي سلطات الاحتلال والمستوطنين... لكن أكثر من شغل هذا الموضوع المساحة الأكبر من اهتمامه، اثنان: نبيل عودة، في قصته الحاجز)، ومحمد نفاع، في قصته الجنرال)..‏
في قصته الحاجز) (1) التي سبقت معالجة جوانب من مضمونها، في الفقرة الأولى من هذا الفصل، يطرح نبيل عودة هذا الموضوع، من زاوية رصده للحظة التحول التاريخية الحاسمة التي مرّ بها وعي الإنسان الفلسطيني، قبل أن ينطلق ثائراً، معلناً رفضه القاطع لاستمرارية العيش في كابوس الاحتلال العنصري... فبعد سنوات طويلة مرهقة من معاناة هذا الإنسان لشتى ضروب العسف والقمع والإرهاب، محتملاً ما يحل به من ويلات، على أمل أن يأتيه الفرج ذات يوم من خارج الحدود، يدرك، متأخراً، عبثية استمراره في موقف المنتظر لذلك الفرج... ثم يبدأ بمراجعة حصاد انتظاره خلال السنوات الطويلة الماضية، فإذا بالنتائج فادحة مرعبة... فانتظاره الطويل لم يمكنه، بعد عشرين سنة، إلا من قبض الريح،... والاستهانة بحياته وعذاباته ومستقبله، إلى درجة تكاد لاتصدق... فقد أضحى قتله، مجرد حادث عادي، لا يهز ضميراً ولا يثير عصباً، في كيان أحد... أما عذاباته وآلامه الكثيرة، فما أهونها على الناس، وكذلك مستقبله ومستقبل أجياله القادمة... وهنا، أدرك الفلسطيني، بوضوح فاجع، أن مايعنيه ويعانيه لا يهم أحداً غيره... وبالتالي، لن يغيّر أحد غيره، أيّ وضع من أوضاعه المأساوية، أو من واقعة المتخم بالخوف والقلق، جراء عيشه في مناخ احتمالات التعرض لشتى ممارسات الارهاب والقمع والإذلال، وبشكل خاص، احتمال التعرض للقتل، في أي لحظة، برصاصة حاقدة يطلقها أي عنصري إسرائيلي، جندياً كان أو مستوطناً عادياً...‏
بتعبير آخر محدد الدلالة أكثر، أدرك الفلسطيني، داخل الوطن المحتل، أن انتقاله من موقف المتوقع لاحتمال أن يقتل مجاناً، وسط إذلالات الترقب والخوف من غدر القاتل العنصري، إلى موقف الإقدام الإرادي على الموت، ليس انتقالاً ضرورياً، من أجل غد أفضل فحسب، وإنما هو ضروري أكثر للحيلولة دون استمرار هزلية القتل المجاني، بالنسبة للأجيال الفلسطينية القادمة... تلك الهزلية التي صار قتل الفلسطيني، حسب معاييرها، مجرد حادث عادي، لا يعبأ به أو يهتز له أحد... وهذا ما قصد إليه بطل قصة الحاجز)، حين قال، في معرض تعليله لحتمية انطلاقة الانتفاضة، ولضرورة استمرارها: "يجب أن لا نسمح بتحويل قتلنا إلى عادة... إلى روتين يومي.."(2)
وبالطبع، ليس المقصود بانتقال الفلسطيني إلى موقف الإقدام الارادي على الموت، أن يمارس الانتحار، بل أن يضع حداً لمجانية موته... أي أن يتحول الموت، في وعيه، من كونه تلك النهاية المرعبة لحياته، إلى التصيّر بداية لحياة جديدة... وهذا يعني أن يصير موته وظيفياً، أي فعلاً إرادياً هادفاً إلى تحقيق غاية نبيلة، أي استشهاداً... ذلك أن حيوات الشهداء الذين يقضون على دروب الوصول إلى شمس الحرية، تتحول إلى رصيد ثمين، ينمو وينمو، في خزانة المستقبل الفلسطيني، ليبزغ، في النهاية، فجر خلاص تضيئه تلك الشمس، في سماء وطن جديد، تعيش فيه الأجيال الفلسطينية القادمة، بحرية وأمن واطمئنان...‏
وهكذا، وأدراكاً من ثوار الانتفاضة لوظيفية موتهم الاستشهادي نراهم "يواصلون التحدي في الشوارع رغم الجند المدججين بالسلاح.."(3) "، أي على الرغم من عدم التكافؤ المذهل، بين حجارة وطنهم المحتل، وأحدث آلات القتل والتدمير التي يقارعهم بها عدوهم العنصري... وهم، في خضم هذا التحدي الصعب، يرفضون أن يقبضوا ثمن صمودهم... بل يدفعون دمهم ثمناً..."(4) للغد المأمول... لخلاص الإنسان الفلطسيني القادم... لميلاد الوطن الحر..‏
القاص الثاني الذي شغل موضوع تعرض الفلسطيني للقتل المجاني، على يد المحتل العنصري، مساحة واسعة من اهتمامه، هو محمد نفاع... وقد بلغ اهتمام نفاع بهذا الموضوع درجة اتخاذه محوراً وحيداً لأحداث قصته القصيرة الجنرال)(5) وإذا كان ثمة ما يميز هذه القصة عن قصة الحاجز) لنبيل عودة، في مجال احتفال كلتيهما بالموضوع نفسه، فهو، ولا شك، اختلاف زاوية التناول، إضافة إلى اختلاف أسلوب الطرح والمعالجة... أما الهدف الذي سعى إليه مؤلفاهما، فيبدو، إلى حد ما، واحداً في القصتين.. ويمكن توصيفه.. وهذه وجهة نظر خاصة... بأنه السعي إلى إثارة القارئ وتثويره، إلى أقصى حد ممكن، ضد همجية الاحتلال الإسرائيلي وممارساته العنصرية، بحق الإنسان الفلسطيني، داخل الوطن المحتل...‏
لقد أطل نفاع على موضوع مجانية قتل الفلسطيني بدوافع عنصرية، من زاوية الرغبة في فضح وحشية القاتل ودوافعه، عبر رسم أبشع صورة ممكنة لتمظهرات هذه الوحشية، في واقع الممارسة... ولكي يستطيع المؤلف أن يوفر أكبر قدر من النجاح لايصال قصته إلى هدفها، اختار، للقيام بدور الجلاد العنصري فيها، جنرالاً إسرائيلياً، في موقع المسؤولية... أي شخصية قيادية رفيعة المستوى) في المؤسسة العسكرية الصهيونية يمكن أن ترمز ممارستها إلى همجية هذه المؤسسة وعنصريتها، ككل... ولزيادة عاملي الإثارة والتأثير بمحتوى القصة وأحداثها، اختار مقابل هذا الجنرال الواعي لجريمته، والقاصد لنتائجها عن عمد، عشرة أطفال فلسطينيين رضعاً، ليكونوا في موضع الضحية البريئة؛ براءة مطلقة من أي ذنب يمكن أن يفتريه ذلك الجنرال، وينسبه إليهم، ليسوغ به جريمته اللاإنسانية التي أودت بحياتهم...‏
وكنوع من التمهيد لأحداث التراجيديا القادمة... أو كمحاولة لتهيئة القارئ نفسياً، ولتمكينه، بالتالي من التفاعل، إلى أقصى حد ممكن، مع تلك الأحداث الرهيبة، والشخوص الصانعة لها، بدأ نفاع قصته بحشد عدد كبير من الصور القاتمة، المقبضة للنفس والقلب معاً، ثم ألف من مجموعها ما يمكن أن يعد معادلاً موضوعياً، للبيئة الكابوسية الرهيبة التي صنعها الاحتلال الإسرائيلي، بممارساته العنصرية الوحشية، ضد الأرض الفلسطينية وإنسانها معاً.. لنتأمل هذه اللوحات المنتقاة من مواقع مختلفة، في بداية القصة:‏
"انتقى الجنرال المنتشي المرهق منزلاً من طابقين وشرفة وحديقة، وحوّله إلى مركز عسكري للمنطقة، بعد أن خلت البيوت من الناس وبدت مستكينة متألمة مصابة بنوبة من الإغماء والصرع..."(6)
"حول المكان وعلى بعد مئات الأمتار، بيوت مفغورة السقوف مبقورة الجدران، وألواح تنك مبعدة مشرمة وقضبان حديد مطعوجة مشربكة كالمصارين المقطعة، وقصف أشجار يابسة وأخرى مقطوعة مقلوعة كيفما اتفق، انقبعت جذورها عنوة على إثر خضات قاتلة فترنحت منكسرة مخذولة كصبية شهمة أذلت فوقفت مهزومة خافضة النظر والجبين إلى الأرض حياء وحرقة على شرف مُهان!"(7)
"والأولاد يطلون من أفواه الأزقة وبطون الركام وضلوع الأشجار بفضول حذر، في نظراتهم ذهول عنيف وخواء سحيق كدر...(8)
"عندما فلشت الشمس ضوءها المخملي المحمر على التلال المبقعة بحرائق خامدة مرمدة، وشجر مشفوط وحشائش وزرع مخبص مهمل مكوي بأنفاس نارية..."(9)
"من خلال النافذة يبدو المخيم بعيداً كالحاً يلفه سكون موجع كالمتسمم أو المصاب بالربو.(10)
على مسرح هذه البيئة، وفي مناخها الكابوسي العابق برائحة الحرائق والوجع الإنساني، نفذ الجنرال الإسرائيلي -رمز الاحتلال في القصة- جريمته العنصرية النكراء... وبأسلوب فني يعتمد الإيحاء بدل المباشرة، والتراكيب الشعرية ذات الإيقاع المتوتر بالانفعال، راح نفاع يعرض أمام عيني قارئه، وأمام ضميره الإنساني، فصول هذه الجريمة التي نفذها ذلك الوحش العنصري، بأعصاب باردة!!لقد عضّ الجوع معداً حديثة الولادة، لأطفال رضع، أيبس الاحتلال أثداء أمهاتهم، وغيض منها الحليب، حين قتل، ظلماً وعسفاً وعنصرية، أزواج بعضهن، وسجن أزواج الباقيات... وبهذه الممارسة اللاإنسانية، فقدت الأمهات وأطفالهن معاً، الرجال المعيلين... وحين فاض كأس الصبر على احتمال الجوع، وفقدان الوسيلة لتأمين ما يسد الرمق، والأمل في العثور عليها، توجهن بالرضع الجياع إلى مقر الجنرال الجديد، رمز السلطة التي اختارته حاكماً بأمرها وشرعتها، في مظاهرة احتجاجية، وهن يصرخن فيها بإطلاق سراح الرجال المسجونين:‏
"- قتلتم رجالنا وأزواجنا"!‏
-"سجنتموهم لا نعرف أين- في سجونكم ذائعة الصيت... أطفالنا هنا حتى تطلقوا سراح الرجال المعيلين"."(11)
ولكن صراخ الجوع هذا، ومظهره البادي على الوجوه، لم يثر في المحتل العنصري سوى لسانه المتصل بقلبه الحاقد، فأرسله يكيل به الشتائم والسباب البذيء لتلك الأمهات ولأطفالهن الرضع الجياع... وإزاء هذا الرد، وكان الانفعال والتحدي واليأس قد لعبوا، في آن معاً، برؤوس النسوة المسكينات، قررن ذلك القرار اليائس. ربما خطر في بالهن، مجتمعات، أن ما قررن فعله سيكون أشبه بالصدمة الكهربائية لبقايا إنسانية توهمن أنها ما تزال في ضميره، لبقايا رحمة ظنن أنها ما تزال تنبض حية في قلبه ووجدانه.. ولكن هيهات...‏
فبعد أن تركن أطفالهن، في ساحة المقر العسكري، ومضين ساخطات مكسورات، آملات أن يثير مرأى الرضع الجياع بعضاً من حجرية القلب العنصري، للجنرال الإسرائيلي، وأن يبعث صراخهم الجائع، في نفسه، مامات من حسه كإنسان، ما كدن يبتعدن، حتى حدث ما فاق كل ما توقعنه، وخاب أملهن الضعيف... وكيف لا، والذي قصدنه متوهمات أن يجد حلاً لجوع أطفالهن، لا قلب له أصلاً ولا ضمير...؟!!‏
لقد ثارت ثائرة ذلك الجنرال المتغطرس، واستشاط غضباً وغيظاً، لتصرف الأمهات الذي لم ير منه غير جانبه الأسود، حين عدّه، من وجهة نظره كحاكم عسكري يمثل الاحتلال، تحدياً لسلطته، بأسلوب جديد..." هكذا هم.. كل يوم أسلوب جديد!!"(12) وفي حمى غضبه المتفجر من حقده العنصري وغطرسته، وجنون عظمته) كمحتل، لم يملك رداً على ماتوهمه اسلوباً جديداً في التحدي، سوى اتخاذ ذلك القرار الرهيب الذي حمّله لأحد جنوده كي يبلغه للباقين.." إذا أبقوهن هنا اصعدوا عليهم بالدبابة، امعسوهم..."(13) ولكم كانت لقطة بارعة، من محمد نفاع، لما اعترى ذلك الجندي من ذهول واستغراب واستنكار لما سمعته اذناه فعلى الرغم من كينونته جندي احتلال، من المفترض أنه كقائده لا قلب له ولا ضمير، لم يملك نفسه، أمام ذلك القرار الذي فاق في وحشيته حدود أي تطرف، من شهقة رعب واستنكار: "شهق الجندي الأنمش ومط بوزه ورقبته الحمراء مستديراً تاركاً المكان- وهو يتخيل الجنزير الفولاذي واللحم والباكي..."(14) وفي طريقه لإبلاغ القرار الرهيب" طار بقلبه إلى بيته وطفله ابن الثلاثة شهور ببسمته الجانبية الرخوة ويديه الخافقتين، ورائحة جسمه الصغير، وملابسه المغرقة بالبول..."(15) وكان ذاك أقصى ما تستطيعه بقية إنسانيته التي وأدها بملابسه العسكرية وحذائه الثقيل، كجندي في جيش احتلال عنصري... وبالطبع، سرعان ما احتضرت هذه البقية وانطفأت، وهو يبلغ أمثاله ما كلفه قائده إبلاغهم به...‏
ولكن الجريمة العنصرية، لم تنفذ كما رسمها الجنرال الإسرائيلي، بل اتخذت مساراً آخر أكثر وحشية... فقد "أجروا اتصالاً مع المؤسسة الدولية المفككة المضروبة، -يقصد الصليب الأحمر- فجاءت سيارتان ملأوهما بالأطفال وسجلوا محضراً. وظل على الأرض عشرة أطفال في إحدى زوايا الساحة...(16) ربما لم يجدوا لهم مكاناً في السيارتين... وبهؤلاء العشرة نفذ الجنرال الحاقد جريمته المنكرة...‏
بالطبع، لم يخطر في باله مجرد التفكير بمحاولة اسكات صراخ الجوع المنبعث من حناجرهم الغضة، بإطلاق سراح من يؤمن الحليب لهم، بل فكر بوسيلة أسهل وأسرع مفعولاً في إسكات صراخ الجوع الحليبي، مرة واحدة، وإلى الأبد... وكان ذلك، حين" وضعوا الأطفال كيفما اتفق في أرض السيارة، وسافر بهم الجنرال مع بعض الجنود..."...(17) لا ليرميهم خارج مقره، ويرتاح من صراخهم ومسؤوليتهم، وليته فعل... بل ليبلغ بهم مكاناً بعيداً عن الأعين، يتاح له أن يمارس ساديته العنصرية ضد العرب، كما يشتهي...‏
وفي البعيد، أنزلهم الجنود وابتعدوا، كما أمرهم الجنرال.... "ومع صدمات الريح أنصت الجنود الراكضون إلى طلقات النار... واحدة، اثنتان/ خمس، عشر طلقات صماء خرساء مكتومة بالتمام" (18) أطلقها الجنرال المجرم، على جماجم الرضع الرخوة، "فاندلعت أحشاؤها. دماء ودماغ وكسرات عظام مغموسة بسائل أحمر وخصلات شعر شفطتها النار، معسها الرصاص معاً."(19) وبهذه الطريقة المروعة التي لا يجيدها غير جنرال في الجيش العنصري الإسرائيلي، سكت الصراخ الحليبي... صراخ الجوع في المعد الحديثة الولادة... سكت إلى الأبد..‏
وفي ذات اللحظة التي كان يخفت فيها صراخهم متلاشياً، ظلت الريح تهب، وهي في طريقها إلى كل الجهات، تحمل معها هذا الخليط من الدخان والبكاء الأخير والحليب المقتول المسفوك، إلى صدور الأمهات والعذارى في بقاع الأرض... والمياه الآتية العابرة من هنا تصل إلى البحر الكبير، إلى قلب الأرض، الأرض الأم...(20) ومن قلب تلك الأرض /الأم التي انساح دم أبنائها الرضع الجياع، على صدرها المغتصب المقهور، خرج المارد الفلسطيني... خرج من أجسادهم الطرية التي مزق جماجمها المحتل العنصري برصاصاته الغادرة... خرج طفلاً كبر، ويكبر، في ساحة الثورة الممتدة بين مقتله وانبعاثه .. خرج يحمل بيده حجراً عبأه بإرادة صلبة، معلناً نهاية قتله المجاني.. خرج ليكوّر ذلك الحجر شمس حرية وخلاص، لا بد أن تشرق يوماً في سماء وطنه الذي يتعاطى الحب معه، شهيداً و ثائراً.. وكانت الانتفاضة...‏
صحيح أن قصة محمد نفاع لم تشر إلى الانتفاضة بعبارة صريحة مباشرة، إلا أن سياق أحداثها، وتراكم الصور المروعة لممارسات الاحتلال الإسرائيلي فيها، ضد الأرض الفلسطينية وإنسانها معاً، كانا رمزاً ودلالة على حتمية انطلاقة الانتفاضة... لا بوصفها رد فعل عفوي على حوادث القتل المجاني التي ساقت القصة مثالاً صارخاً على عنصريتها الصارخة ووحشية ممارستها فحسب، بل بوصفها أيضاً، وهذا هو الأهم، مخرج النجاة الوحيد، والممكن، من كابوس الاحتلال العنصري المرهق الذي نجح نفاع، بأسلوبه التصويري غير المباشر، في إدخال قارئه إلى أجوائه، وفي جعله يرتجف حنقاً، ويتميز غيظاً، ويمتلئ ثورة، على هذا الاحتلال، وعلى ممارساته، وخصوصاً ممارسة القتل العنصري وطقوسه المرعبة المروعة، وكذلك ممارسة تدمير الوطن واحراقه...‏
بعبارة أخرى، نجح محمد نفاع، في قصته الجنرال) بتوظيف أحداثها في إثارة قارئه، وفي تثويره، إلى حد كبير... محرضاً، في نفس هذا القارئ، الرغبة الدافعة إلى المشاركة في الانتفاضة، بأي وسيلة يمكن أن تتاح له، وبأي أسلوب... إن لم يكن بدوافع وطنية وقومية، فبدوافع إنسانية، على الأقل... وقد ساعده على تحقيق هذا النجاح، جملة عوامل، ربما من أبرزها اعتماده ذلك الأسلوب التصويري الموحي في رسم الملامح الوحشية للاحتلال العنصري، وممارساته ضد الأرض الفلسطينية وإنسانها... كما ساعده اعتماد هذا الأسلوب، في توصيل الشحنة الانفعالية التي ثارت براكينها في أعماق نفسه، إلى قارئ قصته أياً كان، وهي ما تزال محتفظة بعد، بقدر كبير من حرارتها...‏
(1) قصة الحاجز)، مصدر سبق ذكره..‏
(2) قصة الحاجز)، مصدر سبق ذكره...‏
(3) قصة الحاجز)، مصدر سبق ذكره...‏
(4) قصة الحاجز)، مصدر سبق ذكره..‏
(5) الجنرال) قصة محمد نفاع... نشرت في صحيفة الاتحاد)، بعددها 36/45) الصادر بتاريخ /24/ حزيران 1988، الصفحة /4/.‏
(6) قصة الجنرال) مصدر سبق ذكره...‏
(7) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره..‏
(8) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره..‏
(9) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره...‏
(10) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره..‏
(11) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره..‏
(12) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره ...‏
(13) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره..‏
(14) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره...‏
(15) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره...‏
(16) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره..‏
(17) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره...‏
(18) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره..‏
(19) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره...‏
(20) قصة الجنرال)، مصدر سبق ذكره..‏

[/align]

محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس