14 / 07 / 2009, 39 : 10 AM
|
رقم المشاركة : [15]
|
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب
|
وثمة محتويات أخرى..في الرسالة..
[align=justify]
وثمة محتويات أخرى..في الرسالة..
من الممكن أن تساعد إعادة استقراء مضامين المتوفر من قصص الانتفاضة، على تبيّن إشارات قصيرة وعابرة، هنا وهناك، إلى غير ما سبق ذكره، في سياق هذا الفصل، من محتويات رسالة الانتفاضة. وذلك على افتراض أن ما ذكر منها لا يمكن أن يكون هو كل ما تضمنته هذه الرسالة من مبادئ ودوافع وأهداف بل بعضه، وربما أقله... ومما يمكن تبينه، في قصص الانتفاضة من تلك الإشارات العابرة، غير ما ذكر سابقاً:
أولاً: الدعوة إلى الامتناع عن جميع أشكال التعامل مع سلطات الاحتلال:
بعد مرور فترة قصيرة على انطلاقة الانتفاضة، وفي أعقاب تبلور قيادتها الموحدة، أطلقت هذه القيادة دعوتها إلى الفلسطينيين العاملين في المؤسسات والأجهزة الإسرائيلية المختلفة، مطالبة إياهم بالتخلي عن وظائفهم في تلك الأجهزة. وذلك، في إطار تقييمها لجميع أشكال التعامل مع سلطات الاحتلال، كخطأ من الضروري تصحيحه، أو كرجس لا بد للفلسطينيين من ممارسة طقوس التطهر منه..
وقد اتجهت هذه الدعوة، أول ما اتجهت، إلى رجال الشرطة الفلسطينين العاملين في جهاز الشرطة الإسرائيلية... ثم ما لبثت أن اتسعت لتشمل آخرين بينهم.:جباة الضرائب، ورؤوساء المجالس البلدية والقروية وأعضاؤها، ممن عينتهم سلطات الاحتلال، وسائر العمال العرب في المعامل الإسرائيلية... وسرعان ما استجاب عدد كبير من هؤلاء وأولئك، ملبين هذه الدعوة التي عُدّت تلبيتها بين الروائز العديدة الأخرى لوطنية الإنسان الفلسطيني، ومدى التزامه بثورة شعبه وتلاحمه معها..
وبين ما أتيح الوصول إليه من قصص الانتفاضة الصادرة داخل الوطن المحتل، ثمة قصة قصيرة واحدة، أشارت، وبشكل عابر جداً، إلى هذه الدعوة، على أهميتها البالغة، وأهمية النتائج التي نجمت عن الاستجابة الفلسطينية السريعة والواسعة لمضمونها... وهذه القصة هي اسحب تربح) لصبحي حمدان..
ففي سياق حوار قصير جداً، أجراه المؤلف، بين بطل قصته الصغير الذي يبيع أوراق السحب، وبين زميل له، في المدرسة، التقاه مصادفة، في الشارع، يتوجه ذلك الزميل إلى بطل القصة، بعدة أسئلة، كان من بينها: "هل استقال أبوك من الشرطة؟؟"(1) فيجيبه بطل القصة، باقتضاب، من شهرين"(2) وبعد ذلك لا نعود نعثر على أي ذكر لهذا الأب، حتى نصل إلى نهاية القصة، حيث نعرف أن سلطات الاحتلال قد اعتقلته، ولكن دون أن نعرف سبب اعتقاله وظروفه..
ثانياً: الدعوة إلى تطهير صفوف الشعب الثائر من العملاء:
إلى حد ما، يمكن القول: إن إطلاق هذه الدعوة قد تزامن مع إطلاق الدعوة السابقة... وإذا كانت الدعوة السابقة هي نداء موجه للفلسطينيين، في الوطن المحتل، من أجل المبادرة، ذاتياً، إلى التطهر من رجس العمل في مؤسسات العدو و أجهزته، لما يجلبه هذا العمل من العار لصاحبه، فإن الدعوة الثانية هي أشبه ما تكون بإنذار تهديدي موجه إلى المتورطين، من أبناء الوطن المحتل، في التعاون مع سلطات العدو، ضد أبناء شعبهم... وعلى هذا يمكن توصيف الهدف من اطلاق هذه الدعوة بأنه محاولة جادة لتطهير هذا الشعب من عملاء العدو المندسين، بين صفوف أبنائه الثائرين..
ومن مراجعة مضمون هذه الدعوة التطهيرية، يتبين لنا أن قيادة الانتفاضة لم تقف عند مطالبة أولئك العملاء، بمجرد الكف عن الاستمرار في ممارسة عمالتهم للعدو، وإنما دعتهم، إضافة لذلك، إلى الإعتراف العلني بجرمهم، ثم طلب الصفح من الشعب، وإعلان التوبة والالتزام بها، على رؤوس الأشهاد فمن استتاب منهم وأقلع، تاب الشعب عليه، وصفح عمّا سلف منه، أما من أبى، فقد استحق عقاب الخائن، أي الإعدام..
وبين المتوفر من قصص الانتفاضة، وردت إشارة قصيرة إلى هذا الموضوع في قصة الزمن الجديد)، لنبيل عودة. وكان ورودها، في سياق صراع بطل القصة سليم، بعد أن زعمّه أهل قريته عليهم، مع المختار القديم الذي كان -كما توحي القصة- متعاوناً مع سلطات الاحتلال، ومستزلماً لهم...
فوسط حشد من كبار القرية، وأهلها، توجه سليم إلى المختار القديم، داعياً إياه إلى الاستتابة عن التعامل مع العدو، تحت أي ذريعة، وبأي صيغة وإلى إعلان التزامه بهذه التوبة، أمام الملأ جميعاً.. ثم منذراً إياه، في ذات الوقت، بأن الأمور قد خرج زمامها من يده، وآل إلى الثوار؛ وعلى هذا، فليس أمامه، وأمام أمثاله، سوى خيارين لا ثالث لهما: إما إعلان التوبة، ويعفو الشعب عما مضى، وإما مغادرة القرية، دون إبطاء: "نحن نرحمك ونقبل توبتك. ونحن لا نفرق بين أحد. نظمنا كل شؤون البلد. الشباب أمسكوا بزمام الأمور. وليعلم الجميع أن الذي لا يتوب لن يكون له موطئ قدم بيننا.".(3)
وفي القصة، كما في الواقع، يدرك المختار، ومن ترمز إليهم شخصيته القصصية، أن التغيرات المستجدة، والأوضاع التي نجمت عنها، لا تساعدهم على تحدي هذه الدعوة التحذيرية الجادة الموجهة إليهم... ولهذا، فإن من الحكمة والخير لهم، كما قدّروا ، أن يبادروا، إلى تلبيتها، وإظهار الانصياع لما تطلبه منهم. أي، أن يبادروا، فيحنوا رؤوسهم وهاماتهم أمام عاصفة الانتفاضة، ريثما تمر، على أمل أن تعود مياههم إلى مجاريها القديمة، بعد أن تهدأ الأحداث، وتستقر وهذا ما رمى إليه نبيل عودة، في صياغة جملته الإخبارية التي ضمنها إعلان المختار لتوبته: "وبعد أن أيقن المختار أن البلد لم تعد تلك البلد قبل تفجّر الأحداث، أعلن توبته، ولكنه بقي بنفس العقلية.".(4)
وواضح، في المقطع الأخير من الجملة السابقة، أن المؤلف قد قصد، من صياغتها، الطعن بصدق توبة المختار، والإيحاء، بالتالي، أن معظم الذين استجابوا لدعوة قيادة الانتفاضة، من أزلام الاحتلال وأعوانه وعملائه، وأعلنوا توبتهم، لم يتوبوا توبة نصوحاً وصادقة، وإنما تظاهروا بالتوبة فقط، مداراة وتقية، ولفترة، بانتظار ما ستسفر عنه فعاليات الانتفاضة، من نتائج في المستقبل القريب أو البعيد... وهذا يعني أنهم، في قرارة نفوسهم، ما تزال قناعاتهم المهترئة على حالها، لم تتغير، وأنها ستظل، مما يستوجب الحذر الدائم منهم..
ثالثاً: الدعوة إلى استلهام تجارب النضال الفلسطيني الماضية:
أبدأ، لم تكن الانتفاضة، وفي أي لحظة من لحظات عمرها الزاخر بالعطاءات، نبتاً شيطانياً غريباً، لا جذور له؛ أو بدعة لا أصول لها، يمكن أن يستلهمها صانعو أحداث هذه الثورة العظيمة... بل هي، وبأي المعايير قيمناها، تعد ذلك الامتداد الطبيعي، الامتداد /الذروة لخط النضال الفلسطيني المتصاعد، والذي تزامنت لحظة انطلاقه، مع اللحظة الأولى التي بدأ فيها المشروع الصهيوني أولى خطوات تجسده واقعاً، فوق أرض فلسطين العربية...
ولكن، وكما أن تأكيد انتساب الابن لأبيه، لا يستوجب ضرورة أن يكون أيّ منهما نسخة طبق الأصل عن الآخر، فإن انتساب الانتفاضة إلى تجارب النضال الفلسطيني الماضية، لا يستوجب إلغاء الخصوصية المميزة لهذه الثورة والاستعاضة عنها بالملامح المميزة، أيضاً، لكل واحدة من التجارب النضالية التي سبقتها... بل إن هذا التميز، مع القناعة بحتمية حدوثه، شاء فلان أم أبى، يبدو ضرورة حين يتعاطى معه كدلالة على تطور التجربة النضالية الفلسطينية، ونموها المضطرد، نحو التصيّر تلك التجربة /الغاية، التجربة التي ستنتهي بتحقيق هدف التحرير الشامل، والتي يعتقد كثيرون أن الانتفاضة الراهنة تمثلها الآن..
إذن، وعلى خلفية القناعة بأن الانتفاضة تطور هام يشير إلى بلوغ تجربة النضال الفلسطيني مرحلة النضج، كما يشير إلى حيوية هذا النضال، وقدرته على الاستمرار حتى يبلغ غايته، وعلى خلفية القناعة أيضاً بأن أي حركة لا تنبع من أصول عميقة وغنية، تعد حركة آيلة إلى التوقف، ومن ثم إلى الموت، لا محالة، مهما بدت درجة اندفاعها قوية، لدى انطلاقتها؛ فقد حرصت قيادة الانتفاضة على التواصل مع التجارب القديمة للنضال الفلسطيني، وعلى محاولة إعادة قراءتها، تحت أضواء الراهن، بغية النجاح في تجنب عثراتها وإخفاقاتها، من جهة، وبغية الإفادة، ما أمكن، من نجاحاتها وانتصاراتها، من جهة أخرى.. وضمن هذا الإطار المحدد من الحرص، أطلقت الدعوة إلى ضرورة استلهام تلك التجارب.
وعلى المستوى القصصي، نلاحظ تسرب هذه الدعوة إلى مضامين بعض قصص الانتفاضة، متضمنة في إشارات قصيرة التردد، ولكنها موحية... ومن هذه القصص التي اهتمت بتلك الدعوة، قصة الملثمون)،(5) لجمال بنورة..
ففي هذه القصة المتماسكة بناءً، و الغنية مضموناً، يفطن بنورة إلى ضرورة اقناع ثوار الانتفاضة، وبشكل خاص، الشباب الذين يقودون أحداثها ويصنعون نتائجها الرائعة، إلى الحذر الشديد من أي فكرة قدّ تجول بخواطرهم، وتزين لهم الإقدام على تقويض جسور تواصل ثورتهم مع تجارب النضال الفلسطيني السابقة... ذلك أن مسيرة هذا النضال لن تبلغ غايتها المرجوة، ولن تؤتي أكلها، ما لم تحافظ على اتصال حلقاتها...
وقد ضمن بنورة دعوته إلى ضرورة تواصل تجربة الانتفاضة مع ما سبقها من تجارب نضالية، في سياق المشهد الحواري الذي أداره بين راوي القصة العجوز المتحدر من الجيل النضالي القديم، وبين الملثم الذي آواه هذا الراوي، في بيته وحماه من الوقوع معتقلاً في أيدي جنود الاحتلال..
فبعد أن عرف ذلك الشاب الملثم، في شخص مؤويه العجوز، صديقاً قديماً لأبيه، أراد، وقد اطمأن إليه، أن يعرفه بنفسه، فقال له مخاطباً: "حدثني والدي عن اشتراكك معه في المظاهرات أيام الشباب.".(6) ويبدو أن هذه العبارة كانت كافية لإثارة ذكريات العجوز، والارتداد به، عبرها، إلى أيام شبابه الذي مضى، وما حفلت به تلك الأيام من نضال شارك فيه أبناء جيله، آنذاك... وبعد طواف سريع في رحاب الذكريات، ومقارنة سريعة، أيضاً، بين ما فعله وجيله، وبين ما يفعله هذا الملثم وجيله، عاد ليرد على الملثم، وقد استحوذ عليه إحساس طاغ بالتواضع: "كان هذا في الخمسينيات".(7) ثم، وكمن بوغت بسماع مالم يكن يتوقع، أضاف مسروراً: "أنت تعرف عن ذلك إذن... يسرني أنكم تدرسون تاريخنا النضالي.."(8) فأجابه الملثم، بثقة -وهنا بيت القصيد، في هذه الحوارية القصيرة -قائلاً. "ونتعلم منه أيضاً.".(9) وبهذه الجملة التي وضعها بنوره على لسان أحد أبطال قصته، من الجيل الفلسطيني الشاب/ مفجر الانتفاضة الراهنة وصانع أحداثها، يكون قد رسم بوصفه واحداً من الطليعة الفلسطينية المثقفة، شكل رؤيته للعلاقة التي يتوخى أن تربط جيل أبطال الانتفاضة، بأجيال المناضلين الفلسطينيين الذين سبقوهم..
وهذه العلاقة، كما تراها الطليعة المثقفة في الوطن المحتل، ليست علاقة تناقضية يتصارع طرفاها ويتنازعان، كما أنها ليست علاقة اندماجية، يذوب في صيغتها أحد الجيلين في الآخر ويتلاشى كينونة وخصوصية، بل هي علاقة تواصل، يكمل فيها الجيل الجديد، ما كان قد انتهى إليه جيل آبائه، ويرفد فيها جيل أولئك الأباء، جيل أبنائهم بخلاصة تجاربهم النضالية الماضية والثرة... بتعبير آخر، هي علاقة تبادلية، ايجابية الدوافع والغايات... علاقة أخذ وعطاء بين جيلين نضاليين، دافعها الرئيس وهدفها، في آن معاً، تعاون هذين الجيلين، لتحقيق أمنية التحرير للأرض الفلسطينية وشعبها، ممثلاً بكل أجياله القديمة والراهنة والتي ما تزال وعداً في رحم المستقبل..
وبعد..
ليس ما سبق استعراضه، من محتويات رسالة الانتفاضة، سوى بعض من أبرزها وأهمها، وربما أقلها أيضاً، من ناحية الكم... وعلى هذا، ثمة بنود أخرى حوتها هذه الرسالة، ولم يرد لها ذكر في سياق هذا الفصل، مع أن بعضها، واحتمال أن تكون كلها، على جانب كبير من الأهمية... وإذا كان لا بد من ذريعة تسوغ عدم ذكرها، يمكن القول إن ذلك يعود إلى عدم تطرق النصوص القصصية التي توفرت للباحث، لما يذكره في دراسته، من بنود رسالة الانتفاضة وبالتالي كان دافعه إلى عدم ذكرها هو، بالدرجة الأولى، حرصه على التقيد بمضامين القصص التي درسها، وعدم الاستطراد خارجها.
(1) قصة اسحب تربح)، مصدر سبق ذكره..
(2) قصة اسحب تربح)، مصدر سبق ذكره..
(3) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره..
(4) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره..
(5) قصة الملثمون)، لجمال بنورة. نشرت في صحيفة الاتحاد) بعددها ذي الرقم 247/45) الصادر بتاريخ (3) آذار 1989، الصفحة (4) .
(6) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(7) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(8) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(9) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره..
[/align]
|
|
|
|