عرض مشاركة واحدة
قديم 14 / 07 / 2009, 45 : 10 AM   رقم المشاركة : [17]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

بطل الانتفاضة.. يخترق حواجز: الخوف والإحباط واليأس..‏

[align=justify]
بطل الانتفاضة.. يخترق حواجز: الخوف والإحباط واليأس..‏

بطل الانتفاضة.. يخترق حواجز
سبقت الإشارة، في الفصل الثاني من هذه الدراسة، إلى أن مشاركة أبناء الشعب العربي الفلسطيني، داخل وطنهم المحتل، في فعاليات الانتفاضة الراهنة، قد بلغت حداً من الاتساع والشمولية، لم تبلغه، قبلها، أي من الثورات الفلسطينية السابقة؛ وهذا ما جعل الانتفاضة ترقى إلى مستوى ثورة تحرير شعبية، بكل ما تنطوي عليه صفة شعبية)، من دلالات ومعانٍ.. وربما ليس خطأ الاعتقاد بأن قدرة الانتفاضة على الاستمرار، وما حققه استمرارها من نتائج، وما نجم عن هذه النتائج من متغيرات على مختلف الصعد والمستويات، محلياً ودولياً، يعد بين العوامل الأكثر تأثيراً وفعلاً، في إكساب الانتفاضة صفة الثورة الشعبية، أي في إضفاء طابع الشمولية عليها، كثورة..‏
ومن خلال خصوصية العلاقة السببية الوثيقة بين استمرارية الانتفاضة، وشمولية المشاركة في فعالياتها، يمكننا إيضاح ما قد يبدو تناقضاً بين توصيف الانتفاضة بأنها الامتداد، الذروة لما سبقها من ثورات وتجارب نضالية فلسطينية، وبين كونها، عبر استمراريتها، أحد أهم العوامل، بل ربما العامل الأهم، في إقدار غالبية أبناء الشعب العربي الفلسطيني، داخل الوطن المحتل، على اختراق دائرة المثبطات التي كانت تحاصر إرادة الثورة في نفوسهم، وتعيق رغبتهم في نقل هذه الإرادة من حيز التمني إلى حيز الفعل الملموس ممارسةً، على أرض الواقع..‏
فنظرياً، على الأقل، من المفترض أن يكون اختراق حصار المثبطات لإرادة الثورة، أي ثورة، سابقاً لانطلاقتها لا تالياً لها وبسببها.. وذلك لسبب بسيط، هو كون هذا الاختراق يعد أحد الشروط الرئيسة والمبدئية، الواجب توفرها لانطلاقة أي ثورة... ولا شك أن هذا الافتراض صحيح، حين يكون المخصوص بالحديث مفجري الثورة وقادحي شرارتها الأولى، وليس غالبية الشعب التي يظل أفرادها أسرى التردد والخوف من إعلان ثورتهم والشروع في تجسيد رغبتهم بها ممارسة، حتى تنقدح تلك الشرارة... ذلك أن الإنسان العادي الذي يتشكل منه قوام الغالبية، في أي شعب، تشجعه بطولات الثوار الأوائل وممارساتهم، وتشعل الحماس في نفسه للإنضمام إلى ركبهم... وحين تتحد شعلة حماسه مع استطالات أعمال القمع الموجهة ضد الثوار، ووصولها إليه، على الرغم من عدم انخراطه في صفوفهم بعد، ينفجر صمام صبره، دفعة واحدة، لتصير تراكمات نقمته اللامحدودة على واقع القهر والاضطهاد قوة اندفاع خارقة، تصهر حرارتها خوفه وتردده، وتنطلق به إلى ساحة المواجهة مع العدو، ثائراً جديداً..‏
إذن، وتأسيساً على افتراض صحة التصورات والقناعات الآنفة، يمكن القول إن انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها، وما حققه الثوار من انتصارات على قوات الاحتلال الإسرائيلي، كانت عوامل رئيسة في إحداث تغييرات عميقة على مستوى البنية النفسية لغالبية أبناء الوطن المحتل، وهذه التغييرات تحولت، بدورها، إلى عامل مؤثر وفعال ساهم في إقدار تلك الغالبية على اختراق دائرة المثبطات لإرادة الثورة في نفوس أفرادها. تلك المثبطات التي كانت تشعرهم بالخوف من عواقب الثورة على العدو، وتحاصرهم باحتمالات الفشل، لإدراكهم عدم التكافؤ بالقوى بينهم وبينه، ثم تلقي بهم في أحضان اليأس والإحباط والقنوط، من إمكانية تحقيق النصر على ذلك العدو، ومن النجاح في تغيير واقع الاحتلال الذي يفرضه عليهم..‏
وهنا، ثمة ملاحظة، على قدر من الأهمية، قد يكون من الضروري الإشارة إليها... وهذه الملاحظة تتعلق، بكيفية اختراق غالبية أبناء الشعب العربي الفلسطيني، داخل الوطن المحتل، لحواجز الخوف والإحباط واليأس، بعد انطلاقة الانتفاضة، وبتأثير استمراريتها... فعلى ضوء النتائج التي يقود إليها استقراء أحداث هذه الثورة وتطوراتها، وتطورات اتساع المشاركة الشعبية فيها وشموليتها، يتبين أن اختراق غالبية الفلسطينيين، للحواجز النفسية السابقة، لم يحدث دفعة واحدة...؛ أي لم يكن اختراقاً متزامن الحدوث لجميعها؛ بل كان اختراقهم لها تتابعياً..‏
بتعبير آخر، أكثر تفصيلاً ووضوحاً، يمكن القول: إن الإنسان الفلسطيني قد بدأ، أولاً باختراق حاجز الخوف والتردد من عواقب المشاركة في الانتفاضة، ومما كان يتوهمه، في تلك العواقب، من سلبيات، وذلك بتأثير عاملين رئيسين: الأول، نجاح مفجري الانتفاضة، وغالبيتهم من الأطفال والشبان الصغار- كما هو معروف- في تحدي قوات الاحتلال، والصمود في مواجهتها، على الرغم من عدم التكافؤ المذهل بينهم وبينها، من ناحية امتلاك أسباب القوة ووسائلها. أما العامل الثاني، فهو كون أولئك الثوار الصغار، هم الأبناء والأخوة والأقارب... ومن غير المعقول أن يرى المرء ابنه أو أخاه الأصغر يواجه الخطر نيابة عنه، ثم يظل هو مكتوف اليدين، لا يهب لنجدته ومساعدته، مهما كانت نتائج هذه المساعدة سلبية العواقب..‏
وهكذا، وتدريجياً، بدأ حاجز الخوف الوهمي الذي كان يكبل كثيرين بالتردد ويدفعهم إلى الإحجام عن المشاركة في فعاليات الثورة، بدأ بالتلاشي، حالما شرعوا في خوض المواجهة... وما كاد ذلك الحاجز يتداعى ويزول، حتى اكتشفوا خرافية القوة العسكرية الخارقة، لعدوهم- تلك القوة التي كانت قناعتهم باستحالة التفوق عليها، مثبطاً لارادتهم في إعلان الثورة على ذلك العدو. لقد اكتشفوا، في ساحة المواجهة، أن السر في امتلاك الإرادة وليس في نوعية السلاح وكميته... وقد تأكدت لهم صحة ما اكتشفوه، حين لمسوا بأنفسهم عجز عدوهم، بكل ترسانة الأسلحة الضخمة والمتطورة التي يملكها، عن قهر إرادتهم في استعادة حريتهم وحرية أرضهم، على الرغم من أن كل ما استخدموه من أسلحة لتجسيد هذه الإرادة واقعاً، كان الحجارة والزجاجات الحارقة.. وبهذا الاكتشاف، استطاعوا اختراق حاجزي اليأس والإحباط، والصيرورة إلى الشعور بنقيضهما، أي الشعور بالتفاؤل والامتلاء ثقة بحتمية النصر على ذلك العدو، وبحتمية النجاح في انتزاع حريتهم وحرية أرضهم من براثن سيطرته..‏
وبعد، فالسؤال الذي يطرح نفسه، في هذا الموضع من سياق البحث، هو: إلى أي حد نجحت قصص الانتفاضة، في التعبير عن التحولات والتغييرات السابقة التي أحدثتها انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها، على مستوى البنية النفسية للإنسان الفلسطيني، داخل الوطن المحتل؟‏
بداية، يمكن القول: إن استقراء ما أمكن جمعه من قصص الانتفاضة التي صدرت في الوطن المحتل، تقود نتائجه إلى إمكانية الزعم بأن القارئ يستطيع أن يستشف، بين سطور أي قصة، إشارة ما، إلى واحد أو أكثر، من التحولات والتغييرات التي أحدثتها انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها في نفسية الإنسان الفلسطيني... لكن، ولدى محاولة التمييز بين القصص التي اكتفى مؤلفوها بالإشارة العابرة والسريعة إلى بعض هذه التحولات، وبين القصص التي ركز من كتبها على تلك التحولات، وأبدى اهتماماً واضحاً بعرضها وإبرازها، نلاحظ وجود خمس فقط، من الصنف الثاني. وهذه القصص الخمس التي سبقت معالجة جوانب معينة من مضامينها، في بعض فقرات الفصلين الأول والثاني، من هذه الدراسة، هي التي ستشكل القراءة التالية لجوانب جديدة من مضامينها، محور هذه الفقرة وقوامها..‏
أولى هذه القصص الخمس هي الحاجز)،(1) لنبيل عودة.. وللوهلة الأولى، قد يبدو غريباً تمكن بطلها/ الطبيب الشاب أحمد من استعادة ثقته بنفسه وبشعبه، وهو في أضيق حالات الحصار وأصعبها.. أي، وهو خاضع للتفتيش، من قبل جنود حاجز إسرائيلي. لكن الغرابة ما تلبث أن تزول وتتلاشى، حين نتبين أن لحظة خضوع ذلك البطل لمهانة التفتيش جاءت متزامنة، مع عاصفة من حجارة الانتفاضة، سبقت هبوبها وأعلنت عنه أعلام فلسطين التي غطت السماء، فجأة، حين طيرها عدد من أبطال الانتفاضة، بواسطة بالونات، متبعينها برعد حناجرهم التي كانت تهتف مجتمعة باسم فلسطين..‏
ففي تلك اللحظة الرائعة التي حولت مناخ الموقف، عند الحاجز الإسرائيلي، من النقيض إلى النقيض، زالت مشاعر الخوف والقنوط والإحباط والمهانة التي كانت تملأ نفس بطل القصة، ليحل محلها، ودفعة واحدة، شعور نقيض... شعور الثقة بالنفس والكرامة، والثقة باقتراب لحظة الخلاص، وحتمية حدوثها.. وقد استطاع نبيل عودة إيقاف هذه اللحظة الرائعة وإخراجها من مسارها الزمني الاعتيادي، ثم استبقاءها خالدة في المسار الفني لأحداث قصته، حين كثف ماطرأ خلالها من بدايات التحول في نفسية بطله، بالسؤال الموجز المعبر التالي "أجل، لماذا القنوط؟"(2) ذلك أن البطل طرح هذا السؤال الاستنكاري على نفسه، حين رأى الضابط الإسرائيلي الذي كان يتهادى متغطرساً، قبل قليل، كيف راح "يكز على أسنانه مع كل "زخة" فلسطين يطلقها الشباب مع رشقات الحجارة"،(3) وكيف صار، وجنوده، عاجزين عن الفعل، على الرغم من الأسلحة التي بأيديهم... لقد شعر البطل، لحظتذاك أن دوي الأصوات الثائرة الهادرة باسم فلسطين، والحجارة التي تقذفها الأكف الغاضبة، قد صار أقوى من عساكر الاحتلال ورصاصهم، بما لا يقاس..‏
وفي ذروة هذا التحول النفسي الكبير، بدأ بطل القصة بتحليل الواقع الراهن، معيداً تقدير القوى، المتصارعة على أرضه، من منظور جديد مختلف، جد الإختلاف، عن منظوره القديم... منظور القنوط واليأس.." وربما لأول مرة يعتريه شعور الفرح الممزوج بالرهبة قليلاً... إحساس من القوة يتسرب إليه وتأخذه أفكاره بعيداً:‏
نحن أقوى منهم... هذا لا شك فيه.."(4)
ويمضي العقل الذي أضيء بمعيطات جديدة، في محاولة استنباط تعليل صحيح لإحساس صاحبه المفاجئ بصيرورة الفلسطينيين أقوى من عدوهم الإسرائيلي.. وما يلبث أن يعثر على ذلك التعليل، في إصرار أبناء شعبه على التمسك بأرضهم، وفي وعيهم ضرورة الإسراع بالمبادرة إلى تحريرها.." لا، لن يخيفوا شعباً يتمسك بوطنه.."(5) وتلاشي الخوف هنا، مصدره بالدرجة الأولى -نمو الوعي الفلسطيني بضرورة التجذر في أرض الوطن، وتأكيد الانتماء إليها عبر تنمية الإحساس بأن شعب فلسطين هو صاحبها الوحيد الذي يرفض أي صيغة للشراكة فيها مع أي غريب عنها، وتحت أي ظرف.. لأنه وحده ملح ترابها... ولأنه وحده من تضرب جذوره بعيداً، في أعماق تاريخها السحيق.. أما المحتلون الإسرائيليون، فما هم، على الرغم من كل إدعاءاتهم، إلا طارئون، وسيمضون راحلين عنها حتماً..‏
ويبدو أن موضوع التحولات التي أحدثتها انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها، في نفسية الإنسان الفلسطيني، قد استقطبت الكثير من اهتمام القاص نبيل عودة، الأمر الذي أغراه بإعادة الإشارة إليها، في قصته الزمن الجديد)(6) ولكن من منظور آخر، وعلى نحو أكثر تفصيلاً ووضوحاً.. فاستعادة ثقة الفلسطيني بنفسه وبشعبه، في هذه القصة، ليست وليدة إحساس مفاجئ، يداخل إنساناً فرداً، بل هو إحساس جماعي يداخل أبناء قرية بطل الزمن الجديد) الذي ينجح في إعادة وعيهم الوطني إليهم، وفي إشعارهم بضرورة الانتماء إلى الثورة والمشاركة في فعالياتها، لا بهدف تحرير أرضهم فقط، وإنما بهدف تحرير أنفسهم، أيضاً، من ذل الخضوع لمحتل تلك الأرض، ومن خوف التعرض له وتحديه.. ولايصالهم إلى هذا المستوى من الوعي، كان على بطل القصة، أن يخوض، أولاً صراعاً مريراً مع أعوان سلطة الاحتلال وأذنابها، ومع رموز الإحباط ودعاة اللامبالاة والتجابن في القرية... وهؤلاء وأولئك، جسدهم نبيل عودة، تجسيداً رمزياً، في قصته، بشخصية مختار القرية وأبناء أغنيائها..‏
ولنعد إلى بداية الحدث، لنستطيع متابعة تطوراته ونتائجها... لقد شدت بطولات ثوار الانتفاضة ونتائج أفعالهم العظيمة، أنظار بعض شباب القرية وأطفالها، وأثارت اهتمامهم..ثم ما لبثت هذه البطولات أن دفقت في نفوس أولئك الصغار رغبة جامحة بالمشاركة، في الفعل النضالي الساعي إلى بناء غد التحرير... وكانت ولادة هذه الرغبة هي أول التحولات الهامة التي أحدثتها الانتفاضة في نفسياتهم... وتحت تأثير الالحاح القوي لهذه الرغبة على نفوسهم، اخترقوا حاجز التردد، وخرج نفر منهم لاعتراض دورية إسرائيلية مرت بالقرية... رموها بالحجارة، ونجحوا في طردها..‏
كانوا ثلة من التلاميذ الصغار، لم يحبطهم الخوف بعد، ولم يشل إرادة الفعل فيهم توجسُ انتقام العدو منهم، بوحشيته المعروفة... ولكن بعض كبار السن، في القرية، ممن خبروا الماضي، وكلسهم الخوف من تكرار ما تعرضوا له فيه، هم وقريتهم، والكثير من القرى المجاورة والبعيدة، سارعوا مبادرين إلى المختار/ رمز العمالة التقليدية مع المحتل، ورمز الزمن الاستسلامي الذي مزقته حجارة الانتفاضة، فيما مزقت، سارعوا إليه راجين تدخله لدى أسياده، كي لا يأخذوا القرية كلها بجريرة طيش) بعض صغارها. وهنا، اغتنمها المختار فرصة، فراح يتشفى، ويمعن في إهانة كرامة المستجيرين بـجاهه)، في محاولة منه لتضخيم دوره الهزيل، ولتثبيت مركزه الذي بدأ يخاف تضعضعه..‏
"المختار فقع من الغضب والنرفزة، وهدد السكان بكبائر الأمور وعظائم ردود الفعل حين يصل الجيش ويفعل ويترك بأهل البلد... انقسم السكان على أنفسهم بين منخرس لما حدث، وبين متوجس خائف مرتعب لما سيحدث.‏
-دبرها يا مختار.‏
-يلعن أبو هيك بلد وأبو هيك أهل وأبو هيك أولاد وأبو هيك تربية.‏
-ايدينا بزنارك يا مختارنا.‏
-ربوا أولادكم يا بهائم.‏
-يا رجل المحن أنت يا مختار.‏
-تفو عليكم وعلى أولادكم. ماذا أقول لأصحابي؟ ما هذه المسخرة؟ أنتم قدهم؟‏
-سنربيهم ونكسر أيديهم وأيدي من يفعلها مرة أخرى.‏
-أنت سيد البلد.. ووجيهها.‏
-كلمة منك تزن رطلاً.‏
-أنت سيدنا وتاج راسنا.‏
-والله حيرتونا معكم... سنذهب نترجى من يسوى ومن لا يسوى؟‏
-دبرها يا مختار.‏
-هل نهون عليك؟‏
-دبروا أولادكم بالأول... إذا عجزتم عن تربيتهم.. الشرطة تربيهم ...الجيش يربيهم.. الحكومة تربيهم..."(7)
وما إن وصل المختار إلى هذا الحد، وبدأ يستشعر نشوة الإحساس بالأهمية، ولذة خضوع أهل قريته لسلطانه، حتى حدث ما لم يكن متوقعاً من أحد، على الإطلاق... فقد نهض شاب مغمور من فقراء القرية، يتحدى المختار وأسياده المحتلين، في آن معاً، غير هيّاب من أحد..، ولا ملتفت لاستنكار أحد أو مهتم بتعجبه... وفي ذات الجلسة، خطف اهتمام الحاضرين بالمختار وكلامه، وجعله ينصب على ما يقوله هو، حين راح، وتحت بصر المختار وسمعه، يشرع في تثوير أهل قريته، وإعدادهم لدخول الزمن الجديد، زمن الانتفاضة...‏
كان هذا الشاب المفاجئ هو سليم النجار بن عطا، خباز القرية الفقير.. وقد ركز نبيل عودة على شخصيته وأسهب في رسم ملامحها وأبعادها، وهو يقدمها، للقارئ، بوصفها شخصية بطل ثوري إيجابي، استطاع بصبره وذكائه وإخلاصه وشجاعته أن يعيد أبناء قريته إلى وعيهم، وأن ينتشلهم من بؤرة إحساسهم بالخوف واليأس والإحباط، معيداً إليهم الثقة بالنفس، والشعور بالقدرة على الفعل أيضاً..‏
وقد تأتى له أن يفعل هذا كله، وينجح في تحقيقه، إثر انتصاره على المختار العميل، في ذلك الاجتماع نفسه الذي كان التفوق للمختار، في بدايته... فبعد أن فاجأ سليم الجميع بتحديه للمختار، دخل الرجلان في مشادة حامية، انتهت بانتصار سليم... ولعل أبسط توصيف لما يمكن أن توحي به الدلالة الرمزية لهذه المشادة، هو أنها تمثيل للصراع بين فريقين من أبناء الوطن المحتل، كل فريق منهما ينتمي لجيل، ولكل منهما وجهة نظره الخاصة، والمختلفة عن وجهة نظر الآخر..‏
فالمختار، ومن استجاروا به من كبار السن، في القرية -مع تأكيد الفارق في الخلفية والأهداف بينه وبينهم- يمثلون فريقاً من جيل الفلسطينيين القدامى الذين رهلهم الركون إلى قدوم الفرج والخلاص من الخارج، وبفعل الآخرين لا بفعلهم هم. وقد كان بين الأسباب الرئيسة لاصابتهم بهذا الترهل، استمراؤهم للعبة المراوحة اللامجدية على أرضية انتظار ذلك الفرج الوهمي... هذه اللعبة التي جعلتهم، بمرور الأيام، يستكينون للاحتلال، ويكيفون أنفسهم مع وجوده، دون أن ينتبهوا إلى أنهم، بهذا الفعل، إنما كانوا يمرغون كرامتهم بالوحل، ويلقون بمستقبلهم في غياهب المجهول... أما سليم، رمز الطليعة الواعية والمثقفة للجيل الفلسطيني الشاب، فقد أيقن أن النصر هو ثمرة الفعل الذاتي، ثمرة النضال والتضحية والصمود، وليس هبة مجانية تأتي من الخارج... لنتأمل الفارق النوعي الواضح والكبير، بين وجهتي نظر الجيلين، عبر المقابلة التالية:‏
" في البداية، حدث صراع مع بعض كبار السن. أرادوا أن يفرضوا سلطتهم على الأحداث. افعلوا كذا وكذا. إياكم والاصطدام مع الجيش. نحن لسنا قدهم.. صحيح نحن مع الجماهير، ولكنا هنا في البلد معزولين. إذا دبكوا فينا فلن يخرج منا مخبر. إنهم وحوش كاسرة لا يقيمون حساباً لعرض أو احتراماً لعاجز أو شفقة على ولد... لا تضيعونا في آخر العمر. ما عاد لنا قد ما مضى.. وهكذا دواليك.. كلام من هذا النوع يهبط العزائم، ويترك في النفس شعوراً من المرارة والهزيمة والكآبة والإحباط.".(8)
إنه حاجز الخوف الذي ارتفع بنيانه على مدار عشرين سنة، ليصير يأساً وهمياً من إمكانية مواجهة العدو واحراز النصر عليه.. لكن هذا الحاجز، على سماكته المفرطة وعلوّه الشاهق، كان حاجزاً هشاً، قوامه الوهم، والوهم فقط، ومكانه بعض نفوس كبار السن، وليس جميعهم..." ولكن، والحق يقال... إن معظم كبار السن لم يرضوا عن هذا الكلام.".(9)
ويقينا من سليم، ومن شاكله من أبناء جيله، بهشاشة بنية حاجز الخوف هذا، ووهمية اليأس التي يوحي بها لبعض ضعاف النفوس والقلوب، نراه -أي سليم- لا يتردد في محاولة اختراق هذا الحاجز، وتبديد إشعاعات التيئيس المنبعثة منه، تمهيداً لتثوير أبناء شعبه..‏
"وقف سليم النجار وأبلغ أهل البلد المتجمعين في الجامع بأن أكثرية أهل القرية يرفضون هذا الكلام - يقصد كلام التخويف والتيئيس الوارد آنفاً- وتمتم بصوته الرنان:‏
-زهقنا الخنوع، وعفنا حياة الذل. وأتبع هذا بقول عبد الرحيم محمود الشهيد، فإما حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدى.."(10)
وبعد، واضح أن وجهتي النظر السابقتين تتناقضان، تمام التناقض فأولاهما التي يتبناها مترهلو الجيل القديم، ويحاول المختار وأتباعه تأكيدها وإشاعتها، تدعو إلى الذل والاستسلام والخنوع، عبر الاستمرار في موقف العطالة عن الفعل، أما ثانيتهما التي يتبناها سليم وكثير من أبناء جيله الشاب، فتدعو إلى النقيض... ولأن الثانية هي الأقوى حجة والأكثر منطقية وإقناعاً، فقد نجح سليم، عبر إيصال فحواها إلى أبناء قريته، في إحداث التحول النفسي المطلوب... نجح في تحطيم منظومة المعايير القديمة المهترئة، وفي التمهيد لتغييرها بأخرى جديدة.. أو حسب تعبير وليد) أحد أبطال القصة: "أزال* الدهن المترسب في عقول الشباب والشيوخ وحرك الأحلام، أحيى الأمنيات، وأوقد جمر الأمل في النفوس. وأهم ما فعله زرع الثقة بالآتي حتى صار من المستحيل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه.".(11) ولكن، كيف تسنى لسليم أن يفعل ذلك كله؟‏
يشير نبيل عودة، معللاً موضحاً، إلى أن بطله سليم قد أتى أهل قريته، من الباب الذي لا يقدر أحد على نكرانه أو تجاهله أو الاعتراض عليه... أتاهم من صدمهم بحقيقة الواقع المهين الذي يتناسون اضطرارهم للقبول به، ويهربون من التفكير في الثورة عليه، خشية توهمهم اللاجدوى في ثورة كهذه، وخشية ما سيجره عليهم احتمال اخفاقها من التعرض لمعاناة ما هو أسوأ من واقعهم الذي كان قبلها، وما هو أشد قسوة وعذاباً.. كما أتاهم، أيضاً، من تذكيرهم بكرامتهم التي مرغت بأوحال خوفهم وأوهام يأسهم، ومن تذكيرهم بأرضهم التي أوشكت أن تنحل وشائج ارتباطهم العريق بها، نتيجة تقاعسهم عن تحريرها من جهة، ووقوفهم مكتوفي الأيدي من العدو الذي يبتلع، كل يوم، أجزاء جديدة منها، من جهة ثانية... وأتاهم، أخيراً، من باب تنبيههم إلى ضرورة المشاركة في ثورة شعبهم، على خلفية تحريك عواطفهم القومية بالعزف على أوتار القناعة التي لا ينكرها أحد منهم، القناعة بأنهم كفلسطينيين، ليسوا أفضل من أولئك الذين يضحون ويستشهدون، وهم يحاولون صنع غد الحرية لهم ولأرض وطنهم، في آن معاً...‏
وقد صارح سليم أبناء قريته بكل هذه الحقائق، وفتح عيونهم عليها، في سياق المشادة الحامية التي دارت بينه وبين المختار، تحت سمعهم وأبصارهم...‏
فبعد أن بالغ المختار في تحقير من جاؤوا يرجون وساطته لدى أصحابه) من سلطات الاحتلال، كي لا يعاقبوا القرية كلها بـ طيش) بعض صغارها الذين حاجروا دورية من دورياته، وبعد أن ظن بلوغه ما أراد، إذا بسليم يقطع الطريق عليه، ويتصدى له هازئاً به، مسترخصاً وساطته، ومستهيناً به وبمن سيتوسط لأهل القرية عندهم :" أصحابك من الادارة المدنية لايخوفونا، أنا أقول بشكل واضح، نحن جزء من هذه الأرض. نحن هنا في وطننا. أهل البلد، لأمر لا أفهمه ولا أقبله، يترجوك من الصبح، وأنت تلاعبهم لعبة شد الحبل، تهينهم وتمسح بهم الأرض هل تريد أن يعطوك نصف محصولهم حتى تحل لهم ما تسميه مشكلة؟ نحن لا نريد أن نحلها. نحن نريد أن نؤزمها. ولا توجد مشكلة اسمها قذف حجارة. توجد قضية اسمها الاستقلال. قضية اسمها الكرامة.. دم الشهداء النازف في مدننا وقرانا المحتلة ليس أرخص من دمنا...".(12)
بهذا المنطق النابع من موقف ثوري صادق، والمؤشر إلى اكتمال وعي الجيل الفلسطيني الشاب بأبعاد قضيته، وحقه، وبضرورة شمولية ثورته، استطاع سليم -رمز هذا الجيل في القصة- اسكات المختار الذي هو رمز الترهل والعمالة، وبهذا المنطق نفسه، استطاع تهيئة أهل قريته للثورة... فقد أقنعهم بأن التذلل والخنوع لا يجديان في مقاومة شهوة المحتل لسرقة المزيد من أراضيهم، ولا في الحيلولة بينهم وبين ممارساته العنصرية ضدهم. وعلى هذا، فإن المواجهة لا التذلل، هي التي يمكنها أن تضع حداً لاستمرارية تلك الممارسات وتصاعدها..‏
وبالفعل، ما إن استقرت هذه القناعة في عقولهم، حتى بادروا إلى اختراق حاجز الخوف الوهمي من عدوهم، ثم ما لبثوا أن بدأوا يستعيدون ثقتهم بأنفسهم وبقدرتهم على الحركة والفعل المؤثر الموصل إلى النصر... ولا أدل على تحولهم النفسي هذا، إلى نقيض ما كانوا عليه، من خروجهم جميعاً إلى ساحة المواجهة، غير عابئين بعدوهم وآلته الحربية المتطورة؛ ومن استعدادهم الرائع للتضحية بكل ما لديهم، حتى بحيواتهم، في سبيل تحرير أنفسهم ووطنهم... وقد رمز نبيل عودة إلى هذا التحول من النقيض إلى النقيض، بتصويره لطريقة استقبالهم نبأ أول من استشهد منهم، بالزغاريد...‏
أما المختار وأمثاله، فقد اندفعوا، مرغمين، إلى الانحشار في الزاوية المهملة، على هامش الأحداث التي أفلت زمامها من أيديهم، بعد عشرين سنة، أو يزيد..‏
القصة الثالثة التي اهتم مؤلفها بإبراز بعض ما أحدثته انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها من تغييرات في نفسية الإنسان الفلسطيني، داخل وطنه المحتل، هي قصة وتكون لنا راية)(13) لنبيه القاسم. وبالطبع، كان للقاسم زاوية رؤيته الخاصة في الاطلال على تلك التغييرات، وفي اختيار ما حاول إضاءته منها في سياق قصته... فقد اختار التركيز على ما تلا اختراق الفلسطيني لاحساسه بالخوف والاحباط واليأس...، أي على امتلائه بحس الانتماء للثورة، وعلى فرحه باستشعار هذا الانتماء، وبالقدرة على ترجمته فعلاً إيجابياً ملموس النتائج، فوق أرض الواقع ...بتعبير آخر، ركز القاسم، ومن الجملة الأولى التي ابتدأ قصته بها، على إبراز فرح الفلسطيني باستشعاره لما أكسبه الانتماء إلى الثورة من جدوى لحركية فعله النضالي، ضد الاحتلال. "لم يصدق أن كل ذلك حدث هذا اليوم... لأول مرة يشعر بأن له راية وله نشيد وله ما يقاتل من أجله.".(14)
لقد أضفت هذه المحددات الثلاثة الجدوى على فعله النضالي، ورسمت لحركية هذا الفعل هدفاً سامياً وواضحاً... ثم جاء إدراك الفلسطيني لهذا الهدف وإيمانه به وبضرورة تحقيقه، ليذكيا إصراره على الاستمرار في ثورته، والمضي بها إلى غايتها، على الرغم مما يحف الطريق إلى هذه الغاية من مخاطر... وهذا يعني أن استهانة الفلسطيني الذي انتمى للثورة، بالخطر، لم تكن من قبيل المجازفة العبثية اللاواعية، بل هي وليدة ثقته بنفسه، ووليدة إيمانه القوي برسالة ثورته، وبضرورة تجسيدها واقعاً، مهما بهظت التضحيات... ولهذا، فقط، لم يعد" يسأل نفسه ولو للحظة: لماذا أنا هنا؟ فقد كان بكل إدراكه ومعرفته ومشاعره يرتبط بهذه المواقع التي يقاتل فيها، تماماً كما يدرك ويعرف أن قريته البعيدة في الجليل، هي المكان الذي ولد فيه ويسكنه أهله وعرف فيه أول حب"(15) بمعنى أن معرفته لهدف ثورته ولدوافع انخراطه في فعالياتها، قد صار بدهياً... إن انتماء الفلسطيني للثورة، بكل هذا الزخم، وعلى هذه الدرجة من الوعي والإدراك، ومن الثقة بالفعل المتولد عن انتمائه، قد نسف كل الجسور المحتملة للتراجع، والمفضية للعودة إلى وضعية المراوحة على أرضية انتظار ذلك الفرج الوهمي القادم من وراء حدود الأرض والذات..‏
بتعبير آخر، إن ماطرأ على نفسية الفلسطيني من تحول، بعد انطلاقة الانتفاضة، شبيه إلى حد كبير، بما آلت إليه نفسيات جنود طارق بن زياد، بعد أن أحرق سفن العبور التي أقلته وإياهم إلى البر الأندلسي... لم يعد أمام الفلسطيني، داخل وطنه المحتل، سوى خيارين، كلاهما فادح الثمن.. فإما الاستمرار في الثورة، حتى تبلغ كامل أهدافها، مهما كلفه الاستمرار فيها من تضحيات ودماء وعذابات، وإما الرحيل عن أرضه التي يحبها إلى غير عودة، ودون رجاء، والوقوع، بالتالي، فريسة التشرد والضياع والغربة والاضطهاد، كما حدث لأخوة له من قبل..‏
ولأن الخيار الأول، خيار الاستمرار في الثورة، يعني، في حال الفشل، موتاً واحداً مريحاً، بينما يعني الخيار الثاني معاناة الموت ألف مرة، في كل يوم، فقد قرّ رأي الإنسان الفلسطيني، على خيار الاستمرار في الثورة.. وفي محاولة منه لتأكيد ثباته على هذا الخيار للنهاية، فقد بادر إلى إحراق كل السفن التي يمكن أن تراوده هواجس اللجوء إليها، وقت اشتداد الأزمة، للتراجع على متنها إلى جحيم ما قبل الانتفاضة الذي كان يتلظاه، أو الصيرورة إلى جحيم آخر اشد وأدهى، هو جحيم الغربة والتشرد..‏
لهذا كله، وانطلاقاً من وعيه له، ولأبعاده الراهنة واحتمالاته المستقبلية المختلفة، "كان يندفع مع الشباب بكل قوته، يحاصرون الجنود المدججين بالأسلحة... ويعلو النشيد وترتفع الراية في السماء.. رائحة الغاز تملأ الجو، والرصاص يلعلع، ولا أحد يفكر بالتراجع.".(16) وأنى له أو لغيره أن يفكر بالتراجع، وهو يعلم أن التراجع صار يعني انطفاء الأمل والهزيمة والموت؟ أنى له أن يفكر بالتراجع، بعد أن ذاق حلاوة التحرر من وطأة مشاعر الخنوع، ومن لزوجة الإحساس المرهق بالذل والمهانة...، ومن إحباطات الماضي وقنوطه ويأسه...؛ وبعد أن امتلأ أملاً وثقة بنفسه وبقدرته على تحويل حلم الحرية، من مجرد حلم إلى إمكانية قابلة للتجسد واقعاً، في المستقبل القادم؟!!‏
ومن الممكن متابعة التطورات الرائعة لتفاعل امتلاء الفلسطيني بحس الانتماء إلى ثورته، مع تعاظم اندفاعه الواعي في مسالكها ودروبها، نحو هدف التحرير، في قصة هنية)(17) التي كتبها محمد نفاع... ففي هذه القصة، نتابع، معجبين، الصغير فارس، وهو يقذف الحجارة على عسكر الاحتلال وآلياتهم، غير عابئ برصاصهم، ولا بطائراتهم التي راحت "تلاحقه وتشير إليه هو بالذات"..(18) ذلك أنه كان مندفعاً بصوت أمه التي كانت تستحثه: "اضرب يا ولد، كما ضرب أخوتك، اضرب فأنت لست أفضل منهم.".(19)
وبالفعل، يستمر فارس منصاعاً لنداء أمه، يضرب ويقاتل، غير خائف من الطائرة التي كانت "تنخفض وتلاحق"(20) ولا آبه بها، حتى يقع شهيداً..وما أن ترى هنية ثالث أولادها وأصغرهم يستشهد لاحقاً باخويه، حتى تبادر " بأصابعها راسمة شارة النصر"(21) معلنة بذلك إصرارها على استمرارية التحدي، على الرغم من فداحة الثمن الذي دفعته...‏
إن قصة هنية) تبرز، بوضوح، نجاح مؤلفها في الإشارة إلى التحول النفسي الكبير الذي طرأ على نفسية الإنسان الفلسطيني، بعد انطلاقة الانتفاضة، وبتأثيرها... هذا التحول الذي نلحظ تجسده أولاً، في موقف هنية، رمز الأم الفلسطينية التي تتعالى على عاطفتها الأمومية، فتدفع أولادها الثلاثة إلى الاستشهاد، الواحد تلو الآخر، ثم تتعالى ثانية، على أوجاع ثكلها إياهم، فترفع أصبعيها ترسم بهما شارة النصر، مواصلة التحدي والإصرار على الثورة... ونلحظ تجسد التحول النفسي، أيضاً على مستوى آخر، هو مستوى بطل الانتفاضة نفسه، الذي يمثله في القصة فارس... ففي حركية ممارسته للفعل الثوري، نراه يتجاوز كل حواجز الخوف ومسبباته، وهو في طريقه إلى هدفه حتى أنه يكاد يبدو، وهو يحاجر الأعداء، أكبر من آلياتهم ومن الطائرة التي كانت تلاحقه... بل تكاد تلك الطائرة تبدو، في سياق الحدث وضمن إطاره، وكإنها طائرة ورقية، من التي يلعب الأطفال بها..‏
القصة الخامسة التي تشف عن عناية مؤلفها بتتبع تطورات مسار التحدي الفلسطيني، وعن محاولته رصد مدى ما بلغته استمرارية الانتفاضة من قدرة على تحطيم حاجز الخوف من العدو الصهيوني، في نفسية الإنسان الفلسطيني، هي قصة لأني أحمل حجراً)(22) التي كتبها ابراهيم جوهر.‏
فالصغيرة روان) بطلة القصة، وبعد خروج أبيها من السجن، وكثمرة لتفتح وعيها وإدراكها لأسباب سجنه، يتحطم حاجز الخوف، في نفسها، من سجانيه، فتتغير صورتهم القديمة المرعبة)، في وعيها ومخيلتها، لتصير إلى النقيض تقريباً...‏
وبمجرد حدوث هذا التغير، وصيرورته قناعة، نراها تسمو فوق سنوات عمرها القليلة، لترقى إلى القدرة على التفكير بممارسة التحدي، شأن غيرها من لداتها، ولو على مستوى التخييل... وذلك حين تسرح بخيالها، في حضرة أبيها، بعد خروجه من السجن، وتقول:‏
"بابا، امبارح هرب العسكر مني.‏
سألها باهتمام:‏
-لماذا يا بابا؟‏
أجابت:‏
-لأني كنتُ أحمل حجراً.".(23)
لقد قرّ، في وعي الإنسان الفلسطيني، حتى الطفل الصغير، أن من كان مخيفاً، بالأمس، من الممكن إخافته ودفعه إلى الهرب، حتى بمجرد رفع حجر وتصويبه إليه... وهذا تحوّل نفسي هام جداً... ذلك أن عدم الخوف من العدو، دون مبالغة، أو ابتعادعن الواقع ومعطياته، يؤدي إلى إحداث دفق من الإحساس بأن النصر، على ذلك العدو، بات احتمالاً ممكناً... بتعبير آخر، لم يعد الإسرائيلي يشكل في وعي الإنسان الفلسطيني، صغيراً كان أو كبيراً، عدواً مستحيلاً على الهزيمة، أو مخيفاً، بأي درجة من درجات الخوف... وذاك بعد أن صدعت حجارة أبطال الانتفاضة وهم صورته السوبرمانية) التي صممتها له أجهزة الدعاية الصهيونية، بعد حرب حزيران 1967، وروجت لها، في مختلف أنحاء العالم، فبأكف صغار الوطن المحتل وشبابه، تداعت الكينونة الدعائية للجندي الإسرائيلي، وعاد إلى كينونته الحقيقية.. عاد النمر الورقي المحشو بقش الدعاية الصهيونية والمقوى بصيغ مبالغاتها، بشراً كغيره، يمكن أن يخاف من صغار الأرض التي احتلها، كما من كبارها، وهم يرجمونه بحجارتها، مطالبينه بالرحيل عنها وعنهم..‏
(1) قصة الحاجز)، مصدر سبق ذكره..‏
(2) قصة الحاجز)، مصدر سبق ذكره..‏
(3) قصة الحاجز)، مصدر سبق ذكره..‏
(4) قصة الحاجز)، مصدر سبق ذكره..‏
(5) قصة الحاجز)، مصدر سبق ذكره..‏
(6) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره..‏
(7) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره..‏
(8) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره..‏
(9) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره..‏
(10) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره..‏
* - والمقصود سليم)..‏
(11) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره..‏
(12) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره..‏
(13) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره..‏
(14) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره..‏
(15) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره.‏
(16) قصة وتكون لنا راية)، مصدر سبق ذكره..‏
(17) قصة هنية)، مصدر سبق ذكره.‏
(18) قصة هنية)، مصدر سبق ذكره.‏
(19) قصة هنية)، مصدر سبق ذكره.‏
(20) قصة هنية)، مصدر سبق ذكره.‏
(21) قصة هنية)، مصدر سبق ذكره.‏
(22) قصة لأني أحمل حجراً)، مصدر سبق ذكره.‏
(23) قصة لأني أحمل حجراً)، مصدر سبق ذكره.‏

[/align]

محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس