[align=justify]
بطل الانتفاضة... بطل التغيير..
من المحتمل أن لا تقوض الزلازل القوية جميع ثوابت الأرض التي تضربها، ولكن، ربما يكون من المستبعد أن لا تتعرض هذه الثوابت كلها للإهتزاز، بهذه الدرجة من العنف والقوة أو تلك... وعلى افتراض صوابية تشبيه الثورات الشعبية الكبيرة والشاملة بالزلازل القوية، فإن هذا يعني : تعرض المعايير السائدة، كمسلمات ثابتة في المجتمعات التي تنفجر فيها تلك الثورات، إلى الاهتزاز، كما يعني تغيرّ معظمها، غالباً..
وانطلاقاً من الاعتقاد بأن الانتفاضة، كيف نظرنا إليها، وبأي الوسائل والمقاييس حاولنا تقييمها، تعدّ بين الثورات الشعبية الكبيرة التي ستظل تنبض بها ذاكرة التاريخ البشري، يمكن القول: إن زلزالها قد هزّ الكثير جداً مما كان ينظر إليه، قبلها، كمسلمات ثابتة، في المجتمع الفلسطيني، داخل الوطن المحتل وخارجه، بل حتى في أوساط تجمعّ المستوطنين اليهود أيضاً... كما غيرّ هذا الزلزال العنيف الكثير من تلك المسلمات التي كانت سائدة بوصفها معايير اجتماعية وفكرية وسياسية.. وما شابه، مما لم يكن يظن، إلا قليلون، أن يرقى الشك إلى صوابيتها، لا من بين يديها ولا من خلفها... بل إن قاصاً مثل نبيل عودة، وعلى لسان وليد)/ ثاني الأبطال الرئيسين في قصتهالزمن الجديد)، لا يجد حرجاً أو مبالغة في إطلاق التعميم بأن الانتفاضة قد غيرّت كل ما كان سائداً قبلها من معايير، على مختلف الصعد والمستويات، وفي المجالات كافة... يقول وليد) معمماً: "في هذا الزمن تغيرت كل المعايير..."(1)
ومن مراجعة المتوفر من قصص الانتفاضة، الصادرة داخل الوطن المحتل، يتبين أن بعض مؤلفيها، قد ركزوا، في إضاءتهم لما أحدثته هذه الثورة من تغييرات، على عدد من أبرزها.. وفي مقدمة ما ركزوا عليه منها، التغييرات التي طرأت على منظومة المفاهيم والقناعات الاجتماعية والسياسية القديمة التي ضرب زلزال الانتفاضة نمطيتها السائدة، بعنف شديد، مقوضاً جزءاً مهماً من مسلماتها التقليدية...
وبين أبرز تلك المسلمات التي قوضتها الانتفاضة، على الصعيدين الاجتماعي والسياسي معاً، اشتراط المستوى الطبقي العالي، أي الثراء، إضافة إلى اعتبارات الحسب والنسب، وماشاكلهما، كمؤهلات لمن يسعى إلى الزعامة والجاه والسيادة، سياسياً واجتماعياً، على حد سواء... فقد قوض زلزال الانتفاضة دعائم هذا الاشتراط، بعد أن أثبتت أحداثها مدى خطئه وبطلانه... وذلك حين لاحظ الناس أن من فجرّ الثورة على العدو المحتل، وتصدى لغطرسته، وسعى للحيلولة دون استمرارية الوضع المذل الذي فرضه هذا العدو على أبناء الوطن المحتل، لم يكن من الأثرياء أو من أبنائهم، كما لم يكن سليل حسب ونسب، بل كان، غالباً، من طبقة الفقراء المغمورين... أما أبناء الجاه والغنى الذين كانوا يتسيّدون بالأمس ثوار اليوم، ويتشدقون بالشعارات الكبيرة التي يمارسون نقيضها، في حياتهم الخاصة، ويتاجرون بقضايا الشعب ومصيره، كل هؤلاء لم يبدُ أثرٌ لأحدهم، بعد انفجار الثورة وأثناءها... فقد تواروا عن الأنظار، وصمتوا مبتلعين ألسنتهم، تاركين من استغلوهم لمصيرهم، وكأن لا دخل لهم بما يجري، على ساحة الصراع، بعد انطلاق الانتفاضة، من أحداث دامية ومريعة...
لقد عرض نبيل عودة لهذا النموذج من أبناء الشعب العربي الفلسطيني، في قصته غنية المضمون الزمن الجديد)،(2) وذلك في سياق المنولوج الداخلي الذي رصده في وعي وليد) البطل الثاني للقصة بعد سليم)... يحادث وليد) نفسه متسائلاً، بسخرية مفعمة بالمرارة والغيظ، في آن معاً:
"أين أولاد المرسيدس؟.. أولاد النعيم... أين اختفى المتفلسفون الذين يفهمون في كل الأمور. أصغرها وأكبرها؟ أبسطها وأخطرها؟ حين يتكلمون عن فتيات المدن، تظن أن لهم في كل شارع معشوقة أو أكثر، فتقتلك الغيرة والحسد للنعيم الذي كان من نصيبهم. وحين يتحدثون في السياسة، يجيبون لك رأس ريغين) على طبق من ذهب، يفهمون في حرب بيروت، ويتحاورون ويتصايحون وكأنهم أبطالها وصانعو مجدها. لهم نظريات في الطائرات الشراعية، وتحاليل في الوطنية، وانتقادات بلا نهاية حين يجعصون في المرسيدس، بالكاد يشعرون بالخلق من حولهم.
أين اختفى أولئك العباقرة؟"(3)
ما من جواب على هذا السؤال الاستنكاري النابض بالغيظ، سوى أن أمثال هؤلاء، ومن على شاكلتهم، قد تواروا عن مسرح الأحداث، إثر انطلاقها، وقبعوا في قصورهم ينتظرون مرور العاصفة، وقد أحنوا رؤوسهم لهبوبها الشديد، كي لا تكسر هيكلية تمظهرهم الثوري المزيف، أو تنتزع ورقة التين الدعائية عن عورة مواقفهم، فتكشف حقيقتها... وهم، في حجور انتظارهم، يترقبون تلك اللحظة التي تهدأ فيها حركة الأحداث ونشاطات صانعيها، وتتبلور نتائجها النهائية، ليقفزوا على ما حققه الفقراء بدمهم وتضحياتهم الكثيرة الأخرى، فيدعوه لأنفسهم، كالعادة، ويجيّروه لاسمهم، زوراً وبهتاناً..
وبالطبع، ليس هذا مستغرباً ولا مفاجئاً.. فالانتفاضة، شأنها شأن معظم ثورات شعوب العالم، يخطط لها المفكرون الرياديون، عادة، ويدعون لها، ثم يأتي دور الشرفاء من بسطاء الناس وفقرائهم ليفجروها، مضحين من أجل إيصالها لأهدافها، بالدم والروح، وبالقليل الذي يملكونه من عرض الدنيا... ولكن، ما إن تلوح بشائر النصر، ويحين موسم قطاف النتائج والمنجزات، حتى يقفز الجبناء والمدعون، خارجين من جحورهم التي لبدوا فيها، زمن المعارك ومواجهة الأخطار وبذل التضحيات، ليستولوا على ثمار الثورة، وليتصدروا مواكب انتصارها، وكأنهم هم الذين صنعوا ذلك الانتصار..
لقد أراد نبيل عودة أن يكشف نموذج مُدّعي الثورة هؤلاء، سلفاً، وأن ينبه إلى ما يخططون له، محذراً ومؤكداً في آن معاً، عبر سياق محاولته هذه، أن مخططاتهم ستبوء بالفشل، هذه المرة... وذلك لأن الفلسطيني الذي فتحت الأحداث، وما سبقها من تجارب ومعاناة، وعيه، وأنضجته، لن يسمح للأدعياء بأن يسرقوا منه ثمار ثورته ومنجزاتها..
من جهة أخرى، حاول نبيل عودة، وفي ذات السياق السابق أيضاً، أن يلقي حزمة ضوء على جملة الأسباب والعوامل المستجدة التي غيرت معظم السائد من المعايير القديمة، لتتيح المجال رحباً، أمام شاب فقير ومغمور اجتماعياً، كسليم النجار، مثلاً، أن يغدو زعيماً.. كما حاول أن يبين أيضاً، كيف تجاوزت تلك العوامل بسليم إلى الزعامة، من كانوا الزعماء التقليديين لقريته، مع أنه لا يملك أيّاً من مؤهلاتهم التي تسيّدوا بها القرية، في السابق..
فسليم هذا، وحسب القصة، لا مال ولا حسب ولا نسب... أي في الدرك الأسفل من السلم الاجتماعي/ الطبقي... ومع ذلك، تجاسر على المختار الثري، والقائد التقليدي للقرية، سياسياً واجتماعياً، وتصدى له متحدياً، في ذات الوقت الذي كان فيه وجهاء أهل القرية وكبارها يتصاغرون له ويرجون عونه.. "أصابت اللخمة معظم الحاضرين في ديوان المختار الرحب. عشرات العيون نظرت باستهجان لهذا الشاب المتناسي أصله بأنه شحاذ بن شحاذ، المتناسي مقامه، والمتطاول على عصمة المختار في بيته وبين أهل بلده".(4)
وحسب إيحاءات سياق القصة، فإن مبعث لخمة) الحاضرين واستهجانهم، كان تفاجؤهم برؤية ما ألفوه من معايير يتداعى وتختل منظوماته السائدة، على حين غرة، ودونما توقع... وقد كان من الممكن أن ينقلب الموقف، برمته، ضد سليم وما يمثله، لولا قدرته على الثبات، وعلى الاحتفاظ بهدوئه ورباطة جأشه، في مواجهة المختار، وما ولدته هذه المواجهة من إحساس بالمفاجأة في نفوس أهل القرية.
أما مصدر ثبات سليم، فقد كان، بالدرجة الأولى، ادراكه لأهمية الصراع الذي فتحه المختار وأعوانه، واستشفافه لأهمية النتائج التي سيتمخض عنها انتصاره في هذا الصراع... تلك النتائج التي كان، من أبرزها، تغيير مسار تفكير أهل القرية وموقفهم، إلى الجهة النقيض... فطيلة فترة اشتباكه مع المختار، لم يزايله الإحساس بالأمل في أن ينجح بتفتيح وعي أهل القرية، وبدفعهم إلى الخروج من دائرة العطالة التي تشل إرادة الثورة فيهم، وتجعل رد فعلهم على إهانة كرامتهم معوقاً..
وبعد انتصاره في أولى جولات صراعه مع المختار، وصوناً لهذا الانتصار، عمد سليم إلى انتهاج أسلوب عملي، أوصله في النهاية، إلى الصيرورة زعيماً... وكان قوام هذا الأسلوب وأساسه، هو تأكيد الأقوال بالأفعال، وتجسيد الطروحات النظرية وقائع ملموسة... وهكذا، فبعد أن اطمأن الجميع "لاتزانه وفطنته وصواب رأيه"(5) وبعد أن "بات مرجعاً ومستشاراً في كل الأمور"(6) سلّموا له بالزعامة... وما كادوا يفعلون حتى" فاجأهم ابن الخباز هذا أنه قدها، وأنه لم يضيع وقته في الماضي سدى. فرغم أنه خرج للعمل في سن مبكرة، لمساعدة والده الخباز في إطعام الأفواه الكثيرة، إلا أنه واصل تثقيف نفسه... ربما هو الوحيد الذي كان يسافر للمدينة للبحث عن كتب ومجلات فقط، يقال إنها تملأ خزانة ملابسه وتفيض، ولا يبخل بها على أحد، وماذا كانت النتيجة بعد أن صار "سليم الزعيم غير المتوج للقرية في عهدها الجديد."؟.(7)
في نظر شاهد عيان كوليد، تلميذ سليم وراوي قصة بطولته واستشهاده، قلب سليم عالم القرية... ذلك أنه "أزال الدهن المترسب في عقول الشباب والشيوخ. حرك الأحلام، أحيى الأمنيات، وأوقد جمر الأمل في النفوس. وأهم ما فعله زرع الثقة بالآتي حتى صار من المستحيل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه".(8)
تُرى، أليس واضحاً، من مجمل ما سبق، إلى أي حد تغيرت منظومات المعايير والقناعات والمفاهيم الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة، قبل الانتفاضة، عما آلت إليه بعدها، وبسببها؟ ثم، أليس واضحاً، أيضاً، إلى أي حد كان كبيراً وعظيماً، دور أولئك الأبطال الواعين والمخلصين في إحداث ذلك التغيير الذي دفعوا حيواتهم ثمناً لنجاحه؟
وبعد، فهنا، وقبل المضي في إضاءة متغيرات أخرى هامة صنعها سليم وأمثاله، ثمة ضرورة للتوقف ملياً، والإشارة إلى ملاحظتين على جانب من الأهمية.. الأولى، تتضمن الإيماء إلى ذلك التداخل العضوي بين أسباب حدوث معظم المتغيرات الحاصلة وبين نتائجها، في أكثر من ميدان، وعلى أكثر من صعيد، مما يؤكد صحة توصيف الانتفاضة، بأنها ثورة شعبية متكاملة، شاملة.. أمتد تأثيرها إلى مختلف البنى المجتمعية الفلسطينية، في الوطن المحتل، وإلى الكثير من القناعات والمفاهيم السياسية القديمة... ومن الأمثلة الواضحة على ذلك التداخل، ما نلمسه، في قصة الزمن الجديد)، من تداخل بين المتغيرت الاجتماعية والسياسية، بشكل خاص..
فسليم الثائر الملتزم بمبادئ ثورته، والمخلص لوطنه وشعبه، لم ينجح في تنحية الزعامة التقليدية عن موقعها القيادي، على المستوى الاجتماعي، فقط، بل على المستوى السياسي أيضاً... وذلك حين استطاع إخراجها من دائرة التأثير والفعل، على مختلف المستويات الحياتية، وإصابة دورها، في سائر المجالات بالعطالة التامة... وبالمقابل، نلاحظ أن العوامل التي هيأت لصعود سليم إلى موقع الزعامة الاجتماعية، كانت نفسها التي رشحته لقيادة أبناء قريته سياسياً.. وعلى ضوء هذه الملاحظة، نتبين أنه من المتعذر فصل الحديث عن متغيرات اجتماعية وأخرى سياسية..
الملاحظة الثانية، تتضمن وجوب الانتباه إلى أن سليماً، بمن ترمز إليهم شخصيته القيادية، في القصة، لا يمكن توصيفه كقائد أوزعيم تاريخي..بل هو قائد مرحلة تاريخية متميزة، لا أكثر، تخبئ، في رحمها، زمناً جديداً مغايراً للذي ثار عليه سليم وأمثاله، كما تخبئ، أيضاً، القيادة التاريخية البديلة للقيادة الفلسطينية التقليدية التي نحاها سليم، في القصة، عن موقعها..
وعلى خلفية افتراض صحة هذه الرؤية، فإن المرحلة الراهنة، بكل ما تزخر به من أحداث ومواجهات مصيرية حاسمة، لا تعدو كونها، كما ورد في بداية هذا الفصل، مرحلة المخاض الصعب التي لابد أن تسفر عن زمن جديد بقيادة جديدة... وعلى هذا، فما أشبه دور القيادة الحالية للانتفاضة بدور القابلة... وواضح أن نبيل عودة كان واعياً لهذه الحقيقة، الأمر الذي جعله لا يتردد في ترك بطله سليم يسقط شهيداً، في نهاية القصة... فلو كان يرى فيه رمزاً للقيادة الفلسطينية التاريخية المفترض أن تظفر بعد الانتفاضة وتبقى، لكان من الخطأ موضوعياً، أن يتركه يستشهد... لأن استشهاده يعدّ، عندئد، إشارة مثبطة لمن هم بقيادته من ثوار المرحلة الراهنة...
وبعد، فانطلاقاً من القناعة بأن تغيراً كبيراً قد طرأ على منظومة المعايير والقيم والمفاهيم والقناعات القديمة، على المستويين الاجتماعي والسياسي، وبأن هذا التغير قد أدى إلى تراجع الزعامات التقليدية، عن ساحة الفعل والتأثير، وإلى تضاؤل دورها في شتى المجالات، ربما ليس خطأ التوهم بصيرورة العلاقة بين الجيلين الفلسطيني القديم والجديد، علاقة تداخلية، يذوب في شروطها التفاعلية الخاصة، الجيل القديم في الجديد، ذوباناً تدريجياً... وصحيح أن مثل هذا الذوبان ما يزال جزئياً، لما يكتمل بعد، إلا أن دلائل كثيرة تؤكد قابليته لبلوغ تلك المرحلة... ومثل هذا التوهم، على افتراض صحته، يفسح بدوره، مجالاً للاعتقاد باستحالة احتمال عودة الأوضاع، في الوطن المحتل، إلى ماكانت عليه، قبل انطلاقة الانتفاضة ؛ ليس على هذا الصعيد أو ذاك، وإنما على الصعد والمستويات كافة...
وبين يدي هذه الدراسة قصتان، كلتاهما جعلتا من موضوع ذوبان الجيل القديم في الجيل الجديد، واحداً من محاورها الرئيسة... وهاتان القصتان هما: الملثمون)(9) لجمال بنورة، والرجل الصغير)(10) لناجي ظاهر... وبداية، من الضرورة ملاحظة أن كلتا القصتين قد طرحتا العلاقة بين الجيلين، وماطرأ عليها وعلى منظومة المعايير المتعلقة بها، من تغيير بتأثير الانتفاضة، من منظور مختلف تماماً عن ذاك الذي اعتمده نبيل عودة، في قصة الزمن الجديد)... بتعبير أوضح، لم تطرح القصتان هذه العلاقة ومتغيراتها، كعلاقة صراعية، مشحونة بتوترات الكراهية والضغينة، شأن أي علاقة صراع يجري بين ضدين متخاصمين، بل طرحتاها كعلاقة إيجابية، يحكمها منطق الرغبة الصادقة في التعاون بين أبناء الجيلين، لإيصال الانتفاضة إلى أهدافها... وتغيب، في طيات هذه الرغبة، حكماً، أثرة الأنا الفردية التي تحرك الزعامات التقليدية، في العلاقة الصراعية التي لحظنا مثالاً عليها، في الزمن الجديد).
في الملثمون)، يقدم لنا جمال بنورة صورة للجيل القديم، على نقيض تلك التي رسمها نبيل عودة في الزمن الجديد). فراوي الحدث، في الملثمون)، هو ممن تجاوز بهم قطار العمر محطة الشباب، ومع ذلك، ما يزال ممتلئاً رغبة بالنضال والمشاركة في الثورة، على قدر ما يسمح له الباقي من قواه وطاقاته الجسدية... فقد ساءه أن لا يكون له ولأبناء جيله دور في ما يجري من أحداث تاريخية مصيرية..
ولهذا، راح يسائل نفسه، مستنكراً ومشجعاً في آن معاً. "وأخذت أفكر فعلاً... أليس لنا دور فيما يجري... ألا نستطيع عمل شيء...؟ لماذا لا ننضم إليهم...؟!(11)
ولم يطل به التساؤل والتردد، فقد انخرط، ومعه عدد ممن في عمره الكبير، بمسيرة الشباب..." وجدت نفسي أسير كالمنوم.. كمن وقع في أسر، لا يستطيع منه فكاكاً... وكأن شيئاً أسرني إلى هذه الجموع.. أو كأنني أخشى عليها من أن أتركها.. وقد شارك في المسيرة عدد كبير من كبار السن، لا بد أنهم كانوا يفكرون مثلما كنت أفكر، وقد خجلوا من أنفسهم أن يتركوا المسيرة للشباب فقط.".(12)
يبين استقراء هذا المقطع، أن له ثلاثة أبعاد دلالية. أولها، الايحاء بأن ما أحدثته الانتفاضة، بانطلاقتها واستمراريتها، من تغيير، على مستوى وعي الإنسان الفلسطيني، كان عاملاً مهماً ومؤثراً، في تحقيق شمولية المشاركة بفعالياتها.. وهكذا لم تعد تقتصر المشاركة في صنع أحداث هذه الثورة ونتائجها، على هذا الجيل الفلسطيني أو ذاك، وإنما شارك الجميع فيها، على اختلاف أعمارهم... بل المشاركة صارت تعدّ، بفعل الاستمرارية والشمولية، بين المعايير الأهم التي يراز بها، ومن خلالها، مدى وطنية الفلسطيني، داخل الأرض المحتلة، ومدى إخلاصه، ومصداقية التزامه بمصير أرضه وشعبه...
أما ثاني الأبعاد الدلالية التي يشف عنها مضمون المقطع السابق، فيتثمل بوضع الجيل الفلسطيني القديم أمام ضرورة الكشف عن موقفه تجاه الانتفاضة، وضرورة تحديد هذا الموقف.. فصحيح أنه ليس هو الجيل الذي فجرها ثورة عاتية، لكنه، مع ذلك، مطالب بتأييدها والمشاركة فيها، انطلاقاً من التزامه الوطني والقومي.. فإن رفض، فعليه أن يبين أسباب رفضه. أما أن يقف على الحياد، وسط ضبابية من أي نوع، فذلك مرفوض، لأنه في زمن الثورات الشعبية المصيرية لا توجد أرض حيادية يقف المرء فوقها... ولادراك راوي القصة العجوز لهذه الحقيقة، نراه يخاطب نفسه، في مكان آخر من السياق، فيتساءل: " أليسوا على حق..؟ ألا نؤيدهم فيما يفعلونه؟ وإذا لم يفعلوا هم... فمن الذي سيفعل؟ كان الواجب أن نسير نحن أمامهم.."(13) وعلى سبيل المقارنة، بهدف إضاءة الضد بضده، نلاحظ، بجلاء، أن موقف راوي القصة العجوز،في الملثمون)، هو نقيض موقف المختار)، في قصة الزمن الجديد)... إن كلاً منهما نقيض الآخر، بنفس الدرجة التي يمكن بها توصيف العلاقة بين السلبية والايجابية...
وأما البعد الدلالي الثالث، للمقطع الآنف، فهو متوارٍ بين السطور، وخلف المعاني المباشرة للكلمات.. وعلى هذا، فهو بعد استنتاجي، لا يمكن إدراكه، إلا من خلال المحاكمة الموضوعية، لمجمل مواقف الفلسطينيين، في الوطن المحتل، من الانتفاضة.. ذلك أن موضوعية تلك المحاكمة، لا تسمح للعواطف، من أي نوع، بالشطح الخيالي الذي قد نتوهم، من خلاله، أن جميع فلسطينيي الوطن المحتل، أبطال يندفعون بلا تردد أو خوف، إلى دروب النضال وساحاته... وقد أدرك جمال بنورة ذلك فأشار إليه، بشكل غير مباشر، حين جعل الشيوخ، في المقطع السابق، ينخرطون في مسيرة الشباب، بدافع خجلهم من أنفسهم، ومن بقائهم متفرجين على هامش الفعل الثوري، في حين يرون أبناءهم يضحون بأنفسهم لاستيلاد فجر التحرير المنتظر الذي لن ينعم به أولئك الأبناء وحدهم، بل جميع أفراد الشعب، دون استثناء.. وإذا كان الخجل، بداية، هو دافع مشاركتهم في فعاليات الثورة، فثمة ما يوحي بتردد موقفهم وخوفهم، وبالتالي، احتمال احجامهم عن المشاركة لولا إحساسهم بذاك الخجل... وهذا ما توضحه مقاطع أخرى، في القصة، بعبارات أكثر مباشرة وجلاء.. "وعادت بعض النساء المترددات في خجل إلى صفوف المسيرة.".(14) كان الواجب أن نسير نحن أمامهم.. هل الخوف يمنعنا من ذلك..؟".(15) ولماذا؟ وهل بقي ما أخاف عليه؟... إن هؤلاء الشباب على استعداد أن يضحوا بأعمارهم قبل أن ينفتحوا على الحياة.. ولا أعتقد أنهم يخافون مثلي..!"(16)
وبعد، فمن مجمل ما سبق، وتأسيساً عليه، يمكن القول: إن الملثمون)، كغيرها من قصص الانتفاضة الصادرة في الوطن المحتل، هي قصة واقعية، إلى حد كبير... فهي لا تقدم الفلسطيني لقارئها بطلاً معصوماً، ولا ترسم له شخصية نمطية، محشوة بالمبالغات، بل تحاول ما أمكنها أن تقدمه إنساناً من لحم ودم..، إنساناً طبيعياً... وعلى هذا، فمن البدهي، أن نجد هذا الإنسان يخاف حيناً، ويتردد حيناً آخر... بل من الممكن أن يسقط في حمأة العمالة، واللامبالاة، سقوط المختار وأبناء المرسيدس)، في قصة الزمن الجديد)... والتعليل الوحيد لكل هذا، هو أن الفلسطيني إنسان، بالدرجة الأولى، وأن الخوف والتردد واللامبالاة وما شابه، كلها مما يشعر به الإنسان الطبيعي عادة، أياً كان وأنى كان..
ولكن، إذا كان إحساس الفلسطيني بمشاعر سلبية كهذه، قد يسوغه كونه إنساناً من لحم ودم، وليس سوبرماناً مصطنعاً، فإن استسلامه للإحساس بهذه المشاعر، وعدم محاولته التغلب عليه، هما ما لا مسوغ لهما، على الإطلاق... بل على العكس، يوجب الركون إليهما الشجب والادانة، لأكثر من سبب، وعلى أكثر من صعيد.. ولهذا، وإدراكاً من جمال بنورة لأبعاد هذه التفاعلات الشعورية ولواقعيتها من جهة، ولما يحتمل أن تخلفه تلك الأبعاد من تأثيرات في نفسية قارئه من جهة أخرى، نجده يلتزم بواقعية الإشارة إلى إحساس أبطال قصته بالخوف والتردد وما شاكلهما. لكنه ما يلبث أن يتدارك ما توحيه إشارته هذه من سلبية، بالإشارة إلى تحرر أولئك الأبطال من مشاعرهم السلبية، عبر نجاحهم في التغلب عليها، وقدرتهم على الانتقال إلى نقيضها.. وهذا ما نلمسه في شخصيتي راوي القصة وبطلها الملثم، وفي مواقفهما.. فكلاهما يلمّ به الخوف لبرهة، لكن كليهما يتمكنان من التغلب على إحساسهما به، رغم عدم تغير الظروف المسببة، كما يقدران على التحرر منه والانتقال إلى نقيضه، على نحو ما يتضح من خلال عودة كل منهما لأداء دوره، في مسيرة الثورة، حسب استطاعته التي تسمح بها طاقاته وقدراته..
وعلى خلفية قناعة راوي القصة العجوز، وكذلك الغالبية من أبناء جيله/ ثوار الماضي، بأن طاقات أبنائهم الشباب وقدراتهم على الفعل والاستمرار، هي الأكبر والأقوى، كما أثبتت الوقائع الحدثية وما تزال، في ساحات المواجهة اليومية العنيفة وكما تدل النتائج التي تمخضت عنها تلك الوقائع، فقد تراجع أبناء الجيل القديم، مفسحين الطريق للشباب، كي يحققوا ما لم يقدر آباؤهم على تحقيقه... البعض تراجع مكرهاً ومرغماً، كالمختار، في قصة الزمن الجديد)، والغالبية تراجعوا طوعاً، كما في الملثمون).. تراجعوا عن التشبث بالقيادة، دون مكابرة، أمام إحساسهم الواعي بأن الزمن قد أناخ بثقله على أجسامهم، وجعلهم أقل قدرة على مواجهة الاحتلال، عمّا كانوا عليه وهم شباب... يخاطب راوي القصة نفسه، متسائلاً بنبرة مفعمة بالمرارة والحسرة، وكأنه يعترف مكرهاً، بحقيقة طالما هرب منها وتجاهلها، "أم أن الزمن أناخ علينا بثقله وأصبحنا نشعر بالعجز.. فلا نستطيع أن نرفض الواقع الذي نعيشه، أو نقول لا للاحتلال؟؟".(17)
إن هذا التساؤل المتحسر، ربما يثير في الذهن تساؤلاً موازياً، على درجة من الأهمية، وهو: هل عجز أبناء الجيل الفلسطيني القديم مطلق أم نسبي؟ وهل يمكن لضعف أبدانهم الهرمة أن يكون ذريعة تسوغ لهم، ولو على المستوى النفسي فقط، الاحجام والامتناع عن أي مشاركة، في فعاليات الثورة؟
من الواضح أن جمال بنورة يرفض مطلقية عجز الجيل الفلسطيني القديم، عن أي مشاركة ثورية، ليؤكد قدرة هذا الجيل على العطاء، رغم شيخوخة أبنائه، وخصوصاً حين يتوفر الحافز المثير لتلك القدرة بشخصية أبناء الجيل الشاب وبطولاته، يقول راوي القصة: "بلى.. ما زلنا نستطيع لقد اعاد إلينا هؤلاء الشباب حماسنا القديم..(18)
لكن، ولأن عودة الحماس إلى الشيخ الهرم لا تعني استعادته لقدرات شبابه وقواه، فإن عليه ألا يصر على القيادة، والتحكم بدفة الأحداث واتجاهات مساراتها.. بل تقتضي الحكمة منه أن يسلم تلك الدفة لابنه الأكثر قدرة منه على تحريكها والتحكم فيها، وأن يكتفي هو بتقديم النصح والمشورة... لننعم معاً النظر، في نص الحوارية القصيرة التالية التي أدارها بنورة على ألسنة عدد من الشيوخ، قبيل مشاركتهم في مسيرة الشباب:
"وكنت قد بدأت أمشي مع بعض الرجال على مبعدة من المسيرة.. دون أن يكون في نيتنا أن نشارك في المسيرة.. والتفت إلينا شاب ملثم قائلاً لتشجيعنا:
-وأنتم أيضاً.. ألا تنضمون إلينا؟
-وكأنما وجه إلينا إهانة..
وقال رجل لجاره هامساً:
-أصبح أبناؤنا هم الذين يقودوننا..
أسرّ إليه الآخر قائلاً:
-هم الذين سيحققون لنا النصر... سوف نرى..
-ونحن مادورنا فيمايجري؟؟
-لي ابن بين هؤلاء الملثمين، لم أستطع منعه من المشاركة، لذلك قلبي لا يطاوعني على تركه وحده..!
ثم استدرك:
-إنني أنظر إلى الشباب لكي أتعرف عليه، ولكنني لا أستطيع أن أميز بينهم... لذلك فأنا أعتبر أي ملثم هو ابني..!"(19)
إن نص هذه الحوارية واضح الدلالة على أن القيادة والفعل قد صارا في يد أبناء الجيل الشاب، وأنه لم يعد للجيل القديم سوى التسليم لأبنائه بقياده. "أصبح أبناؤنا هم الذين يقودوننا..."(20) وليس في هذا أي عيب أو خطأ، ما دام أولئك الأبناء "هم الذين سيحققون لنا النصر..".(21) وهذا الاعتراف يعني، ببساطة، أن الجيل القديم، بعقليته ومفاهيمه ومعاييره، وحتى بأحلامه وطموحاته، قد شرع بالذوبان في الجيل الشاب... وبالطبع ليس هذا التصور وهماً أو تخميناً، بل هو حقيقة وواقع، يعترف بهما مذهولاً حتى المراقب الاسرائيلي لمجريات أحداث الانتفاضة.. ففي مقاله جيل الانتفاضة) المنشور في صحيفة عل همشمار) الصادرة بتاريخ 28/2/1988، يعترف الكاتب الاسرائيلي جادي ياتسيف) قائلاً: "... ويرسل الفتيان دائماً إلى المقدمة، وتأتي النساء للدفاع عنهم في الوقت المناسب. ولكن حتى الآن يعترف الجميع بحقيقة أن الأطفال هم الذين يفرضون السلطة والخوف في المناطق".
لكن، مما ينبغي عدم توهمه، بحال، أن تنحي أبناء الجيل القديم عن القيادة يعني تلاشيهم وعطالتهم.. فما زال في جعبتهم ما يستطيعون تقديمه للثورة والثوار الشباب.. ومن ذلك، على سبيل المثال، توفير كل حماية ورعاية ممكنة يحتاجها أولئك الثوار الصغار، في مسيرتهم إلى النصر... وهذا ما فعله راوي القصة، حين آوى إلى بيته الشاب الملثم، ليدرأ عنه خطر الوقوع أسيراً، بقبضة جنود الاحتلال.. يقول الراوي: " نزلت الدرج، أغلقت الباب الخارجي بالمزلاج، وقلت في نفسي لن أفتحه حتى لو كسره الجنود بالقوة".(22)
إن مثل هذا الموقف يحمل دلالة واضحة على مدى التغيير النوعي الذي أحدثته ثورة الانتفاضة، في منظومة العلاقات التي كانت سائدة، قبلها، بين الجيلين الفلسطينيين الشاب والهرم، داخل الوطن المحتل؛ وفي ما يتصل بتلك المنظومة من معايير ومفاهيم، على المستويين الاجتماعي والسياسي، في آن معاً.. فالشاب الملثم لم يعد ذلك الابن الصغير الذي ينصاع لمشيئة أبيه، بل صار رمز بطل التحرير... وعلى هذا، فإن المبادرة إلى حمايته، لم تعد بدوافع أبوية تقليدية فقط، وإنما بدوافع وطنية وقومية أيضاً.. كما لم يعد الخروج عن طاعة الأب، بالنسبة للمشاركة في الانتفاضة، عقوقاً، يستوجب غضب ذلك الأب ومقاطعته لابنه، بل صار تعبيراً عن استقلالية القرار وصحته، وصار واجب الأب توفير الحماية لابنه الذي خرج إلى المواجهة على غير إرادة أبيه: "لي ابن بين هؤلاء الملثمين، لم أستطع منعه من المشاركة، لذلك قلبي لا يطاوعني على تركه وحده..!.(23)
وعلى حين تحاول قصة الملثمون) عرض العلاقة بين الجيلين القديم والشاب، كعلاقة تعاون، يحتفظ فيها كل طرف بخصوصياته المميزة، تحاول قصة الرجل الصغير(24) لناجي ظاهر، عرض هذه العلاقة، كعلاقة تفاعلية، توحي بذوبان خصوصيات الجيل القديم، ودخولها ممتزجة بخصوصيات الجيل الشاب. الأمر الذي ينتج عنه تركيب جديد، يضم إلى الجديد خير ما في القديم..
وللوهلة الأولى، قد يبدو من المستبعد أن يوحي مضمون القصة، بمثل هذا التصور.. بيد أن استقراء متأنياً وتحليلياً، للدلالات الرمزية المتضمنة، في عنوان القصة الرجل الصغير)، وفي خاتمتها، على الأقل، ثم تحليل الايحاءات والإشارات التي ترسلها بنية العنوان والخاتمة، يمكن أن يوصلا -أي الاستقراء والتحليل- إلى الاعتقاد بأن ذلك التصور، يعد بين أبرز ما هدف المؤلف إلى إيصاله لقارئ قصته..
فالرجل الصغير، بطل القصة الرئيس، ليس صغير السن، في الواقع، لكنه صغير في كينونته الخاصة، وفي ما يمثله وما يقوم به من أفعال، حين يُقارن بما يمثله ويفعله ابنه الصغير سناً الذي لم يتجاوز السابعة من عمره -ذلك أن هذا الابن، شأن من يرمز إليهم من أبناء جيله، استطاع احتواء ما تمحورت / حوله/ حياة أبيه، وهو المولع بالكلام الذي يرمز إليه استغراق هذا الأب في الحديث عن الشعر والشعراء، كما استطاع، في ذات الوقت، أن يتجاوز مراوحة أبيه، اللامجدية، على أرض الكلمات، منطلقاً إلى ساحة الفعل، ليجسد ما حلم به أبوه حقائق ملموسة على أرض الواقع، حين خرج إلى ساحة المواجهة متحدياً، يحمل حجراً... وبذلك، استطاع هذا الصغير، وجيله، إدخال الكلمة في طقس الفعل المجدي، وهو تحول نوعي بالغ الأهمية..
"وعاد الغريب- يقصد الأب- يقول:
-ابني في السابعة من عمره. جاءني قبل أيام وقال، إن الشعراء ينبوع العطاء، هكذا الشعراء، يذهبون وتبقى الكلمة. الشعراء يجب إكرامهم.".(25)
ولم يدعه جلاسه يسترسل في استغراقة شعرية جديدة، بل عاجله "أحد الشباب من المقعد إلى جانبه، وقال:
-هل يعرف ابنك قذف الحجارة؟
-لا تخف.
وضحك الجميع.".(26)
نعم، فجلاسه الشباب، على الرغم من اهتمامهم بالشعر، والحديث عنه، وهو ما جذب الغريب إلى طاولتهم، ليس هو كل همهم، بل بعضه، أما همهم الحقيقي واهتمامهم الأكبر، فبالفعل المتولد عن الكلمة، الأمر الذي دفع أحدهم إلى الاستفهام عن فعل الصغير، وليس عن ولعه، بالكلمات، الذي ورثه عن ابيه.. فقد انقضى زمن الكلمة، كمحور وحيد للاهتمام، وصارت لاقيمة لها إن لم تتجسد فعلاً... لأنها مهما عظمت، تظل دون الفعل، غير قادرة على تغيير الواقع، والعكس ليس صحيحاً.. وربما لهذا، لم يجد الرجل الغريب الموصوف، في القصة، بالغريب، إلا أن يعترف واصفاً جلاسه الشباب وجيلهم، بالقول: "هؤلاء الشباب الذين يغيرون الدنيا ويحتجون على ما لا يرضيهم في كل مكان وزمان.".(27)
ويبدو أن هذا الاعتراف التوصيفي لجيل الشباب الفلسطيني، كان أحد مرتكزات مؤلف القصة للايحاء بما تضمنته خاتمتها من إرهاص ينبئ عن بدء ذوبان شخصية الجيل القديم وخصوصياتها، في شخصية الجيل الشاب، كما ينبئ عن احتمال تجاوز الجيل الثاني لجيل آبائه، قولاً وفعلاً..
وبعد، فثمة سؤال، ربما يراود الذهن هنا، وهو: كيف تمكن ناجي ظاهر من صياغة رغبته في الايحاء بذوبان القديم في الجديد، فنياً؟
قد يكون ضرورياً، قبل محاولة الاجابة عن هذا السؤال، إلقاء نظرة متمعنة على البناء الفني لخاتمة القصة، وعلى مضمونها أيضاً. فبعد أن أنهى بطل القصة حديثه مع جلاسه الشباب الذين تعرف عليهم، في المقهى، بالعودة كرة أخرى إلى الكلام عن الشعر والشعراء، نهض ليغادرهم مودعاً...، ولحظة نهض عن مكانه، بدا في ملابسه الرثة الممزقة كبيراً... وحينما رافقوه بنظراتهم وهو يبتعد عنهم في الشارع المحاذي للمقهى، ظل يصغر ويصغر حتى أصبح في حجم ابنه الصغير..".(28)
من الواضح أن قراءة نص الخاتمة الوارد آنفاً، ممكنة على مستويين.. فعلى المستوى الظاهري المباشر لا تعني كلمات النص أكثر من كونها وسيلة كتابية لتصوير فوتوغرافي متحرك يرصد ظاهرة طبيعية معروفة، هي ظاهرة العلاقة البصرية بين حجم الشيء وابتعاده عن مكان الناظر إليه... فمن المعروف أن أي شيء يقع عليه البصر، من موجودات جامدة أو حية، يتضاءل حجمه كلما ابتعد، والعكس صحيح..
لكن، وعلى مستوى قراءة آخر، يمكن الزعم أن نص الخاتمة السابق، فيه عدد من الدلالات الرمزية التي تشف عن مدلولاتها، بسهولة، حين نربط ذلك النص بالسياق العام للقصة..
فبطل القصة الغريب، رمز الجيل القديم المولع بالكلام أكثر من الفعل، قد آل وجيله إلى تلك الحالة البائسة التي ترمز إليها ملابسه الرثة الممزقة... لكن بؤسه، كما يبدو، لم يثر اهتمام جلاسه الشباب، وهو قريب منهم، يأسرهم بحلاوة حديثة عن الشعر والشعراء... ولهذا، لم ينصرفوا إلى محاولة تبين حقيقته إلا حين تحرروا من سحره الكلامي، بعد أن تركهم وابتعد منصرفاً... فقد كان ابتعاد شخصه عنهم، إيذاناً ببدء تضاؤل تأثير حديثه عن الشعر والشعراء... وقد ظل هذا التأثير يتضاءل، أكثر فأكثر، حتى لم يبق منه، في نفوسهم، سوى ما قاله عن ابنه الصغير الذي يقذف جنود الاحتلال بالحجارة... وقد ظل الرجل الغريب الذي كان كبيراً، بحضوره المادي وتأثيره، يتضاءل، شخصاً وتأثيراً، كلما ابتعد، حتى صار في حجم ابنه الصغير، شخصاً فقط... وفي لحظة اكتمال هذه الصيرورة، في نظر الشباب، تراءى لهم أن الأب قد تداخل، متماهياً، في ابنه، ليصيرا، في النهاية، كلاً واحداً منسجماً، تشكيلاً جديداً ذا شخصية جديدة، هي شخصية أبيه المولع بالشعر والشعراء... الطفل الرجل، أو الرجل الصغير...
موضوعياً، ربما من الصعب الاعتراض على من يعن له أن يتهم قراءة الخاتمة، على النحو السابق، بأنها قراءة تُحمّل النص القصصي، وبناءه الفني، الكثير مما ليس فيه... وعلى افتراض ثبوت صحة اعتراض كهذا، يكون التماس المسوغ للقراءة الثانية، بالنسبة لنص الخاتمة، في التذرع بأنها مجرد قراءة خاصة، لا تزعم أنها القراءة الوحيدة الممكنة لهذا النص. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، قد تجد هذه القراءة مسوغاً آخر لما قالته، في كونها محاولة تسعى، من خلال مضمون النص القصصي وتركيبته الفنية، لاضاءة جانب من رؤية مؤلف القصة، بوصفه واحداً من الطليعة الفلسطينية المثقفة، لمبلغ ما صار إليه حجم النتائج الناجمة عن المتغيرات التي أحدثتها الانتفاضة، على المستويين الاجتماعي والسياسي، في الساحة الفلسطينية... وهي رؤية، يمكن التكهن بأن صاحبها قد حاول أن يتجاوز، بها ومن خلالها، الحدود الراهنة لما أشار إليه، في قصته، من متغيرات أنجزتها الانتفاضة، أو لما يعتقد أنها قد أنجزته، كي يرهص بإمكانية اكتمال صيرورة تلك المتغيرات، مستقبلاً، بدائل كاملة لما قوضته، وحلت محله، من معطيات الواقع الفلسطيني ومفاهيمه التي كانت سائدة، قبل انطلاقة الانتفاضة..
وبعد، فلا شك أن الحديث السابق عن بعض ما أنجزه بطل الانتفاضة، من متغيرات، على صعد مختلفة، يؤكد أن هذا البطل ليس فردياً، في أي موقع رصدناه، وربما هذا واحد من أهم أسرار قدرته على الصمود أمام التحديات الصعبة التي واجهته، وما تزال، ومن أهم عوامل استمرار هذه القدرة فاعلة ومؤثرة، باضطراد، إلى الآن...
صحيح من الممكن أن نرى، في وجهه، وأن نتلمس، ملامح مميزة، لجيل فلسطيني متفرد، في خصوصيته، شخصية وفعلاً، هو جيل الأطفال والشبان الصغار، وملامح أخرى تدل على أنوثة غاضبة ثائرة ومتحدية، ترسم نوعية خاصة وأخاذة، لنمط جديد من المرأة الفلسطينية.. لكن، وعلى الرغم من احتواء ذاك الوجه على ملامح مميزة لهذا الجيل وذلك الجنس، فإن اجتماع الملامح العديدة، في وجه بطل الانتفاضة، على ذاك النحو من التآلف والانسجام، يخلف في النفس انطباعاً قوياً، بأن هذا البطل، في أكثر توصيفاته دقة وموضوعية، هو الشعب الفلسطيني، في الوطن المحتل -الشعب كله، بأجياله المتعددة، وبجنسيه: الذكر والأنثى... هو الكل في واحد، والواحد الذي تبدو على صفحته النقية وجوه الكل..
ولأنه كذلك، استطاع أن يصمد وأن يستمر، إلى الآن... ولأنه كذلك، لقي من العالم تعاطفاً أكبر مع تطلعاته وأهدافه... ولأنه كذلك، من المؤكد أنه سينتصر يوماً، لأن قهر الشعوب، إذا اتحد أفرادها، ضرب من المستحيل. وقد اعترف بعض الاسرائيليين، بهذه الحقيقة، بعدما أعيته الحيلة والوسيلة، للقضاء على الانتفاضة... على ثورة الشعب ضد جلاّديه..
(1) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره..
(2) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره.
(3) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره.
(4) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره.
(5) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره.
(6) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره.
(7) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره.
(8) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره.
(9) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(10) قصى الرجل الصغير)، مصدر سبق ذكره.
(11) قصة الرجل الصغير)، مصدر سبق ذكره.
(12) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(13) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(14) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(15) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(16) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(17) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(18) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(19) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(20) قصة الملثمون، مصدر سبق ذكره.
(21) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(22) قصة الملثمون)، مصدر سبق ذكره.
(23) قصة الملثمون، مصدر سبق ذكره.
(24) قصة الرجل الصغير)، مصدر سبق ذكره.
(25) قصة الرجل الصغير)، مصدر سبق ذكره.
(26) قصة الرجل الصغير)، مصدر سبق ذكره.
(27) قصة الرجل الصغير)، مصدر سبق ذكره.
(28) قصة الرجل الصغير)، مصدر سبق ذكره.
[/align]