[align=justify]
من دم الشهيد... سيبزغ فجر الوطن الحر..
تناولت قصص الانتفاضة موضوع الشهادة، من عدة جوانب، يتكامل مجموعها ليرسم، للشهادة والشهيد، صورة غنية بأبعادها: الإنسانية والقومية والوطنية... أما البعد الرابع لهذه الصورة، فيتمثل -إذا صح التصور- برغبة مؤلفي تلك القصص، في تثوير قارئهم، وخصوصاً الفلسطيني داخل الوطن المحتل، وتحفيزه للمشاركة في الفعل الثوري، إن كان ما يزال متردداً بعد... وذلك على خلفية تفاؤلهم بإمكانية اقناعه أن الموت من أجل حرية الأهل والوطن ومستقبلهما، لا يلغي سوى الوجود المادي لمن يقضي من أجلهما، أما وجوده المعنوي المتجسد في فعله، فيخلد حياً في ذاكرة أبناء شعبه وضميرهم ووجدانهم، على مر الأجيال... وفيما يلي بقعة ضوء، ربما تنجح في الكشف عن بعض جوانب صورة الشهادة وأبعادها ومعانيها، في أربع من القصص التي اهتم مؤلفوها بهذا الموضوع..
في قصته حوار مع النورسي)(1) يحاول مؤلفها سمير رنتيسي التأكيد لقارئه، بأن ثمة رابطة عضوية وثيقة بين التزام الثائر بأهداف ثورته وغاياتها، وبين إحساسه بعدم التهيب من مواجهة الموت، حتى لو أدت هذه المواجهة إلى استشهاده، وهو يسعى إلى تحقيق تلك الأهداف والغايات... وبهذا التأكيد، يرمي رنتيسي إلى اقناع قارئه بأن استشهاد الفلسطيني دفاعاً عن شعبه ووطنه، وثمناً لحريته وحريتهما، ليس موتاً مجانياً ذليلاً، بل هو موت موظف يسعى إلى تحقيق غايات سامية، تعد أكبر من الحياة التي كانت، قبل الثورة، وأثمن... حياة احتمال غطرسة الاحتلال، وإذلالاته اليومية وممارساته.. وما هي تلك الغايات التي يعد بلوغها أثمن من الحياة؟
تؤكد أجوبة الصغير عماد، بطل القصة، أن أبرز تلك الغايات وأهمها، اثنتان: تحرير الأرض من غاصبها، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، يعيش العرب الفلسطينيون في كنفها، وتحميهم أسوارها من معاناة الاحتلال واضطهاده المتنوع الأشكال والأساليب، من العيش فريسة الخوف والقلق والفقر...
وبهذا، يحاول رنتيسي أن يربط، في وعي قارئه ووجدانه، بين امكانية تحقيق هاتين الغايتين، وهما الحلم الذي عاشه الفلسطيني، وما يزال، منذ أن احتلت أرض وطنه، وبين الشهادة بوصفها الثمن الباهظ الذي لا بد من دفعه، أولاً، لتحويل هذا الحلم واقعاً..
ولا شك أن رنتيسي كان موفقاً إلى حد كبير، حين اختار لابلاغ قارئه تركيبة هذه المعادلة الصعبة وفحواها، شخصية طفل صغير من أطفال الحجارة.. ذلك أن هذا الاختيار، منحه القدرة على استثمار عفوية الطفل في التعبير عن أفكاره وقناعاته ومواقفه، دون تزويق، ودون صيغ أيديولوجية، قد يتحسس البعض منها، ليحقق -أي المؤلف- قدراً كبيراً من التأثير في وعي قارئه ووجدانه..
لنتأمل صياغة هذه المعادلة: الشهادة =الوطن الحر+ الدولة المستقلة)، في سياق الحوارية القصيرة التالية، بين بطل القصة الصغير عماد، وبين محدثه الذي تسمح كلماته بالظن أنه ربما يكون إسرائيلي الهوية، لأنها كلمات ظاهرها التحذير الأبوي الحنون، وباطنها محاولة التثبيط وإخماد الثورة في النفس، عن طريق التخويف. يقول المحدّث، محذراً عماد ومثبطاً: "إذا بتظل تضرب حجارة يا عماد... بجوز يوماً ما جندي يطخك بجوز تموت.. عمرك فكرت إنك بجوز تموت؟..(2)
وبالطبع لم يأبه عماد لهذا التحذير المريب المشكوك في دوافعه واهدافه، فلم تلن قناته، ولا ثبطت عزيمته، أو انثنت إرادته عن الاستمرار في المشاركة بفعاليات الثورة... ذلك أن تجربة مشاركته بهذه الفعاليات، قد أنضجت وعيه، إلى تلك الدرجة التي جعلته يرد على محدثه مجيباً عن سؤال عمرك فكرت إنك بجوز تموت؟" قائلاً: "آه... وليش لأ... ؟ أنا بحب أموت.. شايف الصور على الحيطة... كلهم استشهدوا.. كلهم... ليش أنا لأ.. ليش ما استشهد؟ مش مهم كثير.. إن بستشهد.. بس بصير مع الشهداء.. وبصير عندنا وطن... وكمان دولة.".(3)
هكذا، وبهذا التعبير الطفولي البسيط والعميق، في آن معاً، يقول رنتيسي لقارئ قصته أن الشهادة هي طريق وصول الشعب، أي شعب، إلى غاياته الأكبر والأسمى، وليست طريقاً لتحقيق حلم فردي، تتلاشى احتمالات نقله إلى الواقع، حالما يموت صاحبه.. ولهذا، وعلى خلفية القناعة بصحة هذه المقولة التعريفية لفعل الشهادة وأبعاده، لا يبدو مهماً في نظر الثائر الحق أن يشهد صيرورة حلمه واقعاً بعينيه، لأنه على يقين من رؤية تلك الصيرورة بعيون أهله ورفاق دربه الذين سيتابعون النضال بعده... وربما مثل هذا اليقين هو ما يجعله يستهين بالموت، ولا يهاب مواجهته..
والحقيقة أن خلود الثائر الحق، بعد استشهاده، في ضمير من يليه من أهله ورفاقه، ليس جديداً، بل هو قديم... قديم قدم المعركة الأزلية التي وجد الإنسان نفسه يخوضها، على ظهر الأرض، ضد قوى الظلم والشر، بشرية كانت هذه القوى، أم كانت خرافية، كما هي في بعض أساطيره الغابرة.. ومصدر هذا الخلود بالدرجة الأولى، تقدير الناس لمن ضحى بحياته من أجل أن يعيشوا حياتهم، بعده، أحراراً كراماً ومطمئنين..
وبالطبع، لا توجد وسيلة لتخليد ثائراً استشهد، أعظم من التزام رسالته، ومن متابعة درب نضاله الساعي إلى تحقيق أهداف هذه الرسالة التي قضى قبل أن يراها وهي تتحقق فعلاً.. وهذا ما كثف نبيل عودة الإشارة إليه، في خاتمة قصته الزمن الجديد)... وذلك في صيغة النداء الحار الذي وجهه وليد لأهل قريته، عقب تيقنه من استشهاد رفيق دربه وزعيمه سليم فقد راح وليد يجوب أزقة القرية مؤكداً: " سليم لم يمت.. سليم معنا للأبد... سليم يقول لكم لا تصدقوا أنه يموت... سليم يقول لكم اصمدوا، واحموا كل البلد... سليم يحبكم وينتظر أن يسمع أخباركم المشرفة... سليم معكم في كل مكان.. سليم يوصيكم أن تدفنوه في تراب وطنه المحرر... سليم لا يموت. سليم لا يموت.. لا يموت.. لا يموت..".(4)
لعل من الواضح أن مضمون هذا النداء الذي ختم به نبيل عودة قصته، يشف بما حواه من دلالات رمزية عن الشرط الذي لا بد منه لاستمرار الشهيد حياً.. وهذا الشرط هو التزام من يليه برسالته التي استشهد وهو يسعى إلى إيصالها لأهدافها، إن لم تكن قد وصلتها بعد، أو الالتزام بالحفاظ على ما وصل إليه الشهيد من تلك الأهداف، والعمل على بلوغ الباقي منها... فبهذا الالتزام أولاً، يكون إكرام الشهيد، وبه وحده يتمكن أي ثائر من عبور حدود الفانية إلى رحابة الخلود الأبدي..
وربما، وانطلاقاً من هذه الإعتبارات التي يؤكد جميعها أن الشهيد حي خالد، يدرك الفناء جسده، ويبقى عاجزاً عن المساس بفعله وآثاره، استقر في روع الناس ووجدانهم، أن من الخطأ استقبال خبر الشهادة أو جثمان الشهيد، بذات طقوس الحزن والحداد والتفجع التي يستقبلون بها خبر الموت العادي وجثمان الميت العادي... فقد درج معظم الناس، وخصوصاً في الإطار المجتمعي للفلسطينيين، داخل الوطن المحتل وخارجه، على عدم البكاء والعويل والندب، لدى سقوط أحدهم شهيداً.. إذ كيف يُبكى ويندب من استطاع اختراق الفناء، وصار خالداً؟ أليس الأجدر أن يستقبل خبر معجزة كهذه، وكذلك جثمان صانعها، بالزغاريد؟
بلى.. ولهذا، وبذات الطقوس التي يقوم بها الناس حين يزفون عريساً منهم إلى عروسه، يستقبلون جثمان شهيدهم ويشيعونه... وهذه المقاربة بين العريس والشهيد، ليست مجرد تعال على صراخ الألم وتباريحه، أو مكابرة على أوجاع الفراق وجراح الثكل واليتم، بل هي تعبير رمزي، عن وعي جماعي عميق، يربط بعلاقة وثيقة بين الشهادة والحرية والخير والسلام... إن هذه المقاربة تعبير عن اعتقاد شعبي راسخ بأن الشهادة هي إعلان عن الخلاص القادم وبشرى تؤكد قرب صيرورته واقعاً... هذا الخلاص الذي ضحى الثائرون بأرواحهم من أجل أن يعيشه أهلهم وشعبهم وأرض وطنهم... وثمة بعد ثالث لهذه المقاربة بين الشهيد والعريس، تتمثل في وعي الناس، بعلاقة وثيقة أخرى بين الشهيد وأرض وطنه.. فالأرض في المعتقدات والمفاهيم العربية الأصيلة هي عرض المرء وعنوان شرفه.. ومن لا يضحي من أجل عرضه إذا اغتصب..؟ ومع التطور الدلالي لهذه العلاقة الرمزية، صارت الأرض هي الحبيبة، وصار الشهيد هو عريسها الذي افتدى حريتها وخلاصها بدمه لنتأمل هذا المقطع الصغير من قصة الزمن الجديد):
".. فجأة تنطلق زغردة من سماعة الجامع:
-عريسكم حسن استشهد يا شباب..
عشرات الزغاريد في كومبارس غريب الأطوار... تصفيق رتيب وغناء للعريس من قلب الجامع. هل هي القيامة؟ هل اختار الله هذه اللحظات لقيام الساعة؟
-مبروك يا أم الشهيد.
وزغاريد.. وغناء.. وزغاريد.."(5)
إنها صورة مثيرة للدهشة والإعجاب، في آن معاً. صورة تثير القشعريرة في بدن القارئ انفعالاً وتأثراً.. ومصدر الإثارة فيها، لا يكمن، فقط، في كونها نقيض الصورة المألوفة لاستقبال خبر الموت العادي، في المجتمع العربي، بل في كونها، أيضاً مؤشراً قوي الدلالة على إمكانية استمرار عرب الوطن المحتل في ثورتهم، حتى تحقق القسط الأكبر من أهدافها، إن حالت الظروف التآمرية القاسية دون تحققها كلها.. ذلك أن شعباً له مثل هذه القدرة على العطاء اللامحدود، من البدهي أن تزداد امكانيات استمرار ثورته ونجاحها، كلما ازداد عدد ضحاياه وشهدائه..
وإذا كانت التضحية بالروح والدم، تعدّ ذروة الالتزام بالدفاع عن حقوق الأهل والوطن وحريتهما، وذروة التعبير العملي عمّا يكنه المضحي لكليهما من حب عميق، لا حدود له، فكيف ترانا نقرأ ونحلل تضحية الأم بأبنائها، وهم فلذات كبدها، من أجل حرية وطنها وشعبها؟ هذا ما حاول الإجابة عنه محمد نفاع، في قصته المؤثرة هنية)..
ففي هذه القصة، تطالعنا بطلتها هنية)، وجهاً متميزاً للأم الفلسطينية، في الزمن الصعب، وأسلوباً متميزاً، أيضاً، في الممارسة النضالية للمرأة الفلسطينية.. فهي، وبكل المعايير المعروفة، أم غير عادية... وإلا كيف استطاعت أن تتلقى خبر استشهاد ولديها الكبيرين صادق وحسان)، كما لو أنها تلقت خبر زفافهما..؟ لنتأمل حركية المشهد الدرامي المؤثر، في هذه الصورة النابضة بضروب شتى من الانفعالات والاحاسيس الإنسانية:
"وعلى أكتاف الناس لاح صادق كبيراً عالياً.
زغردت هنية لابنها القادم المرفوع على الأكتاف، جاء يلقي نظرة أخيرة على البيت الذي كبر، واتسع بفضله لكل أهل البلد..".(6)
إنها صورة، ظاهرها يرسم مشهداً لاستقبال أم زُفّ ابنها، وجاء إلى البيت الذي ربي فيه ليودعه منطلقاً إلى بيت الزوجية الجديد.. كما يرسم مشهد احتفال عرائسي مفرح.. لكن سياق القصة، يقلب ذلك الفرح إلى نقيضه، وهو يؤكد أن ذاك الاستقبال وتلك الزغاريد كانت لجثمان شهيد..
وما تكاد تلك الأم الرائعة تصحو من خبر استشهاد صادق) حتى يأتيها خبر استشهاد أخيه حسان)... وبدلاً من أن تنكفئ على نفسها متهالكة تنتحب وتندب فاجعتها بابنيها، تفاجئنا ثانية، وهي تدفع آخر أولادها الثلاثة وأصغرهم فارس) إلى ساحة المواجهة، ممسكة بيده، والناس من ورائهما، والعسكر من أمامهما، وهي تصرخ بصغيرها محمسة: "قدّم يا ولد!! اركض.".(7) ويركض منفلتاً من يدها، ليبدأ جولته مع العسكر، على إيقاعات صوت أمه التي ما زالت تزيد حماسه اشتعالاً: "اضرب يا ولد، كما ضرب أخوتك.. اضرب فأنت لست أفضل منهم.."(8) ويظل فارس يضرب مطرباً أمه بصوت حجارته وهي تقع على آليات المحتلين، "ما أحلى اصطدام حجارته على الآليات والعسكر؟!"(9) حتى يلحق شهيداً بأخويه... وللمرة الثالثة، تفاجئنا تلك الأم المذهلة، حين ترفع أصابعها راسمة شارة النصر، وهي ترى صغيرها يقع شهيداً أمام عينيها..!! ترى كيف استطاعت كل هذا، وهي أم...؟ كيف، والمعروف أن الأمومة هي أقوى العواطف البشرية، على الاطلاق؟
نعم.. إن هنية أم.. أم ككل الأمهات، في هذه الدنيا، تحب أولادها، وتخاف عليهم حتى من نسمة عابرة... ولكن، ولأنها تحبهم وتخاف عليهم إلى هذا الحد، ترفض أن تستمر حياتهم ذلاً وهواناً.. ترفض أن تراهم في وضع الموت أرحم منه وأشرف... ولأنها ترفض هذه الكينونة لهم ولغيرهم من أبناء شعبها، دفعتهم إلى المواجهة... فإن ظلوا أحياء، أكملوا حياتهم أحراراً لا عبيداً، وإن استشهدوا ظلوا أحياء أيضاً في ضمير الناس ووجدانهم، إلى الأبد..
ولعل مما يؤكد مبلغ قوة عاطفة الأمومة وعمقها، في نفس هنية، مضمون المقطع التالي من قصتها.. هذا المقطع الذي يمكن توصيفه، فنياً، وإستناداً إلى طبيعة لغته الحكائية، بأنه مناجاة داخلية متوترة بالانفعال الشديد، تتردد بين جنبات نفس كبيرة مقبلة صاحبتها على تضحية جسيمة أخرى.. إنه مناجاة على الرغم من أنه خطابي النبرة..
" تذكرن معي أيّها الأمهات، الأولاد في هذا الجيل. ولد ورضع، وتنفس، حبا ونطق، وتشيطن..
تذكرن قبلاتهم وضحكاتهم، وبكاءهم، وكيف تتنامى أجسامهم يوماً بعد يوم، كيف يأكلون ويوسخون ملابسهم ويرفسون عنهم الغطاء، ويجمعون شتى التحف والألعاب، ويخطون الأحرف على الدفاتر عندهم كتب وحقائب، ولهم ملابسهم الخاصة المميزة، ورائحتهم، لكل واحد عالمه،..."(10)
إنها كلمات أم حنون تفيض حباً لأولادها وتعلقاً بهم إلى أبعد الحدود.. بل يكاد يتراءى للقارئ أن هنية أكثر تعلقاً بأولادها وخوفاً عليهم مما هو حال غالبية الأمهات، عادة.. لكنها، مع ذلك، وفي ظرف معين، نراها تستقبل جثماني ابنيها الأول والثاني بالزغاريد، وتستقبل استشهاد الثالث تحت بصرها، بشارة النصر..!! فأي تعليل لهذه المعادلة التي يوحي ظاهرها بتناقض طرفيها؟
فنياً، من الممكن الزعم أن هنية، بطلة القصة، تتجاوز كينونتها كأم عادية، لتصير رمزاً متعدد الأبعاد، أراد المؤلف أن يرسم به، ومن خلاله، صورة إنسانية مثالية للأم الفلسطينية، حين تجبرها الظروف الصعبة على الاختيار بين أمرين أحلاهما مرّ. الاختيار بين خلاص وطنها وشعبها وفدائهما بالولد، وبين الولد نفسه الذي حملت به وربته والذي هو أغلى من روحها.. ولكم هي مثالية فعلاً حين تختار، ودون تردد حرية الوطن والشعب وخلاصهما..
إن هنية قد غدت، بهذا الاختيار، رمزاً لروح الشعب الفلسطيني، وأماً لجميع أبنائه... وهذا ما ألمحت إليه القصة بإشارة سريعة عابرة، وضعها المؤلف على لسان شخصية ممن توافدوا على بيت هنية إثر شيوع خبر استشهاد بكرها صادق، إذ ناداها صاحب الشخصية بالقول: " أمنا هنية.."(11) إذن، هنية، تمثل في بعدها الرمزي الأول، شعب فلسطين، عاشق الحرية الذي لا يبخل في سبيل الحصول عليها، حتى بالولد، يقدمه قرباناً على مذبح ولادة فجر جديد، لااحتلال فيه ولا ذل ولا اضطهاد..
هذا هو البعد الأول، أما البعد الثاني. فيشير بوضوح إلى أن هنية هي رمز الأرض الفلسطينية التي عافت استمرارية معاناة خضوعها وخضوع أبنائها لذل الاحتلال وغطرسته، سنين طويلة... ولذا، ما إن استشعرت في أبنائها الذين كبروا القدرة على تحريرها وتحرير أنفسهم، حتى دفعتهم دون تردد إلى ساحة المواجهة المصيرية مع من ظلموها وظلموهم..
ويبقى البعد الثالث الذي يقدم هنية رمزاً لمرحلة أكثر تطوراً ونضجاً في وعي الإنسان الفلسطيني، لطبيعة قضيته ولأبعادها ومستقبلها.. كما تبدو هنية، في هذا البعد، أيضاً، رمزاً دالاً على اهتداء ذلك الإنسان، إلى مفاتيح الحل الصحيح لمشكلته المزمنة المستعصية، ولمعاناته المريرة الصعبة... الحل المشرف الذي يتطلب تحقيقه التضحية بالولد والنفس والمال، وبكل غال وثمين، من أجل حرية الوطن وكرامة الشعب، وليس العكس...
ولا شك أن إدراك القارئ لهذه الأبعاد التي تتميز بها شخصية هنية، ولما توحي به دلالاتها الرمزية المتعددة، يفضي، تلقائياً، إلى العثور على ما يعلل دفعها لأولادها الثلاثة إلى الشهادة، على الرغم من حبها الأمومي البالغ لهم، ومن تعلقها الشديد بهم...
لكن، قد يكون من الجدير بالإشارة هنا، أن الأبعاد الرمزية السابقة لهذه الشخصية، لا تلغي، بحال، بعدها الواقعي.. أي ذلك البعد الذي يؤكد أنها ليست أماً متخيلة، وإنما هي واحدة من كثيرات جداً نستطيع العثور عليهن، داخل الوطن المحتل وخارجه.. بتعبير آخر، إن مثالية هنية، في التضحية والعطاء، لا ينحصر وجودها الفعلي فوق سطور القصة التي تحمل اسمها، فحسب... فمن يعود إلى وقائع الانتفاضة، وأرشيف أحداثها اليومية، لا بد أن يصل إلى القناعة بوجود تطابق كبير بين ملامح أبطالها وبين ملامح أبطال القصص التي استوحت تلك الوقائع والأحداث..
وبعد، ثمة جانب آخر للشهادة، أشار إليه نبيل عودة في قصته الحاجز) وهذا الجانب، يبرز القدرة الكبيرة لفعل الشهادة، في تغيير قيم الواقع.. كما يبرز لوناً معروفاً من ألوان إكرام الناس لذكرى شهدائهم، ومن ألوان تقديرهم لفعل أولئك الشهداء ونضالهم... يقول عودة على لسان بطل قصته الطبيب أحمد..
".. والشهداء يكرّمون بشتى الوسائل، فأسماؤهم تطلق على الخلق الجديد، والأزقة قد تسمى بأسمائهم، ومواقع تسمى بأسمائهم، عالم كامل ولد ويولد عبر الصمود. قيم جديدة تصارع العفونة المترسبة، تصارع الضياع، تصارع من يدفع ثمناً للقيم البشرية.".(12)
واضح أن الربط بين إطلاق أسماء الشهداء على المواليد الجدد وعلى شوراع ومواقع، وبين التغييرات الكثيرة الهامة التي أحدثها أبطال الانتفاضة بنضالهم، إنما هو ربط دلالي يشير إلى أن إطلاق الأسماء هو جزء من محاولة تغيير رموز واقع ما قبل الانتفاضة وثوابته، برموز جديدة، وليس محاولة إكرام الشهداء فقط... فأسماء هؤلاء الشهداء قد تحولت في وعي الشعب ووجدانه إلى رموز قوية الدلالة على فترة ناصعة من فترات صموده، وعلى منظومة جديدة من القيم والمفاهيم والأفكار هي نقيض منظومة العفونة) السابقة.
(1) قصة حوار مع النورسي)، مصدر سبق ذكره.
(2) قصة حوار مع النورسي)، مصدر سبق ذكره.
(3) قصة حوار مع النورسي)، مصدر سبق ذكره.
(4) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره.
(5) قصة الزمن الجديد)، مصدر سبق ذكره.
(6) قصة هنية)، مصدر سبق ذكره.
(7) قصة هنية)، مصدر سبق ذكره.
(8) قصة هنية)، مصدر سبق ذكره.
(9) قصة هنية)، مصدر سبق ذكره.
(10) قصة هنية)، مصدر سبق ذكره.
(11) قصة هنية)، مصدر سبق ذكره.
(12) قصة الحاجز)، مصدر سبق ذكره.
[/align]